الجمعة، 30 أكتوبر 2020

نعمة الاختلاف

 

الجمعة ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /263

(نعمة الاختلاف)

 

تقول صاحبة القصة: أنا مهندسةٌ أعمل في مكانٍ مرموق، تقدم للزواج مني زميلٌ من زملائي، ولأني شخصيةٌ عقلانيةٌ ولستُ عاطفيةً فقد بحثتُ مع أمي ظروفه فوجدناه ميسور الحال، والداه محترمان، فتم الزواج. أغرقني بمشاعره التي لم أعرف كيف أستقبلها؛ أنا شخصيةٌ عقلانيةٌ ومنهجيةٌ، أما هو فشخصٌ عاطفيٌ جداً لدرجة البكاء أحياناً. أنجبتُ «رقية» فكانت شبيهةً بوالدها؛ كلاهما عاطفيان يُحبان الأحضان والحركة، ومتكلمان ويتحركان دوماً! وكنتُ أكره ذلك. ثم أنجبتُ «ريهام» كأنها نسخةٌ مني، مثلي تماماً؛ عقلانيةٌ تتحدث بحساب، أشعر معها بالارتياح. أعترف صراحةً أني كرهتُ من داخلي شخصية «رقية»، لكن ظل عندي أملٌ في أن تتغير وتتحول إلى شخصيةٍ هادئةٍ مع كثرة انتقادي لها، لكن ما حدث هو أنها بقيت حركيةً، لم نتفق على شيءٍ، كنتُ أكره ذلك! كنتُ دوماً أقارن بين «ريهام» العاقلة المتزنة، وبين «رقية» العاطفية العشوائية، أو بالأحرى بين رزانة «ريهام» وتهور «رقية». زوجي كان يميل أكثر إلى «رقية»، وكان يصفني بالجفاف العاطفي. لاحظتُ مع تقدم البنات بالعمر ميل «رقية» إلى أبيها وتباعدها عني وكرهها لانتقاداتي، أما «ريهام» فقد كانت قريبةً مني، مريحةً وعاقلة.

فجأةً! مات زوجي في حادثٍ مروري، وكانت «رقية» بالصف الثالث الإعدادي و«ريهام» بالصف السادس الابتدائي، رحيله كان صعباً، تذكرتُ معاملتي له بجفاء، وشعرتُ بحرقةٍ في قلبي. وفي حين كان حزن «ريهام» هادئاً، فإن «رقية» قد انهارت تماماً، وصارت مندفعةً ومتهورةً، تتصرف بلا ضابطٍ ولا رابط، أصبحت في انعزالٍ دائم، تتباعد عني وعن أختها، أصرخ في وجهها وتصرخ في وجهي! هددتني يوماً أن تترك البيت، واتهمتني بأني لا أحبها، وبالفعل تركت البيت!

بحثتُ عنها كالمجنونة، إلى أن كلمني والد صديقتها وأخبرني بوجودها مع ابنته وزوجته، بكيتُ بحرقةٍ، ربما أكثر من يوم وفاة زوجي! ما الذي يُنفِّر هذه البنت مني؟ أنا محددةٌ حازمةٌ صارمةٌ، لكني لستُ طويلة اللسان، ولا أضربها إلا نادراً، وهي مثلها مثل أبيها؛ نفس العاطفة المفرطة التي لا أحبها. طلب والد صديقتها أن يراني ويتحدث معي، هو طبيبٌ نفسيٌ، قال لي إن «رقية» في حاجةٍ إلى أحضاني، وأنها تفتقدني، وتشعر بكراهيتي لها، وتفضيلي لأختها «ريهام» عليها. قلتُ له: "طبيعي؛ لأن «ريهام» أعقل"، قال لي جملةً عجيبةً: "«رقية» مختلفةٌ عنك، أحبي اختلافها، أولادنا ليس من الضروري أن يشبهوننا! الحياة تحتاج إلى الجميع، نظرة «رقية» إلى نفسها مشوهةٌ، وتقول إنك لا تحبينها"، شعرتُ بالضيق الشديد، قلتُ للطبيب: "أحبها واللهِ لكن ..."، قاطعني قائلاً: "ابنتك مختلفة الطباع عنك؛ هذا ليس عيباً فيها". لم أقتنع، وعادت فأعطيتها محاضرةً طويلةً في الأدب، وبكت كثيراً. لاحظتُ بعدها أنها أصبحت أكثر انعزالاً؛ ساكتةً دوماً، تعيش مع ذكريات أبيها. «ريهام» العاقلة الهادئة مريحةٌ وتفهمني. أفكر دائماً؛ ما فائدة هؤلاء العاطفيين؟ إنهم عبءٌ على العقلانيين!

مضت حياتنا في صراعٍ، إلى أن أصبحتُ وحدي؛ فقد تزوجت «رقية» من شخصٍ عاطفيٍ مثلها يقول لي دوماً: "يا ماما" و"أنتِ مثل أمي". حمدتُ الله أنها ذهبت من البيت. أما «ريهام» فقد تزوجت من دكتور بالجامعة.

بعد فترةٍ فاجأني مرضٌ خبيث. ردود «ريهام» العقلانية "اهدأي"، "تجلدي".

أما «رقية» فتبكي من أجلي، وتدعو الله لي كثيراً. عندي موعدٌ مع الطبيب؛ «رقية» تحمل ابنها الرضيع، وتكون عندي بسيارة زوجها قبل الموعد. أما «ريهام» فتعتذر لأنها تعاني من تعب الحمل، كما أنها لا تستطيع ترك ابنها وحده! أول مرةٍ بحياتي، وأنا مريضةٌ أعرف أن العواطف لها قيمة! حُضن «رقية» يُهوِّن عليّ آلامي، رغم أني لم أكن أحبه أبداً! أشعر -وأنا في الخمسين- أني طفلة! زوج «رقية» يقول لي من قلبه: "سلامتك يا ماما". كيف كرهتُ العواطف والعاطفية؟

«ريهام» حزينةٌ، لكن دعمها بحساب، تماماً مثل شخصيتها، أما «رقية» وزوجها فقد كان دعمهما لي وعطفهما بلا حساب!

بكيتُ من قلبي، وتذكرتُ سابق حياتي؛ احتضنتُ «رقية»، كم هو جميلٌ حضنها، بكت وبكيت.

هل في العمر متسعٌ لأستمتع بما لم أكن أفهمه وفهمته الآن؟ أم أن الأجل قد دنا؟ دعوتُ الله من قلبي: "يا ربِ اشفني، وامنحني العمر كي أسعد بابنتي المختلفة عني". وبالفعل استجاب الله لدعائي وشفاني والحمد لله رب العالمين. أنا و«رقية» الآن لا نفترق؛ أشعر أني قد اكتشفتُ كنزاً! كلامها يؤنسني وحضنها يهدئني. أنا و«رقية» نحيا أسعد أيامنا.

لا تكرهوا اختلاف أولادكم، بل أحبوا اختلافهم، وتقربوا منهم. لا تشوهوا نظرتهم إلى أنفسهم بسبب أنهم لا يشبهونكم. يقول تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾.

 

أحبتي في الله .. إنها (نعمة الاختلاف) تلك النعمة التي يغفل عنها كثيرٌ من البشر؛ وُلدوا وعاشوا وكبروا وهم يرون التنوع والاختلاف في كل شيءٍ حولهم: في البشر والدواب والأنعام والطيور والأسماك والزروع والثمار والمعادن والأجواء، وفي كل شيءٍ حتى في ألوان الجبال، ولأن هذا الاختلاف موجودٌ في كل مخلوقات الله، صار مألوفاً لديهم فلم يعودوا يُحسون بأنه آيةٌ من آيات الله، ونعمةٌ منه سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، والقائل: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾.

ماذا لو لم يُنعم علينا المولى سبحانه وتعالى بهذه النعمة (نعمة الاختلاف) ونعمة التعددية؟

هل يمكن أن نتخيل كيف تكون حياتنا لو كان هناك نوعٌ واحدٌ فقط من الخضار أو الفاكهة؟ أو لو أنها كانت كلها بلونٍ واحدٍ فقط؟ هل يمكن أن نتخيل حديقةً جميلةً ليس بها إلا نوعٌ واحدٌ من الزهور، وبلونٍ واحدٍ؟ هذه بالطبع مجرد أمثلة، ولو أردنا أن نعدد أشكال (نعمة الاختلاف) ما استطعنا، وهي نعمةٌ واحدةٌ فقط من كثيرٍ من نعم الله الكثيرة التي تغمرنا، سبحانك ربنا وأنت القائل: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾، تعاليت ربنا وأنت القائل: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

 

وإن كان التنوع هو سُنةٌ من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإنه أوضح ما يكون في البشر؛ كيف يمكن تصور شكل الحياة في هذه الدنيا إن كان كل من بها ذكورٌ فقط أو إناثٌ فقط؟ وكيف ستكون لو أن البشر جميعهم خُلقوا على هيئةٍ واحدةٍ وشكلٍ واحدٍ لغتهم واحدةٌ ولونهم واحدٌ وطولهم واحدٌ وفهمهم واحدٌ، وميولهم واحدةٌ؟ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾، ويبين سبحانه وتعالى وجهاً من وجوه حكمة الاختلاف والتنوع بقوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾.

وتمتد (نعمة الاختلاف) بين الناس لتطال العقل والفهم والحكمة؛ ليكون التنوع مصدر قوةٍ للأمم إذا أُحسنت إدارته، ويكون سبباً في ضعفها إذا أساءت إدارته، ويكون وبالاً على الجميع إذا حاربته، بأية حجةٍ كانت، فتحرم نفسها من (نعمة الاختلاف) فيكون مصيرها كمصير قوم فرعون حين قال لهم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ فصدقوه وأيدوه وأعانوه وأطاعوه؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ وكان مصيرهم في الدنيا ﴿ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ أما مصيرهم في البرزخ وفي الآخرة فكان ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾، فهذا الذي قال لا أريكم إلا ما أرى ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾.

إنها سُنة الله تجري على الأمم والأقوام والأُسر والأفراد؛ إذا هم قبلوا بالتنوع والاختلاف في الآراء والأفكار وأحسنوا إدارة الاختلاف سعدوا، أما إذا ساروا كالقطيع وراء من يقول لهم ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، فكبتوا الرأي الآخر، وأقصوا أصحابه وآذوهم وضيقوا عليهم، شقوا جميعاً وضعفت شوكتهم؛ فعدم التفاعل مع الرأي الآخر يصيب أصحاب نظرية الرأي الواحد بالجمود والتحجر.


ومن الاختلاف -كما يقول العلماء- ما يكون مذموماً كالخلاف الناتج عن الغرور والكبْر والعُجب، أو الخلاف الذي يكون سببه طلب المحافظة على الزعامة والجاه، والخلاف الناتج عن سوء الظنّ بين المختلفين واتّهام بعضهم البعض بالباطل، أو ما يكون بسبب قلّة العلم، أو بسبب تغليب الأهواء الشخصية على المصالح العامة.

 

أحبتي .. لنتقبل الفروق الفردية بين أبنائنا، ولنعلم أن الله سبحانه وتعالى و﴿هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ و﴿هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قد خلقنا مختلفين وأنعم على كلٍ منا بمواهب وقدراتٍ وميولٍ غير التي أنعم بها على غيرنا؛ ليُكمِّل كلٌ منا الآخر. وفي أُسرنا علينا أن نشجع أبناءنا على إبداء آرائهم بحُريةٍ، والتعبير عن أفكارهم بصراحةٍ، ونزيد من مساحة الحوار والتواصل والتفاعل الإيجابي فيما بيننا، ولنعلم أنه ليس معنى أن يكون أحدنا على صوابٍ أن يكون الآخر على خطأ؛ فربما يكون الاثنان على صوابٍ، كلٌ من وجهة نظره. وليكن شعارنا "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". علينا ألا نخلط بين الرأي أو السلوك وبين صاحبه، من حقنا أن نرفض رأياً أو سلوكاً، لكن ليس من الحكمة أن نرفض صاحبه ونُشعره بعدم حبنا له أو كُرهنا لشخصه.

وفقنا الله وإياكم لشكر (نعمة الاختلاف) بإدارة التفرد بين أبنائنا بصبرٍ وذكاءٍ لتحقيق مراد الله في خلقنا مختلفين.

https://cutt.ly/HgUlrUE