الجمعة، 29 يونيو 2018

نعمة العقل


الجمعة 29 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤١
(نعمة العقل)

يُحكى أن شاباً أمريكياً عمره تسع عشرة سنة، دخل السجن بتهمة اختراق شبكة المخابرات الأمريكية وسرقة بعض أسرار الدولة، وكان يُلقب بالثعلب لشدة دهائه! كان والده رجلاً كبيراً في السن يعيش في منزلٍ وحده في نفس الولاية، أراد أن يزرع البطاطس داخل حديقة منزله ولكنه لا يستطيع لكبر سنه، فأرسل لابنه المسجون رسالةً قال فيها: "ابني الحبيب، تمنيت أن تكون معي لمساعدتي في حرث الحديقة لكي أزرع البطاطس؛ فليس عندي من يساعدني".
بعد فترةٍ استلم الأب رسالةً من ابنه تقول: "أبي العزيز، أرجوك إياك أن تحرث الحديقة؛ لأني أخفيت فيها شيئاً مهماً، وعندما أخرج من السجن سأخبرك ما هو". لم تمضِ ساعةٌ على استلام الأب رسالة ابنه، وإذا برجال المخابرات والشرطة الفيدرالية يحاصرون المنزل ويقلبون أرض الحديقة شِبراً شِبراً، ولما لم يجدوا شيئاً غادروا المنزل. وصلت رسالةٌ إلى الأب من ابنه في اليوم التالي: "أبي العزيز .. أرجو أن تكون الحديقة قد حُرثت بشكلٍ جيدٍ؛ هذا ما استطعت أن أساعدك به، وإذا احتجت لشيء آخر أخبرني"!

وقيل أن قاضياً حكم على مجرمٍ بالإعدام؛ فعُلِّقَت على رقبته لافتةٌ مكتوبٌ فيها نص الحكم: "الإفراج عنه مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم"، ومن شدة ذكاء أحد أقارب المجرم أن وضع نقطةً في الجملة غيرت معناها وأُطلق سراح قريبه. لقد وضع النقطة بين كلمتي: "عنه" و"مستحيل"!

أحبتي في الله .. إنها حقاً (نعمة العقل) التي أنعم الله بها على خلقه. والعقل لغةً من عَقَلَ؛ يُقال رجلٌ عاقلٌ، أي: جامعٌ لأمره ورأيه؛ فالعقل يعقِل صاحبه، أي يحبسه عن التورُّط في المهالك. وقيل: العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردُّها عن هواها.
واصطلاحاً، يُعَرَّف العقل بأنّه مجموعةٌ من القدرات المتعلّقة بالإدراك، والتقييم، والتذكّر، وأخذ القرارات، وهو ينعكس في بعض الحالات على الأحاسيس، والتصورات، والعواطف، والذاكرة، والتفكير، والرغبات، والدوافع، والخيارات، واللاوعي، بالإضافة إلى التّعبير عن السّمات الخاصة بالشّخصيّة.
وفي حياتنا اليوم نستخدم عبارة "الإنسان العاقل" في مقابل "الإنسان المجنون"، أو "الإنسان العاقل" في مقابل "الإنسان المتهور المندفع". فالعقل ليس عضواً من أعضاء الجسد، ولكنَّه ملكةٌ إدراكيةٌ تتعاون جميع الأعضاء الظّاهرة والباطنة في الإنسان من أجلها.
والعقل له مكانةٌ كبيرةٌ في الإسلام، فلولا العقل لما كان الشَّرع، لأنَّ الشَّرع لا يأتي إلاَّ للمكلّفين.

في دراسةٍ لأحد علمائنا الأفاضل عن الآيات التي تحدثت عن العقل في القرآن الكريم أوضح ما يلي:
ذُكر العقل بصيغة الفِعل في تسعةٍ وأربعين موضعاً، ولم يَرِدْ بشكلِ المصدر أو على صيغة الاسم مطلقاً، وكل أفعال العقل تدلُّ على عملية الإدراك والتفكير والفهم لدى الإنسان، ويمكن حصر هذه الأفعال بما يلي:
ورد بصيغة "تعقلون" في أربعةٍ وعشرين موضعاً في القرآن؛ منها قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. وورد بصيغة "يعقلون" في اثنينِ وعشرين موضعاً؛ منها قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾. وورد بصيغة "يعقِلُها" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾. وورد بصيغة "نعقل" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. وورد بصيغة "عقَلوه" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
وقد وردت كلمة "الألباب" جمع لُب، في القرآن في صفة أصحاب العقول ستَّ عَشْرةَ مرة؛ منها قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وقد وردت بلفظ "النُهىٰ" لتدل على أصحاب العقول أيضاً مرتين؛ وبنفس الكلمات: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ﴾.
وورد لفظ "القلب" في مائةٍ وأربعةٍ وأربعين موضعاً ليدلَّ على العقل أيضاً في إحدى دلالاته، قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾، وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
وورد بلفظ "الحِجْر" ليدل على العقل مرةً واحدةً؛ قال تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾.
وورد بصيغة "فكَّر" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾. وورد بصيغة "تتفكَّروا" مرةً واحدةً أيضاً في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾. وورد بصيغة " تتفكَّرون" ثلاث مراتٍ؛ منها قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾. وورد بصيغة "يتفكَّروا" مرتين؛ منها قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾. وورد بصيغة "يتفكَّرون" إحدى عشرة مرةً، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

وفي السنة الشريفة؛ يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: [ما اكتسب المرء مثل عقلٍ يهدي صاحبه إلي هدي أو يرده عن ردي].
وعن ذكائه عليه الصلاة والسلام أن أسيراً وقع في يد المسلمين قبل غزوة بدر، أخذ الصحابة يحاولون أن يعرفوا منه عدد المشركين فلا يخبرهم ويقول لهم: "هم كثيرٌ عددهم، شديدٌ بأسهم"، حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: [كم القوم؟] فيقول: "هم كثيرٌ عددهم، شديدٌ بأسهم"، فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم فأبى، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: [كم ينحرون من الجزر؟]، فقال: "عشراً لكل يوم"، فقال صلى الله عليه وسلم: [القوم ألف كل جزور لمئة وتبعها].
ومثالٌ آخر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ، ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ]؛ حتى يبين للناس أن سبب نقض وضوئه هو الرعاف وهو دمٌ يخرج من الأنف، فيبعد الإحراج عن نفسه، ولا يعرض نفسه للسخرية من قبل بعض الناس.
ومثالٌ ثالث؛ قال رجل: "يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني"، فقال عليه الصلاة والسلام: [انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ]، فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس عليه فقالوا: "ما شأنك؟"، قال: "لي جارٌ يؤذيني فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: [انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ]"، فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم اخزه، فبلغه فأتاه، فقال: "ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك".
ومن أمثلة ذكاء الصحابة، جاءت امرأةٌ إلى على ابن أبي طالب، رضي الله عنه، وقالت: "إن أخي مات وخلف ستمائة دينار، وقد دفعوا لي منها ديناراً واحداً، وأسألك إنصافي"، فقال لها: "خلف أخوك بنتين فلهما الثلثان؛ أربعمائة دينار، وخلف أُْماً فلها السدس؛ مائة دينار، وخلف زوجةً فلها الثُمن؛ خمسة وسبعون ديناراً، وخلف معك اثنا عشر أخاً لكل أخٍ ديناران، ولك دينارٌ واحدٌ".
لم تُعطِ المرأة أية معطيات سوى أنها ذكرت أن التركة ستمائة دينار وأن نصيبها دينارٌ واحدٌ فافترض رضي الله عنه المسألة كاملةً وحكم بعدالة القسمة!
وسُئل أعرابيٌ عن الدليل على وجود الله قال: "إنَّما السير يدلّ على المسير، والبعرة تدلّ على البعير، وهذا الكون بأفلاكه يدل على القدير".

يقول علماؤنا الأفاضل أن من أعظم نعم الله علينا (نعمة العقل)، التي كرّمنا الله بها على سائر مخلوقاته، والعقل هو الفهم والإدراك لحقائق الأمور وحسن التدبير، وقد أمرنا الله عزَّ وجل باستخدامه بالتفكير والتأمل، والاستفادة منه في شؤون الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وأعظم ثروةٍ حقيقيةٍ يمتلكها الإنسان هي ثروة العقل، فبه يسمو ويرتفع، وبه يميّز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، والنافع والضار، وبه تُعرف الفضيلة من الرذيلة، وبه يُعبد الله على بصيرةٍ. لقد جعل الإسلام النظر العقلي واجباً دينياً، وجعل ممارسة الوظائف العقلية فريضةً إلهيةً؛ بل ومسؤوليةً سيحاسَب على مدى حُسن أو إساءة استخدامه لها. فالإسلام أعظم دينٍ حرَّر العقل من قيوده، وأطلق له الحريّة ليتفكّر، وجعل الحجة العقلية أساس كلّ إيمانٍ؛ لهذا من رُفِع عنه العقل، بغير إرادته، فهو معذورٌ غير محاسبٍ، وأجمل ما في العقل إرشاده ودلالته للإيمان بالله وحده لا شريك له وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، فمهما أوتي الإنسان من علمٍ ومعرفةٍ لا توصله للإيمان بالله وحده لا شريك له وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ويتبع ما جاء به فليس بعاقلٍ، بل وكان عقله وبالاً عليه.

أحبتي .. ورد في الأثر "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ"؛ فليكن لنا من الكياسة والفطنة ما يجعلنا نُحسن استخدام هذه النعمة (نعمة العقل)، فنُعمل عقولنا في استعدادنا للدار الآخرة كما نُعملها في تعاملنا مع الحياة الدنيا. إننا لو فكرنا بمنطق المكسب والخسارة؛ سنكتشف أن الإيمان هو اختيار الأذكياء، العقلاء ذوي الألباب والأفهام السليمة، وكلما ابتعدنا عن المعاصي، واقتربنا من المولى عزَّ وجل بالعبادات والنوافل وأعمال الخير وحسن التعامل مع غيرنا، وقدَّمنا شرع الله على ما عداه، وجعلنا الأولوية المطلقة لطاعة الله والحرص على إرضائه، أدهشنا الله سبحانه وتعالى بعطائه في الدارين: في الدنيا والآخرة، أليس هو القائل في كتابه الكريم: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؟

اللهم ثبتنا على الإيمان، ويَسِّر لنا كل عملٍ صالحٍ، وأحينا اللهم في الدنيا حياةً طيبةً، وجازِنا في الآخرة، كما وعدتنا، أجرنا بأحسن ما كنا نعمل.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

 هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/Lg4nwZ