الجمعة، 9 يونيو 2017

الهرم المقلوب!

الجمعة 9 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة/ ٨٧
(الهرم المقلوب!)

خبرٌ عاجلٌ تناقلته وكالات الأنباء: "فوجئ زوار منطقة الأهرام في جمهورية مصر العربية صباح اليوم بأن أهرامات الجيزة الثلاثة تقف مقلوبة؛ قاعدتها العريضة لأعلى تواجه السماء، وقمتها الرفيعة لأسفل تلامس الأرض، وكأنها قد تحولت إلى ثلاث مظلات!". وأضافت وكالات الأنباء القول: "لم تتوفر بعد الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة الغريبة غير المسبوقة والتي لم تحدث منذ سبعة آلاف سنة وقت بناء تلك الأهرامات، كما لم تصدر حتى الآن أية بيانات رسمية من الجهات المعنية حول هذا الموضوع. وسنواليكم تباعاً بكل جديدٍ حول هذا الأمر".
بعد انتشار هذا الخبر بدأ البشر في جميع أنحاء العالم يتابعون التغطية المباشرة لهذا الحدث العجيب من خلال البث الحي الذي تقدمه القنوات الفضائية، ويتحولون بواسطة جهاز التحكم عن بُعد "الريموت كنترول" بين تلك القنوات ليستمعوا إلى الخبراء والمتخصصين وهم يحاولون أن يقدموا تفسيراً لما حدث!

أحبتي في الله .. كانت هذه مقدمةً خياليةً لم تحدث بالطبع، لكني أردت أن أنقل لكم مفهوم (الهرم المقلوب!) بصورةٍ ملموسة، إنه مفهومٌ يعتمد على فكرة التوزيع غير المتكافئ أو الترتيب غير المنطقي أو الأولويات المعكوسة.
أهراماتنا المصرية الثلاثة التي ذكرناها على سبيل التوضيح ليست سوى حجارةٍ لا تضر ولا تنفع، ولن يَحدث فرقٌ كبيرٌ إذا هي وقفت معتدلةً أو مقلوبة. أما أهراماتنا المقلوبة التي أريد أن أنبه إليها فهي تلك التي توجد في حياتنا اليومية نحن المسلمين، وهي كثيرةٌ ومتعددة، وهي مهمةٌ لأنها تُحدث فروقاً كثيرةً في حياة كلٍ منا، ولأن لها تأثيراتٍ مباشرةً على كل مسلم.

من هذه الأهرامات المقلوبة ومن وحي رمضان فقط دون غيره:
ترى المساجد في ليالي شهر رمضان وهي تعج بالمئات والآلاف في صلاة التراويح، وبعض المساجد إذا تأخرت في الوصول إليها قليلاً لا تجد فيها موضعاً لقدم فتُضطر للصلاة بالحدائق أو الأرصفة أو الشوارع المحيطة بالمسجد.
ثم انظر لهذه المساجد وقت صلاة الفجر، لن تجد سوى العشرات! رغم أنه في رمضان تحديداً تصل أعداد المصلين، خاصةً وقت الفجر، ذروتها؛ لخصوصية هذا الشهر وما يتميز به من أجواءَ إيمانيةٍ ونفحاتٍ روحانيةٍ ولأن الكثير من الناس يكونون مستيقظين قرب وقت الفجر لحرصهم على صلاة التهجد ولقرب موعد صلاة الفجر مع وقت تناول وجبة السحور.
الغريب في الأمر أن الآلاف يصطفون بهمةٍ، هُم وأسرهم، لأداء سُنة، أما أداء الفرض، وهو الأصل، فيضيعونه ولا يهتمون به اهتمامهم بصلاة التراويح، فيتضاءل عدد من يصلي الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد ويقل بشكلٍ ملحوظ.
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!)؟

وانظر إلى مكة المكرمة هذه الأيام من شهر رمضان تراها تزدحم بمئات الآلاف من المعتمرين، حتى أن الطواف حول الكعبة توقف لأول مرة في التاريخ من شدة الزحام في شهر رمضان الحالي، وسيسجل التاريخ أن هذا حدث في العام ١٤٣٨هـ.
هل لنا أن نتصور أن هذا الأمر لم يحدث أبداً في أي موسم من مواسم الحج!
الازدحام على السُنة أكثر من الازدحام على أداء ركنٍ من أركان الإسلام الخمسة!
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

ثم هل لك أن تتخيل كم يدفعون لحجز أماكن في الفنادق التي تُطل على الحرم ليُصَلُّوا التراويح في شهر رمضان؟ قيمة إيجار الغرفة في فندقٍ مجاورٍ للحرم هو عشرة آلاف ريال لليلة الواحدة في العشر الأولى من رمضان، وتصل إلى أكثر من سبعين ألف ريال لليلة الواحدة في العشر الأواخر من الشهر الكريم! لو حسبناها بالجنيه المصري لوجدنا أن إيجار الغرفة لليالي العشر الأوائل يقترب من نصف مليون جنيه، أما قيمتها في الليالي العشر الأواخر فتزيد عن ثلاثة ملايين جنيه مصري! هذا إيجار الغرفة فقط، غير الأكل والشرب والانتقالات وميزانية شراء الهدايا إضافةً إلى ما يتم دفعه لاستخراج التصاريح فضلاً عن تكلفة تذاكر الطيران!
ورغم صدور أكثر من فتوى تجيز لمن نوى أو اعتزم أداء العمرة، خاصةً من سبق له أداؤها، ثم أنفق ما كان قد خصصه من مال لهذا الغرض على فقراء المسلمين فقد كسب ثوابين: ثواب عُمرة لم يؤدها وثواب الصدقة، رغم ذلك فكم من فقيرٍ ومحتاجٍ من أبناء المسلمين تمر عليه أيامٌ دون طعام؟ وكم منهم لا يجد ماءً نظيفاً يشربه؟ وكم منهم لا يجد ثوباً واحداً يستر جسده؟ وكم منهم يعيش دون مأوى؟ وكم من المسلمين تقتلهم أمراضٌ لا يملكون ثمن شراء دوائها؟ وكم منهم لا يجد مسجداً يصلي فيه إلا في عريشٍ لا يكاد يحميه من حرٍ ولا بردٍ ولا مطر؟!
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

ولو نظرت إلى حال بعض المسلمين خاصةً الشباب منهم وكيفية تعاملهم مع الوقت في هذا الشهر الفضيل لتعجبت غاية العجب؛ فمنهم من ينام طوال النهار ويستيقظ على وقت الإفطار، ثم هو يجد كل الوقت بعد الإفطار لأن يتوجه إلى أحد المقاهي أو الكافيهات ليلتقي شباباً غيره يدخنون السجائر والأرجيلة ويلعبون الورق. ومنهم من يفضل البقاء في البيت بعد الإفطار يتابع المسلسلات والفوازير والأفلام ويظل يتنقل وراءها ويتابعها من قناةٍ فضائيةٍ إلى أخرى. ومنهم من تستهويه مواقع التواصل الاجتماعي فيوزع وقته بين الفيس بوك وسناب شات والواتس آب والتيليجرام وجوجل بلس وتويتر والمسنجر وڤايبر وإسكايب وغيرها من برامج وتطبيقات.
ومع ذلك فهو لا يجد وقتاً للصلاة أو القرآن أو ذكر الله أو أعمال الخير والبر؛ فلا اهتمام بالصلاة المفروضة ولا السنن والنوافل، ولا اهتمام بالقرآن الكريم لا حفظاً ولا تلاوةً ولا تدارساً لتفسيره أو أسباب نزوله، بل قد يمر شهر القرآن كله ولم يقرأ صفحةً واحدةً من المصحف، أو يحفظ ولو حديثاً نبوياً شريفاً، ولا هو خصص وقتاً لذكر الله، ولا قام بعمل خير ولا عمل بر.
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

لو استرسلت في ذكر الأهرامات المقلوبة في حياة أمتنا الإسلامية لعرضت منها الكثير والكثير.
أما نحن كأفراد ففي حياة كلٍ منا وواقعه عشراتٌ من الأهرامات المقلوبة تحتاج إلى أن نعيدها إلى وضعها الطبيعي ولا نتركها على حالها المقلوب!

أحبتي .. أرجو ألا يُفهم مما كتبت أن جميع أحوالنا كمسلمين مقلوبة، فما قصدته هو التنبيه على بعض المظاهر التي تحتاج إلى إعادة نظر على ضوء ما ينبغي أن يكون، وعلى ضوء فقه الأولويات وتقديم الأهم على المهم وتقديم المهم على الأقل أهمية واستبعاد ما لا أهمية له ولا فائدة من ورائه.
ديننا دين العقل والمنطق والحكمة .. دين إنزال النصوص على الواقع المعاش .. لا ينبغي أبداً أن نعكس الأولويات فنقدم سُنةً على فرض أو نقدم بدعةً على سُنة؛ فتضيع منا جهودٌ وأوقاتٌ وأموالٌ في أعمالٍ محدودة الثواب لو أنا كنا خصصناها لفروضٍ وعباداتٍ وأعمالِ بِرٍ لأتت لنا بثوابٍ عظيم.

أحبتي .. على كلٍ منا أن ينظر إلى أهراماته في حياته الشخصية، في رمضان وفي غير رمضان، في مجال الدين وفي غيره من المجالات، إن كانت معتدلةً فبها ونعمت، وإن كان البعض منها مقلوباً فليسأل نفسه: "أما آن الأوان لأعدل هذه الأهرامات؟"، "أما آن الأوان لأن أستعدل كل ما هو مقلوبٌ لتستقيم حياتي؟".
علينا ألا نقوم بأفعالٍ، مهما بدت لنا طيبةً ومقبولة، لمجرد أننا تعودنا عليها، بل لابد أن نسأل أنفسنا دائماً: "هل ما نفعله صحيح أم لا؟"، فإن كان صحيحاً لابد أن نسأل أنفسنا: "هل يوجد ما هو أكثر منه صحةً وأفضل منه؟".
نحن مطالبون أحبتي بتغيير أحوالنا إلى الأحسن وإلى الأفضل والأكثر نفعاً والأعظم ثواباً؛ يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم ممن يقيمون شرعك ويُعلون كلمتك ويكون إسلامهم عقيدةً وعملاً وسلوكاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.