الجمعة، 17 أكتوبر 2025

صِدق التوكل على الله

 

خاطرة الجمعة /521

الجمعة 17 أكتوبر 2025م

(صِدق التوكل على الله)

 

في أحد أيام شهر رمضان المُبارك، خرج رجلٌ يمنيٌ مُقيمٌ في «المملكة العربية السعودية» ويعمل سائقاً، خرج برفقة كفيله الذي يرغب في توزيع زكاة ماله على المُحتاجين في القُرى الفقيرة الواقعة على خط الساحل.

يقول السائق: كانت الزكاة مُوزعةً في أظرُفٍ، كل ظرفٍ يحتوي على خمسة آلاف ريال، وبينما كُنا نُغادر إحدى القُرى مُتجهين نحو طريق «جدة – جيزان»، لمحنا رجلاً مُسِّناً يمشي وحيداً على الطريق العام، كان يبدو في السبعين من عُمره، لكنه قوي البنية، ثابت الخُطى، استغرب كفيلي وقال: “ما الذي يفعله هذا الرجل في هذا المكان، وفي هذا الوقت، وسط الصحراء؟”، فقلتُ له: “لا شك أنه يمنيٌ دخل تهريباً”، توقفنا عنده وسلّمنا عليه وسألناه: “مِن أين أنتَ؟”، فأجاب: “مِن «اليمن»”، قُلنا: “إلى أين تتجه؟”، قال: “إلى بيت الله، مُشتاقٌ له”، سألناه: “هل دخلتَ البلاد بطريقةٍ نظاميةٍ؟”، قال: “لا واللهِ، دخلت تهريباً”، سألناه عن السبب؛ فقال: “كان عليّ أن أدفع ألفي ريال تأمين، وليس لدي سوى مئتي ريال، دفعتُ مائةً للركوب، وبقيت لي مائةٌ فقط”، سأله كفيلي: “كم مضى عليك وأنت تمشي؟”، فأجاب: “ستة أيامٍ”، ثم سأله: “هل تُفطر؟”، فقال: “لا، أنا صائمٌ”، سألناه كيف تجاوز خلال هذه الأيام نقاط التفتيش الأمنية دون أن يُستوقَف؛ فقال: “واللهِ الذي لا إله إلا هو، كُنتُ أمرّ أمامهم ولا يُكلمني أحد”، سألناه: “هل جئتَ للعمل؟”، فقال: “لا واللهِ، جئتُ مُشتاقاً لبيت الله، أُريد أن أؤدي عُمرةً”. ثم أخبرنا أنه قبل خمسين كيلو متر أوقفته دوريةٌ ونقلته بالسيارة إلى مركز شُرطة على بُعد كيلو مترٍ واحدٍ من مكاننا، حققوا معه، فحلف لهم أنه يقصد بيت الله، فأطلقوا سراحه. سُبحان الله الذي سخَّر له رجال الأمن لينقلوه إلى هذا المكان الذي نحن فيه، حتى يُيسر له أمره!

دعاه كفيلي لأن يركب معنا سيارتنا، كي يرتاح قليلاً؛ فركب معنا، وبعد أن استراح، أخرج كفيلي ظرفين من أظرُف الزكاة وأعطاهما للرجل، وقال له: “خُذ هذه من زكاة المال”، شكرنا الرجل، دون أن يعلم كم المبلغ داخل الظرفين، فسألناه: “هل تعرف العملة السعودية؟”، قال: “نعم”، فقُلنا له: “افتح الظرفين وخبّئ المال في حزامك حتى لا يضيع”. فتح الرجل الظرفين، وعندما رأى عشرة آلاف ريالٍ، نظر إلينا مذهولاً وقال: “هل هذا كله لي؟”، قُلنا: “نعم، لك”، ففوجئنا به يسقط مغشياً عليه داخل السيارة، أحضرنا زجاجة ماءٍ وبدأنا نرش عليه الماء حتى أفاق وظل يصيح: “هل هذا المال كله لي؟ هل هذا المال كله لي؟” ثم انفجر في بُكاءٍ شديدٍ، بُكاءٍ يهزّ الحجر، سألناه: “يا عم، لماذا هذا البُكاء الشديد؟”، قال الرجل: “لديّ بيتٌ في «اليمن»، وبجانبه قطعة أرضٍ وهبتها لله، وبنيتُ عليها أنا وأولادي مسجداً من الحجر والطين، اكتمل بناء المسجد، لكن بقي الفرش وبعض الأمور البسيطة، وكنتُ أُفكر كيف أفرشه؟”. بكينا تأثراً، وقام كفيلي بإعطائه ظرفين إضافيين، ليُصبح المبلغ عشرين ألف ريال. وقبل أن ينزل الرجل من السيارة، كان يُتمتم بالدُعاء وهو يبكي.

 

وهذا أحد الأفاضل يروي عن (صِدق التوكل على الله) قصةً أُخرى فيقول: في إحدى الليالي شعرتُ بشيءٍ من القلق والضّيقِ، فخرجتُ أتمشَّى في الهواء الطلق، وبينما أنا أمشي في الحيّ مَررتُ بمسجدٍ فقلتُ: لِمَ لا أدخل وأُصلِّي فيه ركعتين لعلِّي أجد الراحة والاطمئنان؟ دخلتُ، فإذا بالمسجدِ رجلٌ قد استقبل القِبلة، ورفع يديه يدعو ربَّه ويُلِّحُّ عليه في الدُعاء، فعرَفتُ مِن طريقته وصوته أنَّه إنسانٌ مكروبٌ مهمومٌ جداً، بقيتُ أنتظر حتى فرغ الرجل من دعائه، فاقتربتُ منه وقُلتُ له: "يا أخي، رأيتُك تدعو وتُلحّ في الدُّعاء كأنَّكَ مهمومٌ ومكروبٌ، فما خبرك؟"، قال: "واللهِ يا أخي، عليَّ دَيْنٌ أرَّقني وأقلَقني"، فقلتُ له: "كَم يبلغ دَيْنُك؟"، قال: "أربعة آلاف درهمٍ"، فأخرجتُ من جيبي أربعة آلاف درهمٍ وأعطيتُها إيَّاه، فكاد الرجلُ يطيرُ من شِدَّة الفرَح، وشكرني كثيراً، ودعا لي كثيراً، أخذتُ بِطاقةً فيها اسمي ورقم هاتفي وعنوانُ مكتبي، وقُلتُ له: "يا أخي، خُذ هذه البِطاقة، وإذا كان لك أيّة حاجةٍ مهما كانت فلا تتردَّد في زِيارتي أو الاتصالِ بي متى شئت"، ظننتُ أنَّه سيفرحُ بهذا العرض، لكنني فوجئتُ بجوابه إذ قال: "لا يا أخي، جَزاكَ اللهُ خيراً، لا أحتاج إلى هذه البِطاقة، فكلما احتجتُ حاجةً سأُصلي للهِ وأرفعُ يديَّ إليه وأطلبُ منه حَاجتي، وسَيُسِّخرُ الله قضاءها كما يسّرها هذه المرَّة"!

 

أحبتي في الله.. التوكل على الله عبادة الصادقين، وسبيل المُخلصين، أمر الله تعالى به أنبياءه المُرسلين؛ يقول رب العالمين: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِير﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وأمر به عباده المؤمنين؛ يقول تعالى في سبعة مواضع من القرآن الكريم: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

 

هاتان القصتان تُجسدان قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾؛ ففي القصة الأولى لم يكن هَم الرجل مالاً ولا وظيفةً، بل كانت غايته عُمرةً في بيت الله، فأتاه المال مُضاعفاً من حيث لا يحتسب، كما أن بكاءه حين رأى المال، لم يكن بكاء طمعٍ، بل بكاء شُكرٍ، لأنه يستطيع الآن أن يستكمل فرش المسجد الذي بناه لله. وفي موقف رجال دورية الأمن الذين أوصلوه لمركز الشُرطة القريب من هذين الرجلين الذين يسعيان إلى توزيع مال الزكاة، وتصديق المُحققين بمركز الشُرطة له وإطلاقهم سراحه، ووجود رجل الخير الذي أعطاه من أموال الزكاة، في كل ذلك تتجلى رحمة الله التي يسوقها على أيدي عباده، لمن صدق في نيته، وأخلص في وجهته؛ فالرجل اليمني لم يكن يملك إلا مئتي ريالٍ، لكنه حمل في قلبه شوقاً صادقاً إلى بيت الله، وصَبَرَ على المشقة، وصام في السفر، وتوكل على الله حق التوكل؛ ففتح الله له أبواباً من الرحمة ومن الرزق لم تخطر له على بال. فمِن (صِدق التوكل على الله)، أن يسعى الإنسان بقلبه قبل قدمه، وأن يثق في أن الله لن يُضيِّعه ولو مشى على قدميه ستة أيامٍ في الصحراء.

إنها قصةٌ تُكتب بماء العين، وتُروى لتُحيي القُلوب، وتُعلِّمنا أن من جعل الله غايته، جعل الله له كل شيءٍ وسيلةً. لقد صدق فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومَن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ].

وفي القصة الثانية تجسيدٌ حيٌ للحديث الشريف: [لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزق الطيرَ: تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا]؛ فهذا الرجل صاحب الدَيْن علِم أن حل مُشكلته يكمن في إخلاص الدُعاء لله سُبحانه، واثقاً بغير شكٍ في أن الله عزَّ وجلَّ سوف يستجيب لدعائه؛ فهو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فسمى الدُعاء عبادةً، ووعد من دعا بالاستجابة، وتوَّعد من استكبر عن الدُعاء بدخول النار. وأتى تدبير الله سُبحانه مُحقِقاً لوعده؛ إذ سخَّر له مَن شعر بالقلق والضيق؛ فخرج من منزله ليتمشى في الهواء الطلق؛ فشاهد مسجداً؛ فقرَّر دخوله ليشعر بالراحة والاطمئنان؛ فوجد ذلك الرجل صاحب الدَيْن؛ فسأله عن حاجته، فيسَّر الله تعالى له أن يكون في جيبه هذا المال، فأعطاه للرجل الغريب ليسد دَيْنه! وهذا كله من تدبير الله سُبحانه وتعالى لرجلٍ توكَّل عليه وصَدَقَ في توكله.

 

ولا يتنافى (صِدق التوكل على الله) مع ضرورة الأخذ بالأسباب؛ يقول العُلماء إن الأخذ بالأسباب هو هَدي سيد المُتوكلين على الله –صلوات الله وسلامه عليه- في يوم الهجرة وفي غيره؛ إذ أن عدم الأخذ بالأسباب قدحٌ في التشريع، والاعتقاد في الأسباب قدحٌ في التوحيد؛ قال رجُلٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟ قال: [اعقِلْها وتوكَّلْ]؛ لذا فإن عدم السعي ليس من التوكل في شيءٍ، وإنما هو اتكالٌ أو تواكلٌ حذَّرنا منه شرعنا الحنيف.

 

وعن (صِدق التوكل على الله) قال الشاعر:

توكلتُ في رزقي على اللهِ خالقي

وأيقنتُ أن اللهَ لا شكَ رازقي

وما يكُ مِن رزقي فليسَ يفوتني

ولو كانَ في قاعِ البحارِ العوامقِ

سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بفضلهِ

وَلَو لَمْ يَكُن مِني اللِسـانُ بِناطِقِ

ففي أي شيءٍ تَذهَبُ النَفْسُ حَسْرةً

وَقَد قَسَمَ الرَحْمَنُ رِزْقَ الخَلائقِ

وقال آخر:

وكيفَ أخافُ الفقرَ واللهُ رازقي

ورازقُ هذا الخَلقَ في العُسْر ِوَاليُسْرِ

تَكَفَّلَ بِالأَرْزاقِ لِلْخَلقِْ كُلِهم

وَلِلْضَبِ في البَيْداءِ وَالحُوتِ في البَحْرِ

وقال ثالثٌ:

إذا عَزَمتَ لِفِعلِ أمْرٍ

فاجْعَل التَوكلَ مَرْكَبةَ العُبورْ

وإذا عَصاكَ الدَهْرُ يَوْماً

فاسألَ المَولى لتَسْهيلِ الأمورْ

لا تَجْزَعْ لِضيقِ الرِزقِ أبَداً

يَرْزُقُ العُصْفورَ مِنْ بَيْن النسورْ

وَاعْلَم بأنَّ اللهَ يَعْلَمُ

نَظْرَةَ العَينِْ وما تُخْفي الصُدورْ

كُنْ شاكِراً ما دُمْتَ حَياً

وَاعْلَم بأنَّ الدُنيا أيامٌ تَدورْ

 

أحبتي.. يقول أهل العِلم إن (صِدق التوكل على الله) وتفويض الأمر إليه سُبحانه، وتعلق القلوب به جلَّ وعلا، من أعظم الأسباب التي يتحقق بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، وتُقضى بها الحاجات، وكلما تمكنت معاني التوكل من القلوب تحقق المقصود أتم تحقيق.

اللهم ألهمنا رُشدَنا، وسَدِّد خُطانا، وارزقنا حُسن التوكل عليك، واجعلنا من المتوكلين عليك في جميع أمورنا، وفي كل أوقاتنا.

https://bit.ly/498VSYF