الجمعة، 6 نوفمبر 2020

ترويض النفس

 

الجمعة ٦ نوفمبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /٢٦٤

(ترويض النفس)

 

عن قصةٍ واقعيةٍ يقول أستاذٌ جامعيٌ معروف:

في أحد الأيام كنتُ داخل سيارتي إذ جاء شابٌ في السادسة عشرة من عمره وسألني: "هل أنظف لك الزجاج الأمامي؟"، قلتُ: "نعم"؛ فنظفه بشكلٍ رائعٍ، فأعطيته عشرين دولاراً؛ فتعجب الشاب وسألني: "هل أنت عائدٌ من أمريكا؟"، قلتُ: "نعم"، سألني مرةً أخرى: "هل يمكنني أن أسألك عن جامعاتها بدلاً من أجرة التنظيف؟". كان مؤدباً فدعوته للجلوس إلى جانبي لنتحدث؛ سألته: "كم عمرك؟"، قال: "ست عشرة سنة"، قلتُ: "في الثانية المتوسطة؟"، قال: "بل أتممت السادسة الإعدادية". قلتُ: "وكيف ذلك؟"، قال: "لأنهم قدموني عدة سنوات من أجل علاماتي الممتازة في جميع المواد"، سألته: "فلماذا تعمل هنا؟"، قال: "إن والدي قد تُوفي وأنا في الثانية من عمري، وأمي تعمل طباخةٌ في أحد البيوت، أنا وأختي نعمل في الخارج"، وأردف يقول: "سمعتُ أن الجامعات الأمريكية لديها منحٌ دراسيةٌ للطلاب المتقدمين"، قلتُ: "وهل هناك من يساعدك؟"، قال: "أنا لا أملك إلا نفسي"، قلتُ: "دعنا نذهب للأكل"، قال: "بشرط أن أنظف لك الزجاج الخلفي للسيارة"، فوافقت. في المطعم طلب أن يأتوا بطعامه سفرياً ليشارك أمه وأخته في الأكل بدلاً من أن يأكل وحده. لاحظتُ أن لغته الإنجليزية ممتازةٌ، وأنه ماهرٌ فيما يقوم به من أعمال. اتفقنا أن يأتيني بالوثائق الخاصة به، ووعدته أن أحاول مساعدته ما استطعت.

بعد ستة أشهرٍ حصلتُ له على القبول، وبعدها بيومین اتصل بي وقال: "كلنا في البيت نبكي من الفرح، شكراً لك".

بعد سنتين قرأتُ اسمه منشوراً في مجلة "نيويورك تايمز" كأصغر خبيرٍ بالتكنولوجيا الحديثة، سعدنا بذلك أنا وزوجتي كثيراً، وقامت زوجتي باستخراج سمة الدخول "الفيزا" لأمه وأخته واستقدمتهما دون علمه، فوجيء الشاب بأمه وأخته أمامه في أمريكا؛ عقدت المفاجأة لسانه فلم يستطع أن ينطق، بل ولم يستطع حتى أن يبكي!

في أحد الأيام كنتُ أنا وزوجتي داخل المنزل ورأيناه في الخارج يغسل سيارتي! فخرجتُ له وعانقته وقلتُ له: "ماذا تفعل"؟! قال: "دعني لئلا أنسى نفسي؛ ماذا كنتُ من قبل، وماذا صنعتَ أنت لي"!! هذا الشاب هو الآن أحد أفضل وأشهر الأساتذة في جامعة هارفارد الأمريكية العريقة!!

 

أحبتي في الله .. عندما قرأتُ هذه القصة، أدهشني التصرف الأخير للشاب، وقوله "دعني لئلا أنسى نفسي".

حقاً ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، وإذا لم نأخذها بالشدة أخذتنا إلى كِبْرٍ ما نحن ببالغيه. كم هو مهمٌ أن نكسر كبر أنفسنا، وإلا تمادت وانتفشت وعاشت النعمة ونسيت المنعم، ولربما قالت ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾. أخذُ النفس بالشدة يجعلها طائعةً مستكينةً قويةً في الحق ذليلةً لله سبحانه وتعالى، وطوبى لمن كان دأبه (ترويض النفس).

تذكرتُ موقفاً لسيدنا عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، إذ جمع الناس يوماً في المسجد، واعتلى المنبر وقال: «كنتُ أرعى إبل الخطاب في شعاب مكة، ومعها إبلٌ لخالاتي، وكنتُ ألبس الصوف "الخشن من الملابس"، وكان الخطَّاب يُرهقني "ضرباً ومساءلةً"»، ثم نزل عن المنبر فاقترب منه ابنه عبد الله وقال له: «ما هذا يا أمير المؤمنين؟! واللهِ ما زدتَ أن حقَّرتَ نفسك»، فينظر سيدنا عمر إليه ويقول: «دعني يا عبد الله، رأيتُ نفسي ليس بينها وبين الله أحدٌ، فأحببتُ أن أحقرها"» .. وانصرف!

 

كما تذكرتُ موقفاً للشيخ الشعراوي، يرحمه الله، حين خرج مرةً لإلقاء محاضرةٍ في جامعة القاهرة، وأثناء انصرافه تجمهر حول سيارته آلاف الطلاب وحملوه بسيارته من فوق الأرض، وعندما رجع إلى بيته مساء ذلك اليوم اختفى، فبحث ابنه عنه في كل مكانٍ، ثم تذكر أن والده يذهب إلى مسجد الإمام الحسين كثيراً، وبالفعل وجده في المراحيض ينظفها بنفسه؛ فزع ابنه حينها وقال له: "يا شيخنا قل لي أنظفها بدلاً عنك"، لكن الشيخ الشعراوي قال له: "إن معنىً من العُجب بالنفس ظهر في داخلي، بعد حمل الشباب في الجامعة سيارتي، فأردتُ أن أكسر ذلك العُجب بأن أُقدِم على تنظيف هذه الحمامات".

 

يقول أهل العلم إن (ترويض النفس) مهمٌ وضروريٌ ومفيدٌ؛ فهذه النفس تجمح وتنفر فتحتاج إلى من يروضها وإلى من يسوسها، فما هي إلا كفرسٍ لم تُرَوْض فيحتاج فارسها أن يمتطيها وأن يكون قادراً على الإمساك بلجامها فحينئذ تُرَوْض له وتنقاد معه ويقودها حيث شاء، والطريق إلى ذلك هو أن تحرم نفسك من بعض شهواتها من أجل أن تملكها ولا تملكك، وتقودها ولا تقودك، وتسوسها ولا تسوسك، من أجل أن تقود نفسك بنفسك إلى طريق الخير والصلاح والاستقامة. و(ترويض النفس) تمرينٌ طويلٌ يحتاج إلى الصبر وقوة الإرادة.

 

وقالوا قديماً إن الواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يُجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حُلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه، ويكد في الهواجر ويسهر الليالي إلى أن يرتقي شرفات المجد والمعالي؛ فالمرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت.

 

وحين يتمكن الإنسان من ترويض نفسه يكون كما قال أحد الحكماء: قد أخرجه الله عزَّ وجلَّ من ذل المعاصي إلى عز التقوى؛ فأغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. يكون قد عوَّد نفسه الخوف من الله فيخيف الله منه كل شيء. ويكون قد رضي من الله باليسير من الرزق فيرضى الله منه اليسير من العمل. ويكون قد زهد في الدنيا فيثبت الله الحكمة في قلبه، ويُنطِق بها لسانه، ويبصَّره عيوب الدنيا ويُخرجه منها سالماً إلى دار السلام.

قال الشاعر:

وما الحرُّ إلا حيثُ يجعلُ نفسَه

ففي صالحِ الأعمالِ نفسَك فاجعلِ

وقال آخر:

والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها

وإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنعُ

 

لقد نهانا المولى عزَّ وجلَّ عن اتباع هوى النفس؛ يقول تعالى: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، ويخاطب رسوله الكريم بقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وبقوله: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾.

هذه بعض الآيات التي تذم الهوى لما ينتج عنه من صدٍ عن الحق واتباعٍ للباطل.

قيل: البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه. وقيل: إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى.

أما الشاعر فقال:

ومِن البلاءِ وللبلاءِ علامةٌ

أن لا يُرى لكَ عن هواكَ نُزوعُ

العبدُ عبدُ النفسِ في شهواتها

والحرُ يشبعُ تارةً ويجوعُ

لذلك كان (ترويض النفس) ومنعها من اتباع الهوى من أكثر ما يفيد المسلم؛ فهو طريقٌ يبدأ بمجاهدة هوى النفس وينتهي بالخلود في الجنة؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؛ أفلا تستحق هذه الجائزة الكبرى أن نتعب من أجل الحصول عليها، ونبذل الجهد والصبر؟

 

أحبتي .. كما يقال: إنما الحلم بالتحلم والأدب بالتأدب؛ فهكذا لا يمكن (ترويض النفس) إلا بإرادةٍ وعزيمةٍ وتصميمٍ؛ إرادةٍ واعيةٍ تدرك عواقب اتباع هوى النفس، وعزيمةٍ قويةٍ لا تستسلم لرغبات النفس الأمارة بالسوء، وتصميمٍ أكيدٍ على الإمساك بزمام النفس ومنعها من الإحساس بالغرور والكِبْر والعُجب بالنفس، ولنتذكر الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

أعاننا الله وإياكم على ترويض أنفسنا حتى يكون هوانا موافقاً لشرع الله وطريقه المستقيم؛ فننجو ونكون من الفائزين.


https://cutt.ly/GgHsWZA