الجمعة، 29 نوفمبر 2019

إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض


الجمعة 29 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٥
(إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض)

تحت عنوان "حين داهمني الموت، ما الذي حدث؟" كتبتْ تقول: في يومٍ من الأيام، وأنا على سجادة الصلاة، والكسل يغلبني وضعتُ رأسي بوضعية السجود مُلقيةً بثقلي على الأرض، بقيتُ على ذلك وقتًا ليس بالقصير. هممتُ بالوقوف للصلاة مستعيذةً بالله من الكسل، فلما وقفتُ ودخلتُ في الصلاة، فجأةً، أظلمت الدنيا في عينيّ فأصبحتُ لا أرى إلا سوادًا قاتمًا مُخيفًا، وتملكني إحساسٌ بأن الدماء تتدفق إلى رأسي ساخنةً وهي تفور، وأني أكاد أسقط على الأرض من ثقل رأسي. أيقنتُ لحظتها أنه الموت لا مناص منه، فطار قلبي رُعبًا وخوفًا من تلك النهاية. لم أتذكر من القرآن الكريم كله إلا قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ولكأن لساني يصرخ بها لكني لا أستطيع الصراخ، ولا أقوى على إخراج أي صوت. بدأتْ الآن إذن سكرات الموت. وجدتني أكلم نفسي وأقول: "يا ربِ كنتُ في صلاةٍ، لكن لم أخشع فيها، ليتني علمتُ أنها آخر صلاةٍ لكنتُ خشعتُ خشوعًا لم أخشعه في حياتي من قبل؛ كيف لا وهي صلاة مودع!". ثم تذكرتُ أعمالاً صالحةً كنتُ أنوي عملها لكني كنت دائماً أؤجلها لأعذارٍ واهيةٍ؛ فأردتُ أن أصرخ قائلةً: "ربِ أنظرني لأفعل كذا وكذا؛ فأنا لم أتوقع أن الموت سيفاجئني وأنا أصلي، ولم أستعد بأي شيءٍ فقد كنتُ أؤجل، وطول الأمل يَغُرُّني ويُغْريني، أنا في صلاةٍ الآن، لكني يا ربِ لم أفرح لأن الموت أتاني الآن وأنا أصلي، رغم أني كنتُ أتمنى هذه الميتة وأدعوك أن تحققها لي، لكن لما أتى الجد علمتُ أني كنتُ أُمَنّي نفسي بالعمل الصالح ولا أعمله. وصلاتي هذه أستحي منك ربي أن تقبضني عليها، فإني بلغتُ من التقصير في حقك يا رب مبلغًا، أنت سبحانك أعلم به مني، فاعفُ عني يا الله!". حانت ساعة الفراق، ما الذي سينفعني الآن؟ أحسستُ وقتها أني غادرتُ الحياة الدنيا وانتقلتُ إلى حياة البرزخ. كل الأماني رحلت حين وافتني المنية، ولم يبقَ سوى ما أخلصتُ فيه النية. الآن يُعرف المؤمن الحق من المنافق، ويرى كل عبدٍ مقعده من الجنة أو النار. قلتُ لنفسي معاتبةً: "كنتِ يا نفسي تظنين أنكِ من عباد الله الأخيار الصالحين، ولعب الشيطان بفكرك حتى صوّرك بأبهى وأطهر صورة. الآن ذهب كل شيءٍ، ولم يبقَ إلا العمل الصالح والخوف من الله. فماذا استفدتِ يا نفسُ الآن؟! صندوق عملك يكاد يطير خفّةً فلا شيء يُثقله! الآن لحظة نزع روحك، لقد انتهى وقت الاختبار". كل هذه الأفكار دارت في ذهني للحظاتٍ، ثم زالت بعدها الظلمة من عينيّ، وبدأتُ أرى شيئًا فشيئًا، زالت العتمة؛ لكأن الله سبحانه وتعالى يقول لي: "سنمهلك لنرى ماذا ستعملين!".

أحبتي في الله .. قرأتُ هذه القصة على أحد مواقع الإنترنت فاقشعر بدني. وضعتُ نفسي - للحظاتٍ - مكان كاتبة القصة؛ فعلمتُ كم أنا مقصر، وعلمتُ أن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض) ونعمةٌ عظيمةٌ لا يشعر بقيمتها إلا المقصرون من أمثالي.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾، وفي كلتا الآيتين يكون الإمهال للكافرين والمكذبين.

ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ"]، والإمهال هنا للظالمين.
يقول تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾؛ كأن الله سبحانه وتعالى يقول: عمرناكم في الأرض عمراً مديداً، وأمهلناكم زمناً طويلاً، فماذا فعلتم فيه؟
يقول المفسرون في معنى هذه الآية: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ، وتاب من تاب، وجاءكم من الله منذرٌ ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكروا مواعظ الله، ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.

يقول أهل العلم إن الله يُنعم على الناس بكثيرٍ من النعم، لكن الإنعام ليس دليلَ محبَّة الله سبحانه وتعالى؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لَم يَحجب الرزق عن الكفَّار لكفرهم، أو الفجار لفجورهم، فإنَّه يعطي الدنيا مَن يحبُّ ومَن لا يحبُّ، ولا يعطي الدِّين إلاَّ لِمَن أحبَّ، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه؛ فالمؤمن يُجازى بالذنوب، والكافر والمنافق والفاسق يُستدرَج بالنِّعم؛ يقول تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، فيسبغ الله عليهم النِّعمَ، وينسيهم الشُّكرَ، وكم من مُستدرَجٍ بالإحسان إليه، وكم من مَفتونٍ بالثناء عليه، وكم من مَغرورٍ بالستر عليه؛ يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ]، ثم تلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾. إنه عطاءُ إمهالٍ وإملاءٍ واستدراجٍ، لا عطاءَ محبَّةٍ كما يظنُّ البعض؛ قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ  . أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. هكذا موقف الفُسَّاق والكفَّار، عطاءٌ وإمهالٌ واستدراجٌ؛ كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إنَّ الله ليُملي للظالِم، حتى إذا أخَذه لَم يُفْلته]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. يظن البعض أنَّ ما يُعايشه من سلامٍ وأمانٍ، مع كثرة ذنوبه وإصراره على الضلال، حبًّا وقَبولاً من الله، والحقُّ أنه إملاءٌ وإمهالٌ؛ يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِير﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.



السؤال: هل الإمهال هو للكافرين والمكذبين والظالمين فقط؟ فإذا لم نكن من هؤلاء، وكنا مقصرين ندعو الله أن يعطينا فرصةً للتوبة، أو مؤمنين نسأله سبحانه أن يُسهل لنا أداء المزيد من العبادات والمزيد من أعمال الخير والبر، فهل في إمهال الله لنا فرصةٌ لتحقيق ذلك؟
يرى جمهور العلماء أنه من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الإملاء يمتد ليشمل جميع خلقه: فهو فرصةٌ لإسلام غير المسلمين، وهو فرصةٌ لتوبة المسلمين المقصرين الغافلين المُسَوِّفين، كما أنه فرصةٌ للمؤمنين الأتقياء الصالحين للاستزادة من أعمال الخير والبر. إنه منحةٌ إذن لكل البشر؛ وصدق من قال إن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض).

يقول أهل العلم إن عمر الإنسان في هذه الحياة هو فرصةٌ له لمزيدٍ من العمل الصالح، فإذا استغل ما بقي له من أنفاسٍ وساعاتٍ وأيامٍ وشهور وسنين فيما يقربه إلى الله ازداد رصيده؛ فالزمن يمضي وينقضي، وهو رأس مال الإنسان في هذه الحياة الفانية، فالسعيد من اغتنمه في الطاعات، وشغله في إرضاء رب الأرض والسموات، والشقي من ضيَّعه في المنكرات، وأهدره في المعاصي والمحرمات. وعندما سُئل رَسُولُ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: [مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ]، وفي الحديثِ حثٌّ على التَّزوُّدِ مِن الطَّاعاتِ كلَّما زاد العُمرُ، وفيه أنَّ الزِّيادةَ في عُمرِ المُحسِنِ علامةُ خيرٍ، والزِّيادةَ في عُمرِ المسيءِ علامةُ شرٍّ؛ فعلى ذلك ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره في طاعةٍ، من أجل أن يكون من خير الناس.

وأتفكر في أحوالنا، وفي إمهال الله عزَّ وجلَّ لنا: يُمهلنا بأن يعطينا مع كل يومٍ جديدٍ ساعاتٍ إضافيةً عسى أن يتوب المسيء منا، وعسى أن يستثمرها المؤمن في مزيدٍ من العبادة وأعمال الخير والبر. يُمهلنا مع كل رزقٍ جديدٍ ليرى هل نكون من الشاكرين فيزيدنا من فضله؟ أم من الغافلين عن شكره فنستحق الحرمان أو التقتير أو إمساك الرزق؟ ثم ليعلم سبحانه ماذا نحن فاعلون برزقه، أننفقه في حلالٍ أم في حرام؟ أنخرج زكاته؟ أنتصدق ببعضه على لفقراء والمساكين؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بصحةٍ وعافيةٍ لم يُنعم بمثلها على غيرنا، فينظر أنستخدمها في الخير أم الشر؟ أنستعملها فيما يُرضيه أم فيما يُغضبه ويُسخطه؟ يُمهلنا مع كل مصيبةٍ من مصائب الدنيا لينظر أنصبر فننال ثواب الصابرين؟ أم نجزع ونسخط فنكون من الخاسرين؟ يُمهلنا بأن يُعطينا جاهاً ونفوذاً فينظر أنتكبر ونتعالى على خلقه؟ أم نكون من المتواضعين؟ يُمهلنا بأن يُعطينا سيادةً وقيادةً فينظر هل منعنا الظلم؟ هل أقمنا العدل؟ هل مكَّنا لتطبيق شرعه الحنيف الذي ارتضى لنا؟ هل نصرنا المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بنعمة العلم فينظر أنتباهى به؟ أيكون سبباً في كِبرنا وغرورنا؟ أنخفيه عن الناس؟ أنتاجر به من أجل دنيا فانية، أم نجعله في خدمة البشر؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بنعمة العقل فينظر هل نسخره فيما ينفع أم فيما يضر؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بمواهب خاصةٍ قلّ أن يتمتع بها غيرنا فينظر كيف نستخدمها؛ هل في شيءٍ مفيدٍ أم في أمور ليس من ورائها إلا ضياع الوقت والجهد والمال؟
هكذا تتوالى نعم الله علينا، وفي كلٍ منها إمهالٌ واختبارٌ وابتلاءٌ، فهل نحن على بصيرةٍ من ذلك أم في غفلةٍ لاهون؟ إن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض).

أحبتي .. أنصح نفسي وإياكم بما نصح به أحد العارفين حين قال: إن كنتَ ممن وُّفقتَ للخيرات، فاشكر الله على الفضل الكبير، واحمده على الخير الكثير، وسله سبحانه الإخلاص والثبات حتى الممات، وإن كنتَ من أهل التقصير والتفريط، وضاع وقتك فيما لا ينفع، فبادر بالتوبة قبل فوات الأوان، فأبوابها ولله الحمد مفتوحةٌ للتائبين، واغتنم ما بقي من حياتك في طاعة ربك وإرضاء خالقك، واعلم أن الذين أضاعوا أعمارهم في غير طاعةٍ باءوا بالخسران المبين؛ يقول تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ . وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
اللهم اجعلنا من الذين يعقلون، الذين يعلمون أن الدار الآخرة خيرٌ؛ فيعملون لها. اللهم لا تُمهلنا إلا لنفيق من غفلتنا، ونتدارك تقصيرنا، ونثوب إلى رشدنا، ونتوب توبةً نصوحاً، ونقلع عن سوء أفعالنا، لنقلل من أوزارنا، ونكثر من حسناتنا، ونزيد من خيرات أعمالنا وأقوالنا، حتى إذا جاءتنا الساعة بغتةً، وهي آتيةٌ لا ريبَ فيها، لا نكون من الخاسرين.

http://bit.ly/2rBGy4h