الجمعة، 22 أغسطس 2025

أُمك ثم أُمك ثم أُمك

 

 خاطرة الجمعة /513

الجمعة 22 أغسطس 2025م

(أُمك ثم أُمك ثم أُمك)

 

يحكي أحدهم عن موقفٍ حدث بينه وبين أُمه فقال:

حدث خلافٌ بيني وبين أُمي وصل إلى عُلو الأصوات، كانت بين يديّ بعض الأوراق الدراسية رميتها على المكتب وذهبتُ إلى سريري، والهموم واللهِ تغشى قلبي وعقلي، وضعتُ رأسي على الوسادة كعادتي كلما أثقلتني الهُموم؛ حيث أجد أن النوم خير مفرٍ منها.

في صباح اليوم التالي -وكانت أُمي لا تزال نائمةً- توجهتُ إلى الجامعة، أخرجتُ هاتفي المحمول وأنا على بوابة الجامعة وكتبتُ رسالةً أُداعب بها قلب أُمي الحنون؛ فكان مما كتبتُ: "عَلِمتُ للتو أن باطن قدم الإنسان يكون أكثر ليونةً ونعومةً من ظاهرها يا غالية؛ فهل يأذن لي قدمُكم، ويسمح لي كبرياؤكم بأن أتأكد من صحة هذه المقولة بشفتيّ؟". أدخلتُ هاتفي في جيبي وأكملتُ يومي بالجامعة، ولمّا عدتُ إلى البيت وفتحتُ الباب وجدتُ أُمي تنتظرني في الصالة وهي بين دموعٍ وفرحٍ، قالت لي: "لا، لن أسمح لك بذلك؛ لأنني متأكدةٌ من صحة هذه المقولة؛ فقد تأكدتُ من ذلك عندما كنتُ أُقبِّل قدميك ظاهراً وباطناً

وقت أن كنتَ صغيراً". لا أذكر سوى دموعي وهي تتساقط، وأنا أُقبِّل رأس أُمي وألثم يديها، وأعتذر لها، وأطلب منها السماح والصفح.

 

أحبتي في الله.. تعليقاً على هذا الموقف، كتب الشاب الذي نشره في نهاية منشوره يقول:

سيرحلون يوماً بأمر ربنا؛ فَتقربوا إليهن قبل أن تفقدوهن، وتذكروا وصية نبينا الكريم u (أُمك ثم أُمك ثم أُمك)، وإن كُنَّ قد رحلن فترحموا عليهن وادعوا لهن.

ذَكَّرني هذا الموقف بموقفٍ حدث بين شابٍ آخر وأُمه، وإن كانت نهاية الموقف مُختلفةً؛ إذ سقط كوب الحليب من يد الأُم وانكسر، فصرخ ابنها في وجهها، ثم ترك البيت وخرج غاضباً؛ ناسياً وصية النبي صلى الله عليه وسلم بحُسن صحبة الأُم حين قال: (أُمك ثم أُمك ثم أُمك). جلست الأُم على مقعدها حزينةً مكسورة الخاطر، وكتبت رسالةً لابنها. عندما عاد ابنها وجدها نائمةً على مقعدها كالعادة، وفي حجرها رسالةٌ، أخذ الرسالة وقرأها، فوجد فيها ما يلي:

ابني وحبيبي وقُرة عيني: أنا آسفةٌ؛ فقد أصبحتُ عجوزاً، ترتعش يداي فيسقط طعامي على صدري، ولم أعد أنيقةً جميلةً طيبةَ الرائحة؛ فلا تلمني. وأنا لا أقوى على لبس ملابسي وحذائي؛ فساعدني. وﻻ تحملني قدماي إلى الحمام؛ فأمسك بيديّ. تذكر كم أخذتُ بيدك كي تستطيع أن تمشي. لا تضجر من ضعف ذاكرتي، وبُطء كلماتي؛ فسعادتي اﻵن تكمن فقط في أن أكون معك. ضحكاتك كانت تُفرحني عندما كنتَ صغيراً فلا تحرمني من ابتسامتك اﻵن. لقد كنتُ معك حين ولدتك، فكُن معي حين أموت، فأنا ببساطةٍ أنتظر الموت!

مسح الابن دموعه في طرف ثوب أُمه وأخذ يُقبِّل يديها ويقول لها: "سامحيني"، لكن يديها كانتا باردتين كالثلج، أدرك وقتها أنه قد فات أوان الاعتذار، وأُجهش بالبكاء، شاعراً بالحسرة والندم، أن ماتت أُمه قبل أن يعتذر لها ويطلب رضاها.

 

وهذا شابٌ ثالثٌ، يصف علاقته بأُمه في سؤالٍ أرسله إلى أحد المواقع الإسلامية يطلب النصيحة، قال في سؤاله:

أُمي كبيرةٌ في السن، وهي عصبيةٌ، وفي نفس الوقت هي من النساء التي تُصر على رأيها حتى لو كان غير صحيحٍ، وأنا -يعلم اللهُ- أني أُريد رضاها، وكم من مرةٍ أُحاول حتى ترضى التزاماً مني بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أُمك ثم أُمك ثم أُمك)، ثم لا نتفق في نقطةٍ أُخرى أو لا نتفاهم، مع العلم بأني عصبيٌ جداً -وهي تعلم ذلك- ومع ذلك تستفزني دائماً، وأنا أُحاول تجنبها، وهي دائماً ما تربط بين طلباتها ورضاها عني؛ فتقول لي "برضاي عليك افعل كذا" حتى لو كان خطأً، فإن فعلتُ فهي راضيةٌ عني، وإن لم أفعل فأنا مغضوبٌ عليّ. يعلم اللهُ أني احترتُ كيف أُرضيها، أفيدوني ماذا أفعل؟

وكان مما أجاب به المسئول عن ذلك الموقع قوله:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلعل من المُناسب أن نُذَكِّر الأخ ببعض ما جاء في فضل بِر الوالدين، والأُم على وجه الخصوص، لا سيما عند كِبَرها، لعلَّ في ذلك ما يُعينه على بِرها واحتساب الأجر على ما يُلاقيه من تعبٍ ومشقةٍ في هذا السبيل، من هذه النصوص؛ قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ]، قيل: من يا رسول الله؟ قال: [مَنْ أدركَ أبويه عِندَ الكِبَر: أحدُهما أو كليهما فَلَم يَدْخُل الجَنّة]. وحين جاء إليه رجلٌ يستأذنه في الجهاد، قال له صلى الله عليه وسلم: [أحيٌ والداك؟] قال: نعم، قال: [ففيهما فَجاهِد]. وهذا آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردتُ أن أغزو، وقد جئتُ أستشيرك؟ فقال: [هَل لكَ أُمٌ؟] قال: نعم، قال: [فالزَمْها فإن الجَنّةَ تَحْتَ رِجْليها]، وفي روايةٍ أُخرى قال: [وَيْحَك، أحيةٌ أُمُك؟] قال: نعم يا رسول الله، قال: [وَيْحَك، الْزَم رِجْلَها فَثَمَّ الجَنّة]، قال شُرّاح هذا الحديث إن التواضع للأُمهات سببٌ لدخول الجنة.

هذه الآيات والأحاديث، وكلام العُلماء يُبين ما للأُم من حقٍ على أولادها أوجبه الله ورسوله، ثم إنّ لها فضلاً، مهما فعلتَ فلن توفيها حقها أو تجزيها جزاءً يُقابل أفضالها وإحسانها؛ فهي التي قاست أشهر الحمل، وعانت آلام الولادة، وسهرت، وأرضعت، وربَّت، وتحملت الكثير والكثير من أجلِك، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فنوصيك بالصبر الجميل على بِرها والإحسان إليها. مع العلم بأن الطاعة إنما تكون في المعروف، وفيما أحلَّ الله وأباح، أما إذا كان الأمر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، مع لزوم المُصاحبة بالمعروف، وفقنا الله وإياكَ لبِر أُمهاتنا وآبائنا.

 

يقول الشاعر:

أَوْجَبُ الواجِباتِ إِكْرامُ أُمي

إِنَّ أُمي أَحَقُ بِالإكْرامِ

حَمَلَتْني ثقلاً وَمِنْ بَعْد حَمْلي

أَرْضَعَتْني إلَى أَوانِ فِطامي

وَرَعَتْني في ظُلْمَةِ اللَيلِ حَتى

تَرَكَتْ نَوْمَها لِأَجْلِ مَنامي

وَبِلُطْفٍ تَعَهَدَّتْني إِلَى أَنْ

زالَ ضَعْفي وَاشْتَدَ لينُ عِظامي

عَنيَتْ بي عِنايةً وَاستَمَرَتْ

بِشَرابي مُهْتَمَةً وَطَعامي

فَلَها الحَمْدُ بَعْدَ حَمْدي إلَهي

وَلَها الشُكْرُ في مَدَى الأيامِ

 

أحبتي.. ربما تكون بعض تلك القصص صحيحةً، وربما كانت غير صحيحةٍ، لكن ما بها من أحداثٍ يتكرر-للأسف- في مُجتمعاتنا الإسلامية؛ فكم من عاقٍ ضرب أُمه، وكم من عاقٍ جرح أُمه بكلمةٍ، وكم من عاقٍ طرد أُمه من المنزل إرضاءً لزوجته، إن من يزور دور رعاية كبار السن يجد بها أُمهاتٍ أصبح مصيرهن فيتلك الدُور بسبب ابنٍ عاق، خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جَاءَه رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: [أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أبُوكَ]؛ فأحسِن صحبة أُمك، لا تكسر قلبها بكلمةٍ، ولا تجرحه بإهمالٍ أو استهزاء. ابتسم لها دائماً، اتصل بها يومياً إن كنتَ بعيداً عنها، اطلب منها المشورة، ولا تُبالغ في عرض مشاكلك عليها فيُصيبها الحُزن والهم، وطمئنها فور حل تلك المشاكل كي تسعد، تحسس احتياجاتها ولبي طلباتها قبل أن تطلبها، فاجئها ببعض الهدايا التي تُفرحها حتى ولو تمنعت، استمع لها حتى ولو كان كلامها مُكرراً، قبِّل رأسها ويديها؛ فالجنة تحت أقدامها.

 

اللهم احفظ أُمهاتنا وأَطِل في أعمارهن، واجعلنا قُرة عينٍ لهن، وسبباً في سعادتهن.

أما من تُوفيت أُمه؛ فعليه أن يتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ شيءٌ أَبَرُّهما به بعد موتِهما؟ قال: [نَعَم، الصَلاةُ عَلَيهِما، وَالاسْتِغَفارُ لَهُما، وَإنْفاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلَّا بِهِما، وَإكْرامُ صَديقِهِما].

اللهم اجعلنا من البارين بأُمهاتنا أحياءً كُنَّ أو أمواتاً، واجعلنا نتذكر دائماً وصية نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- حينما قال: (أُمك ثم أُمك ثم أُمك).

https://bit.ly/41jzabF