الجمعة، 16 يوليو 2021

عواقب التسرع

خاطرة الجمعة /300


الجمعة 16 يوليو 2021م

(عواقب التسرع)

 

تقول إحدى المعلمات: دربتُ مجموعةً من الأطفال في نهاية العام الدراسي لأداء نشيدٍ أمام أمهاتهن في تلك الحفلة. وبعد بروفاتٍ عديدةٍ ومتقنةٍ، جاء حفل الافتتاح والتخرج، وبدأ النشيد، غير أن ما عكر ذلك الاستعراض الجميل، هو أن إحدى الطفلات، تركت الإنشاد مع زميلاتها، وأخذت تحرك يديها وجسمها وأصابعها وملامح وجهها بطريقةٍ هي أشبه ما تكون بالكاريكاتيرية، إلى درجة أنها كادت تُربك الفتيات الأخريات بحركاتها الغريبة المستهجنة. ‏حاولتُ أن أنهرها وأنبهها للانضباط دون جدوى، إلى درجة أنني من شدة الغضب كدتُ أن أسحبها عنوةً من على خشبة المسرح، غير أنني كلما اقتربتُ منها، راوغتني كالزئبق، وتمادت في حركاتها التي لفتت أنظار الجميع، وأخذت تتعالى ضحكات وقهقهات الأمهات الحاضرات المندهشات مما يحصل. ووقعتُ عيناي على المديرة التي سال عرق وجهها من شدة الخجل، وتركت مقعدها واتجهت نحوي وهي تقول: "لا بد أن نفصل ونطرد تلك الطفلة المشاغبة من المدرسة"، فشجعتها على ذلك. غير أن ما لفت نظرنا أن أم تلك الطفلة كانت طوال الوقت واقفةً تُصفق لابنتها بحرارةٍ، وكأنها تحثها على الاستمرار بعبثها غير المفهوم. وما إن انتهى النشيد حتى اندفعتُ إلى خشبة المسرح وجذبتُ هذه الطفلة من ذراعها بكل قوةٍ وسألتها: "لماذا لم تُنشدي مع زميلاتك بدلاً من أن تقومي بتلك الحركات الغبية"؟! فقالت: "لأن أمي كانت موجودةً"، فتعجبت من ردها ذاك، ولكنني صُدمت عندما قالت لي بكل براءةٍ: "إن أمي لا تسمع ولا تتكلم، وأردتُ أن أقوم بالترجمة لها على طريقة الصُم البُكم؛ لكي تعرف كلمات النشيد الجميلة، وأريدها أن تفرح كذلك مثل بقية الأمهات". ما إن سمعتُ تبريرها حتى انهرتُ وحضنتُها وبكيتُ رغماً عني، وعندما عرف الجميع السبب تحولت القاعة بكاملها إلى بكاء. ولكن أحلى ما في الموضوع أن المديرة بدلاً من أن تفصلها كرمتها، ومنحتها لقب: الطفلة المثالية، وخرجت مع أمها مرفوعة الرأس وهي تقفز على قدميها من فرط السعادة!

 

أحبتي في الله .. التسرع في الحكم على الآخرين أو التسرع في الحكم على تصرفاتهم وسلوكهم لا يوصل الإنسان عادةً إلى استنتاجٍ صحيحٍ، ومن ثمّ إلى رد فعلٍ طبيعيٍ ومنطقيٍ، بل قد يصل به إلى ما لا تُحمد عقباه، وغالباً ما يجد الإنسان نفسه محرجاً ونادماً وشاعراً بالأسى والأسف، وهذا كله من (عواقب التسرع).

وهذا موقفٌ حدث في صباح أحد الأيام في قطار الأنفاق بمدينة «نيويورك»، يقول راوي الموقف: كان الركاب جالسين في سكينةٍ؛ بعضهم يقرأ الصحف، وبعضهم مستغرقٌ بالتفكير، وآخرون في حالة استرخاء. كان الجو ساكناً مفعماً بالهدوء! فجأةً، صعد رجلٌ بصحبة أطفاله الذين سرعان ما ملأ ضجيجهم وهرجهم عربة القطار. جلس الرجل إلى جانبي وأغلق عينيه متغافلاً عن الموقف كله؛ كان الأطفال يتبادلون الصياح ويتقاذفون بالأشياء، بل ويجذبون الصحف من الركاب. كان الأمر مثيراً للإزعاج، ورغم ذلك استمر الرجل في جلسته إلى جواري دون أن يحرك ساكناً! لم أكن أصدق أن يكون على هذا القدر من التبلد والسماح لأبنائه بالركض هكذا دون أن يفعل شيئاً. بعد أن نفد صبري التفتُ إلى الرجل قائلاً: "إن أطفالك يا سيدي يسببون إزعاجاً للكثير من الناس، وإني لأعجب من كونك لم تفعل شيئاً لكبح جماحهم، إنك عديم الإحساس"، فتح الرجل عينيه -كما لو كان يعي الموقف للمرة الأولى- وقال بلطفٍ: "نعم إنك على حقٍ، يبدو أنه يتعين عليّ أن أفعل شيئاً إزاء هذا الأمر، لقد قدِمنا لتوِّنا من المستشفى حيث لفظت والدتهم أنفاسها الأخيرة منذ ساعةٍ واحدةٍ، إنني عاجزٌ عن التفكير، ولا أعلم كيف أقول لهم هذا الخبر، فكلما رأيتهم يلعبون ويمرحون يعجز لساني عن الكلام، وأظن أنهم لا يدرون كيف يواجهون الموقف أيضاً"!!

يقول راوي الموقف: تخيلوا شعوري آنئذٍ، فجأةً امتلأ قلبي بآلام الرجل، وتدفقت مشاعر التعاطف والتراحم دون قيودٍ، وقلتُ له: "هل ماتت زوجتك للتو؟ إنني آسفٌ، هل يمكنني المساعدة"؟ لقد تغير كل شيءٍ في لحظةٍ، وشعرتُ بالإحراج من نفسي ومن تسرعي بحكمي على ذلك الرجل واتهامه بعدم الإحساس.

 

وهذا موقفٌ آخر يوضح بجلاء أن (عواقب التسرع) وخيمةٌ؛ إذ لاحظ مدير مصنعٍ خلال تجواله في المصنع شاباً يستند إلى الحائط ولا يقوم بأي عملٍ؛ اقترب منه وقال له بهدوءٍ: "كم راتبك"؟ كان الشاب هادئاً ومتفاجئاً بالسؤال لكنه أجاب: "500$ تقريباً شهرياً يا سيدي، لماذا"؟ دون أن يتكلم أخرج المدير محفظته وسحب منها 500$ نقداً أعطاها للشاب -بمثابة إنهاء لخدمته- وقال له: "أنا أدفع للناس هنا ليعملوا وليس للوقوف دون عملٍ. والآن هذا راتبك الشهري مقدماً، أُخرج ولا تعد"! أخذ الشاب المبلغ وهو مندهشٌ واستدار وخرج مسرعاً. نظر المدير إلى باقي العمال وقال بنبرة تهديد: "هذا ينطبق على الجميع في هذا المصنع؛ من لا يعمل نُنهي عقده مباشرةً". اقترب المدير من أحد العمال الموجودين وسأله: "مَن هو الشاب الذي قمتُ بطرده"؟ فجاءه الرد المفاجئ: "إنه رجل توصيل البيتزا يا سيدي، ولا يعمل هنا"!

 

أما ما أثَّر فيّ وجعل دموعي تتساقط من عينيّ رغماً عني فهي هذه القصة التي تُروى عن (عواقب التسرع)؛ فقد كان أبٌ يلمع سيارته الجديدة الأنيقة ذات يومٍ، إذ فوجئ بابنه الصغير يخدش السيارة ويكتب عليها بمسمارٍ التقطه من الأرض على حين غفلةٍ من أبيه، ثار الأب وفي قمة غضبه واندفاعه أخذ بيد ابنه وضربه عليها عدة مراتٍ دون أن يشعر أنه كان يستخدم للعقاب قضيباً حديدياً ضخماً. كانت ثورة الأب عارمةً؛ فالسيارة جديدةٌ وتخريب الابن لها لم يكن متوقعاً، لهذا كانت الضربات قاسيةً وقويةً مما أدى إلى بتر أصابع الابن في المستشفى لاحقاً، وتحول العقاب إلى مأساةٍ، عندما سأل الطفل المسكين أباه ببراءةٍ: "متى ستنمو أصابعي ثانيةً يا أبي"؟ هذا السؤال كاد يمزق قلب الأب ويحرقه حسرةً وندماً.

ترك الأب المستشفى عائداً للبيت وتوجه إلى السيارة وبدأ يركلها بقدمه عدة مراتٍ حتى أعياه التعب فجلس بجوارها يبكي بحرقةٍ، ثم إذا به ينظر إلى جانب السيارة المخدوش فوجد أن ابنه كان قد كتب: "أحبك يا أبي".

 

إن (عواقب التسرع) دائماً ما تؤدي إلى الندم؛ لذا يقول الله سبحانه وتعالى حاثاً المؤمنين على عدم التسرع، طالباً منهم التبين والتثبت والتأكد حتى لا يصيبهم الندم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، أما في عمل الخيرات فيكون المطلوب هو المسارعة؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾، وكذلك في طلب المغفرة يقول سبحانه: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾. ويصف المولى عزَّ وجلَّ الإنسان بأنه عجول؛ يقول تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾، ويقول تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾. يُفَسِر العلماء ذلك بأن العجلة هي السرعة في الشيء، وهي مذمومةٌ فيما كان المطلوب فيه الأناة، محمودةٌ فيما يُطلَب تعجيله والمسارعة إليه كأعمال الخيرات؛ كما في قول سيدنا موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [التُّؤدة في كلِّ شيء خيرٌ إلَّا في عمل الآخرة] -وقيل أنه قولٌ لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه- ومعناه: التَّأنِّي وترْكُ العجَلَةِ خَيْرٌ في كلِّ الأعْمالِ، إلَّا في العَملِ المُتعلِّقِ بالآخِرَةِ مِن أمْرٍ أو نهيٍ، أو بأعمالِ التقرُّبِ إلى اللهِ تعالَى؛ فالتَّأخيرُ في هذا العَملِ مَذْمومٌ غيرُ محْمودٍ، بل يَنْبغي الإسْراعُ والمُسابَقَةُ إلى عمَلِ الآخِرَةِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَعْلَمُ متى يَنتهي عمرُه ويأتيه أجَلُه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: [إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ]، فما أحوجنا إلى التحلي بهذا الخلق الطيب في بيوتنا ومجتمعاتنا التي تعاني من التسرع والعجلة في الحكم على الغير وفي اتخاذ القرارات؛ فالعجلة بصفةٍ عامةٍ مذمومةٌ، ونقيضها وهو التأني محمودٌ؛ قال النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام: [التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ]، فالعجلة -كما يقول العلماء- خفَّةٌ وطيشٌ وحِدَّةٌ في العبد تمنعه من التَّثبُّت والوقار والحلم، وتُوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعاً من الشُّرور، وتمنع عنه أنواعاً من الخير، وهي قرين النَّدامة؛ فقَلَّ من استعجل إلَّا ندم. ومن المواقف التي ينبغي عدم التعجل فيها إجابة الدُّعاء؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي] فالاستعجال هنا يحرم الشخص من إجابة دعائه.

 

أما المختصون في علم النفس وعلم الاجتماع فيقولون إن الشخصية المتسرعة في الحكم من دون النظر إلى الموضوع بشيءٍ من التروي تتصف بالاندفاع، وعادةً ما يندم المتصفون بالتسرع في الأحكام ويقعون في حرجٍ دائمٍ، ما يجعلهم كثيري الاعتذار للآخرين. وينصحون بتجنب التسرع في إصدار الأحكام على الآخرين؛ لأنها قد تكون أحكاماً خاطئةً. ويشيرون إلى أن التنشئة داخل الأسرة لها أثرٌ مباشرٌ في اكتساب صفة العجلة في الحكم على الآخرين من دون تروٍ وتثبتٍ، فالابن يلاحظ أبويه وإخوانه الكبار يصدرون أحكاماً تخصه أو تخص أقاربهم من دون أن يستمع منهم بأنهم يجب أن يتثبتوا مما سمعوا. ويرى المختصون أن التسرع في الحكم يفقدنا كثيراً من الأصدقاء المخلصين، إذ لن يقبلوا منا أن نجعلهم في مرمى سوء الظن والحكم الخاطئ غير المبني على الحقائق، مما يؤثر في العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد؛ فكثيرٌ من الخلافات التي تقع بين أخوين أو زوجين أو صديقين تكون من بين (عواقب التسرع) أو عدم التثبت. والتسرع صفةٌ التصقت دوماً بالمتهورين من الناس أو الذين لا يفكرون بشكلٍ متأنٍ أو يعطون أنفسهم وقتاً كافياً للتفكير؛ لذا فإن أغلب القرارات المتسرعة تكون خاطئة، لا نجني من ورائها إلا الندم؛ فلا يمكن استرجاع الكلمات بعد نُطقها، ولا يمكن استرجاع الخطأ بعد وقوعه، إن التأني والحلم والرفق ومجاهدة النفس دليل رجاحة العقل واتزان النفس، وعلى العكس فإن التهور والاندفاع دليل خفة العقل؛ فكم من الحماقات ارتُكِبَت بسبب التهور وعدم التأني، وكم من الصداقات تقطعت بسبب التسرع والتهور والعجلة، وكم من المشكلات حدثت، وكم من البيوت هُدمت لهذا السبب!

 

قالوا عن التسرع: ما نفعله بسرعة لا نفعله بإتقان، على النابل أن يتأنى فالسهم متى انطلق لا يعود، خيرٌ لك أن تصل متأخراً من ألا تصل أبداً، الذين يتقدمون باندفاعٍ كبيرٍ يتراجعون بسرعةٍ أكبر، ما يُعمل بالسرعة لا يُعمل بالحكمة، العجلة هي أم الإخفاق، كلما أسرعنا تأخرنا في الوصول، في التأني السلامة وفي العجلة الندامة، ومن تأنى نال ما تمنى.

 

أحبتي .. علينا التحلي بخُلُق الأناة والتروي والتؤدة، والسعي لاكتساب هذا الخُلُق إن لم نكن نملكه؛ واكتسابه أمرٌ ممكنٌ لكنه يحتاج إلى صبرٍ ومجاهدة نفس. وعلينا أن ننتبه جيداً إلى أن أبناءنا يتعلمون منا قيمنا وسلوكنا ويتشربوها منا دون أن نشعر.

رزقنا الله وإياكم هذا الخُلُق، وأعاننا على شهوة النفس وجموحها إلى السرعة والعجلة، وعافانا من (عواقب التسرع) وتبعاته المؤلمة.

https://bit.ly/2Tixrne