الجمعة، 3 ديسمبر 2021

أشعث أغبر

 

خاطرة الجمعة /320


الجمعة 3 ديسمبر 2021م

(أشعث أغبر)

 

يقول راوي القصة: من أغرب ما صادفتُه في رحلات الحج التي كنتُ أتشرّف بتنظيمها؛ أنه من عدّة سنوات اعترضتني مشكلةٌ كارثيّةٌ خلال أداء مهمّتي في موسم الحج تتعلق بتجهيز مخيمات عرفات الخاصة بالفوج الذي أقوم على خدمته، وتتلخص القصة بأنّه بقي على يوم عرفات خمسة أيّام ولم أتمكّن من الحصول على مساحةٍ كافيةٍ لعدد حجاج الفوج الذي أقوم على خدمته، وهذا يعني أنني لن أتمكنّ من أن أفي الناس حقها من الخدمة المتميزة التي وعدتهم بها في عرفات. استحال الأمرُ عليَّ، ولم أجد سبيلاً إلى تحقيق المراد، وقد ضاق الوقت إلى درجةٍ تقتضي أن أجد حلاً قبل الفجر لأتمكّن من نقل مستلزمات المخيم ورفع الخيام وتجهيز المكيفات وبناء الحمامات وتحضير مخيّمٍ بكامل مستلزماته لتفي باحتياجات ثلاثمائة حاج، وواقع المشكلة يؤكد عدم وجود أي حل! ركبتُ سيارتي منطلقاً من جدة إلى مكة، وكانت الساعة الحادية عشرة ليلاً، كنتُ في حالةٍ يُرثى لها من الانهيار النفسي؛ فالحلول تكاد تكون معدومةً، ولا أرى بصيص أملٍ، كنتُ أقود سيارتي وأنا في حالةٍ من الذهول، فبيني وبين وقوع الكارثة ساعات الليل فقط. تذكّرتُ وأنا في منتصف الطريق إلى مكة أنني نسيتُ أداء صلاة العشاء، فتوقفتُ عند إحدى محطات الوقود الموجودة على طريق «جدّة - مكة» حيث يُوجد مسجدٌ في هذه المحطة، توضّأتُ ثم دخلتُ إلى المسجد وكان خالياً إلّا من رجلٍ بنغاليٍ في الأربعين من العمر، شكله يدل على أنّه عاملُ بناء، كان يدور داخل المسجد حاملاً مصحفه منهمكاً في الحفظ يقرأ بصوتٍ عالٍ وبلغةٍ أعجميّةٍ لا تُسعفه! كان الرجل (أشعث أغبر) رثَّ الثياب، عليه آثار عملٍ ترابيٍ مع آثار عرقٍ جفّ على جبينه مصحوباً بزيتٍ أو شحمٍ أسود، وكان يدور وكأنّه يطوف في الحرم، ألقيتُ عليه السلام لكنه لم يرد عليّ؛ فهو في عالمٍ آخر لا يكاد يشعر بأحدٍ حوله، إذْ كان يطوف في جنبات المسجد كالنحلة، يتسارع في خطواته ويتلعثم في قراءته وهو يلهث مصارعاً قُدراته وكأنّه في وعدٍ على إنجاز مهمّته! صليتُ العشاء في زاويةٍ من المسجد ثم اتجهتُ إلى هذا الرجل وأخرجتُ من محفظتي مبلغاً من المال ليس بالقليل وقدّمته له، فنفضَ يده عنّي رافضاً استلامه، وتابع دورانه دون أن يكترث للمال الذي قدّمته له -رغم أن حالته تدلّ على فقره الشديد- فهرولتُ وراءه أترجاه أن يأخذ المبلغ وهو منهمكٌ في حفظه لا يُلقي إليَّ بالاً، وعندما وجدني أُلح عليه توقف وقال لي: "إنتا إيش أبغي؟!"، فقلتُ له: "لا أريد شيئاً يا أخي، أنا في ضائقةٍ شديدةٍ، وأريدك أن تشملني بدعوةٍ منك"، فطوى مصحفه على إصبعه كي لا يفقد الصفحة التي يقرأ منها، ونظر إلى الأعلى وقال: "يا رب هادا نفَر مُشكل كبير، إنتا في مساعدة يا رب"، ثم تركني وتابع ما كان عليه، تركته ووضعتُ النقود على كرسيٍّ أمامه وأشرتُ إليه كي لا ينساها، فلم يحرّك له ساكن، وأُشهد الله أنّه لم ينظر إلى النقود، بل رمقني بنظرةٍ تحمل شيئاً من اللامبالاة مع شيءٍ من الامتنان.

ركبتُ سيارتي وتابعتُ طريقي إلى مكة والدموع تذرف من عينَيّ، ولا أدري مصير هذه الليلة، فغداً هو آخر يومٍ في السماح لتحضيرات عرفات، وجميع المُطوّفين أنجزوا تحضير مخيماتهم.

ومن عجائب لطف الله، وقبل دخولي إلى مكة اتصل بي مطوّفٌ مسؤولٌ عن الحجاج السوريين، وبيني وبينه قطيعةٌ سببها خطأ وقع منه منذ عدة سنواتٍ، انقطعت معها أخباره عني، اتصل بي مُعاتباً ومُصالحاً ومُعتذراً عن خطأٍ عمره عدة سنواتٍ، وسألني عن حالي ووضعي في عرفات، وقال لي إن وزارة الحج زادت منذ ساعةٍ مساحة مخصّصاته في عرفات وأن لديه مساحةً تتسع لعدد أربعمائة حاج، وعرض عليّ المكان إذا كنتُ بحاجةٍ له، وأخبرني أنّه استلم الموقع وهو الآن بجوار الموقع في عرفات، تمالكتُ نفسي وقلتُ له إنني في طريقي إلى عرفات، وبعد أن أنهيتُ المكالمة صرختُ بأعلى صوتي قائلاً: "الله أكبر"، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم: [ربَّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه]. حوّلتُ اتجاهي من مكة إلى عرفات وذهبتُ إلى الموقع واستلمتُ منه المساحة المطلوبة، وسارعتُ بتجهيز المخيم على الشكل الذي وعدتُ به حجاجي، وانتهى الحج وأنا أسمع كلمات المديح والثناء من الحجاج والتي تنسبُ لي الخبرة والكفاءة ولا أحد فيهم يعلم أنّ ما نحن عليه من نجاحٍ هو بسرّ توفيق الله وبسرّ العون الإلهي، وبسرّ بركاتٍ خفيّةٍ لدعاء (أشعث أغبر) تقف خلفها خبرتنا عاجزةً محدودة.

 

أحبتي في الله .. وهذا رجلٌ تُوفي ولم يكن له غير ولدٍ واحدٍ، وكان أهل قريته يكرهونه ويعزفون عن وصله، ولكن الفاجعة أنه عند موته لم يأتِ أحدٌ ليدفنه أو يُساعد في دفنه؛ فأخذ الابن أبيه إلى الصحراء ليدفنه فيها، وفي طريقه رآه أعرابيٌ (أشعث أغبر) كان يرعى الغنم؛ فسأل الشاب: "أين الناس؟"، لم يُرد الابن أن يفضح أباه ويُخبر الأعرابي بالحقيقة فظل يردد: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم الأعرابي الأمر، ومد يده يساعد الشاب في دفن أبيه، ثم رفع الأعرابي يديه إلى السماء وظل يدعو في سره، ثم أخذ غنمه وذهب. في تلك الليلة حلم الولد أن أبيه يسرح في الجنة وهو في قمة سعادته؛ فسأله الابن: "ما بلغك يا أبي هذه المنزلة؟"، فأجاب الأب: "هذه بركة دعاء الأعرابي". فذهب الابن يُمشط الصحراء ليبحث عن ذلك الأعرابي عله يجد عنده السر خلف هذا الدعاء المُستجاب، ويطلب منه أن يدعو له، وبعد طول بحثٍ وجده فقال له: "أسألك بالله ما الدعاء الذي دعوته لوالدي وهو في قبره؟"، وقصّ عليه ما حصل معه في المنام في تلك الليلة؛ فقال الأعرابي: "يا ولدي، لقد رفعتُ يديي إلى السماء وقلتُ: اللهم إني كريمٌ إذا جاءني ضيفٌ أكرمته، وأنت أكرم الأكرمين؛ اللهم أكرم ضيفك".

 

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: [رُبَّ أَشْعَثَ أغبرَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أَقسم على الله لَأَبَرَّهُ]. "أَشْعَث" مُلبّد الشعر غير مدهونٍ ولا معتنىً به. "أَغْبَر" لونه كلون الغبار لقلِّة تعاهده بالنظافة بسبب فقره وحاجته. "مَدْفُوعٌ بِالأَبْواب" لا قَدْر له عند الناس فهُم يدفعونه عن أبوابهم ويطردونه عنها احتقاراً له بسبب فقره ورثاثة ثيابه. "لَو أَقْسَمَ عَلَى الله" لو حلف يميناً بحصول أمرٍ ما. "لَأَبَرَّهُ" لأعطاه ما حلف عليه لكرمه عند الله -عزّ وجلّ- ومنزلته.

 

كم من (أشعث أغبر) تقيٍ يعيش بيننا وبالقرب منا، ربما لا نأبه له، ولا نشعر به، ولا نعرف عنه شيئاً لكن تقواه أوصلته إلى أن يكون من الفائزين بحب الله، الذين أشار إليهم رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: منْ عادى لي وَلِيّاً فقدْ آذنتهُ بالْحرْب، وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ، وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه]. وقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيمَا يرْوِيهِ عنْ ربهِ عزَّ وجَلَّ: [إِذَا تَقَربَ الْعبْدُ إِليَّ شِبْراً تَقرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، وإِذَا تقرَّب إِلَيَّ ذِرَاعاً تقرَّبْتُ مِنهُ بَاعاً، وإِذا أَتانِي يَمْشِي أَتيْتُهُ هرْوَلَة].

 

ويقول أهل العلم إن الميزان ليس ميزان المظهر ولا الغنى ولا الجاه، بل هو تقوى الله عزّ وجلّ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فمن كان أتقى لله فهو أكرم عند الله، يُيَسر الله له الأمر، يُجيب دعاءه، ويكشف ضره، ويبر قسمه ما لم يُقسم بظلمٍ لأحد، ولا تألياً على الله، ولكنه يُقسم على الله في أمورٍ مباحةٍ تُرضي الله -عزّ وجلّ- ثقةً فيه، فليس شرطاً أن يكون المسلم بالضرورة (أشعث أغبر) حتى يبر الله له قسمه؛ بل إن هناك من هو (أشعث أغبر) لا يستجيب الله دعاءه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «... الرجل يُطِيلُ السفرَ أشعَثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماءِ، يا رب! يا رب! ومطعَمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حرامٌ، وغُذِّي بالحرامِ، فأنَّى يُستجَابُ لذلك؟»، فالأمر إذن مرتبط بالتقوى وما تتطلبه من البُعد عن الحرام والحرص على طيب المطعم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [... أطبْ مطعمَك تكُن مُستجابَ الدعوةِ ...]؛ فليست قيمة الإنسان بمظهره، ولا بغناه أو فقره، ولا بعشيرته ونسبه، ولا بما يتبوأ من مناصب، لكن العبرة بالتقوى ومكارم الأخلاق والعمل الصالح.

 

قال الشاعر:

كم مات قومٌ وما ماتت مكارمهم *** وعاش قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

الناسُ صنفان؛ موتى في حياتهمُ   ***   وآخرون ببطن الأرضِ أحياءُ

 

أحبتي .. علينا ألا نستخف بمن لا جاه له ولا منصب ولا مكانة اجتماعية، فقد يكون -ونحن لا ندري- من أكرم الناس عند الله بتقواه وعمله الصالح.

كما أن على كلٍ منا أن يحافظ محافظةً تامةً على الفروض، وأن يُكثر -قدر ما يستطيع- من النوافل؛ حتى يُحبه الله، فإذا أحبه استجاب لدعائه، وبره في قسمه إذا أقسم.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3EsztDK