الجمعة، 10 مايو 2019

موسم الطاعات


الجمعة 10 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٦
(موسم الطاعات)

جلس الإمام مالك يوماً في المسجد النبوي كعادته يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطلاب حوله يستمعون، فصاح صائحٌ: جاء للمدينة فيلٌ عظيمٌ - ولم يكن أهل المدينة قد رأوا فيلاً قبل ذلك والمدينة ليست موطناً للفيلة - فهُرع الطلبة كلهم ليروا الفيل وتركوا مالكاً إلا يحيى بن يحيى الليثي فقط، فسأله مالك: لِمَ لَمْ تخرج معهم؟ هل رأيت الفيل قبل ذلك؟، قال يحيى: إنما رحلتُ لأري مالكاً لا لأرى الفيل!
نُشرت هذه القصة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوانٍ غريبٍ؛ فقد كان العنوان هو: "ما أكثر الفيلة في رمضان؟"، وقال ناشر القصة: قد تتعجبون من العنوان، لكن سيزول العجب حين أُبَيْن المقصد؛ لو تأملنا هذه القصة لوجدنا أن واحداً فقط من الحضور هو من علم لماذا أتى، وما هو هدفه، لذا لم يتشتت ولم يبدد طاقاته يمنةً ويسرةً، أما الآخرون فخرجوا يتفرجون! فانظر عِظَم الفرق بين هذا وهؤلاء! لذا نجد أن من حدد الهدف واستعان بالله وصل، فكانت رواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي عن مالك هي المعتمدة للموطأ، أما غيره من الطلبة المتفرجين فلم يذكرهم لنا التاريخ.
وفي زماننا يتكرر الفيل، ولكن بصورٍ مختلفةٍ وطرائق شتى، وخصوصاً في رمضان؛ فالناس في رمضان صنفان: صنفٌ قد حدد هدفه فهو يعلم ماذا يريد من رمضان، وما هي الثمرة التي يتمنى تحصيلها. وصنفٌ آخر غافلٌ لاهٍ مفرطٌ تستهويه أنواع الفيلة المختلفة؛ فالقنوات الفضائية فيلة، والمسلسلات والأفلام الهابطة فيلة، والأغاني والموسيقى فيلة، والغيبة والنميمة وأنواع المحرمات فيلة، وكل مضيعات الأوقات فيلة، والفيس بوك والواتساب والإنستجرام فيلة هذا الزمان! فاحذروا الفيلة وبريقها فإنها ستسلب منكم أفضل أوقات العام. حددوا لأنفسكم أهدافاً في رمضان، واستعينوا بالله ولا تعجزوا ولا تتشتتوا؛ فإن المحروم من حُرم الأجر في موسم الأجور، والمغبون من ضيع السلعة الغالية بثمنٍ بخسٍ.

أحبتي في الله .. كم دعونا الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا رمضان، وها قد استجاب المولى عزَّ وجلَّ بكرمه وإحسانه لدعائنا فماذا نحن فاعلون؟ ها قد هلَّ علينا شهر رمضان بأيامه ولياليه، شهر العبادة وشهر القرآن وأعمال الخير والبر، إنه شهر الصوم والقيام؛ إنه (موسم الطاعات).

بدأ الشهر الكريم وما يزال البعض منا لم يحدد هدفه منه؛ فتراهم يوزعون أوقاتهم ما بين الصوم والصلاة والقيام وقراءة القرآن وإطعام الفقراء والمساكين، وبين مشاهدة ما يسميه شياطين الإنس مسلسلات وبرامج رمضانية، ورمضان منها براء. الذين لم يحددوا هدفهم في هذا الشهر الفضيل تراهم ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، تارةً هم في قمة الإيمان والخشوع، وتارةً هم غارقون في مستنقع الإسفاف والابتذال مع تلك المسلسلات والبرامج الهابطة. يجادل البعض منهم بالقول أنه توجد مسلسلاتٌ دينيةٌ يمكن مشاهدتها، يكفي أن يعلم هؤلاء أن غض النظر من الفضائل التي يحث عليها ديننا الحنيف والتي يتضاعف ثواب الالتزام بها في هذا الشهر الكريم، فهل تترك لنا مثل هذه المسلسلات - ولو كانت دينيةً - فرصةً لغض النظر؟ يقولون أنه نادراً ما تظهر في تلك المسلسلات ممثلاتٌ حيث يكون أغلب الممثلين فيها من الذكور، وكأن غض النظر فضيلةٌ مطالبٌ بها ذكور المسلمين دون إناثهم!
إن الذين هم مذبذبون، يجمعون بين العبادة وأعمال الخير، وبين مشاهدة اللهو والمجون في التلفاز والقنوات الفضائية، وتضييع أثمن الأوقات في تصفح مواقع لا نفع من ورائها على شبكة الإنترنت، أو في دردشاتٍ لا فائدة منها، أو في استخدام وسائط التواصل الاجتماعي والهواتف  الذكية لغير ضرورةٍ ملحةٍ خلال شهر رمضان، أخشى أن تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا﴾ فيضيعون على أنفسهم ثواب أعمالهم الطيبة بإصرارهم على مشاهدة ما تحرم مشاهدته وسماع ما يحرم سماعه وقول ما يحرم قوله؛ فليحذر هؤلاء أن يكونوا ممن قال عنهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالنَّصَبُ].

يقول العلماء عن (موسم الطاعات): إنه من أعظم المواسم الربانية والنفحات الإلهية؛ فهو فرصةٌ ذهبيةٌ لا يجب تضييعها أو التفريط بها، وهو ميدانٌ للتسابق في الخيرات لنيل أعلى الدرجات، والفوز بجنةٍ عرضها الأرض والسموات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ]؛ فاحرص أيها المسلم على اغتنام أوقاتك في الطاعة، وخذ من قوتك لضعفك، ومن شبابك لهرمك، ومن غناك لفقرك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحتك لسقمك، فالسعيد من أشغل نفسه في الطاعة، والشقي من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
ما يزال الاختيار في يد كلٍ منا، وما تزال الفرصة متاحةً لنا لاختيار طريق العمل الصالح الذي يُعلي شأننا ما بقيت لنا أيامٌ وليالٍ في هذه الدنيا؛ قال الشاعر:
نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية
طفلُ الملوك هنا كطفل الحاشية!!
ونغادر الدنيا ونحن كما ترى
متشابهون على قبورٍ حافية !!
أعمالنا تُعلي وتَخفض شأننا
وحسابُنا بالحق يوم الغاشية !!
حورٌ، وأنهارٌ، قصورٌ عالية،
وجهنمُ تُصلى، ونارٌ حامية !!
فاختر لنفسك ما تُحب وتبتغي
ما دام يومُك والليالي باقية !!
وغداً مصيرك لا تراجع بعده
إما جنان الخلد وإما الهاوية !!

أحبتي .. هنيئاً للذين اختاروا أن يكونوا ممن حددوا هدفهم لشهر رمضان، فخالفوا هواهم، وابتعدوا عما يرتبه لهم شياطين الإنس من مغرياتٍ تسرق منهم أوقاتهم وتُفسد عليهم ما صلح من أعمالهم. هنيئاً لمن حسم أمره واختار لنفسه طريق الصواب وسبيل النجاة، ليفوز برضا الله ورضوانه، فيحرص على ألا يضيع منه (موسم الطاعات) ويخرج منه خاسراً؛ فالخسارة أن تكون هناك جنةٌ ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ولا يكون له فيها مكان‏!
قال أحدهم ناصحاً: فلنبادر بالتوبة النصوح من جميع الخطايا والسيئات، واستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى فعل الطاعات، فإن المسارعة إلى الخيرات صفةٌ عظيمةٌ من صفات الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وإن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى رفيع الدرجات في الآخرة، قال سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
تمسكوا أحبتي بطريق الحق والخير والفلاح، واستغفروا الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وتوبوا إليه توبةً نصوحاً في هذا الشهر الفضيل. أرُوا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حُرم رحمة الله في شهر رمضان (موسم الطاعات)؛ صوموا أيامه وقوموا لياليه، واملأوا أوقاتكم كلها بالعبادات والنوافل وأعمال الخير، عسى أن يتقبل الله منا ومنكم أعمالنا؛ فتثقل بها موازيننا ويكون مثوانا الجنة بفضل الله وكرمه ورحمته وإحسانه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.