الجمعة، 31 ديسمبر 2021

غض البصر

 

خاطرة الجمعة /324


الجمعة 31 ديسمبر 2021م

(غض البصر)

 

يقول الراوي: حدثنا ثقةٌ من إخواننا فقال: تردد عليَّ شابٌ صغيرٌ كان يأتي الدرس مرةً ثم يغيب مراتٍ، لم أرَ مثله في مهارة التعرف على الناس، خاصةً على الفتيات؛ إذ كان شاباً رياضياً وسيماً يبحث عن فتاةٍ جميلةٍ ليتزوجها. زارني بعد انقطاعٍ لفترةٍ شاكياً أحواله؛ فنصحته بالزواج السريع، خصوصاً أنه ميسور الحال، فقال -لكثرة ما طافت عيناه- بأنه لم يجد بعد الفتاة التي يُعجبه جمالها، فأوصيته بتقوى الله وأن يختار ذات الدين، وأن يُبادر إلى الحلال، فاستمع إليّ ثم مضى.

بعد فترةٍ أخبرني بأنه وجد مبتغاه، وقد خطب وتزوج، فحمدتُ الله، ودعوتُ له: "بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير"، ثم قلتُ له: "إن من رحمة الله بك أن يَسّر لك الأمر، ولم يخرج بك الشيطان إلى مصيبةٍ لا تنجو منها، فاستغفِر الله مما مضى، وعاهِد الله على الاستقامة فيما بقي". مضت مدةٌ ثم اتصل بي وأخبرني على الهاتف أن بينه وبين زوجته خلافات؛ فهو يريدها أن تستتر قليلاً! وهي تقول: "أنا أبقى مثلما أخذتني"، واستيقظت فيه بقية غيرةٍ فأصرّ، وأصرّتْ، وتلاحيا، ثم تذكر أن له شيخاً قديماً، فطلب منها أن يكون هو الحكم، وقبلت هي بفطرتها، فاتصل بي وأخبرني بأنه قد عجز عن إقناعها، ويجب أن أعتبره مثل ابني وزوجته مثل بنتي، فهل أرضى أن يبقى حالهما هكذا؟ وافقتُ وضربتُ لهم موعداً، وأتيا، فلما دخلت مع زوجها، استغفرتُ الله ونظرتُ إلى الأرض، لم تكن امرأةً جميلةً فحسب، بل لو جُمع نصف جمال نساء أهل الأرض ثم أُلقي على امرأةٍ واحدةٍ لكانت هي تلك المرأة، وصرتُ أستغفر الله في سري، وأقول يا رب: "ما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ بنتٌ من بنات المسلمين، هبها سترك ورضاك"، وجلستُ وأنا غير مرتاحٍ، وتكلم زوجها، وتكلمت هي وأنا أنظر إلى غير الجهة التي جلست بها، وكانت تسأل أسئلةً توحي بأنها لم تسمع أن هناك في أحكام المسلمين حلالاً أو حراماً! صرتُ أستعين بالله، وأجتهد بإخلاص النية ما استطعتُ، وأرجو الله أن يدفع عنها وعن زوجها الأذى، ويرزقهما حُسن الرجعة إليه، وصرتُ أدعو بأن تنتهي أسئلتهما في أقصر وقت، وأجبتهما بما أعرف، ومزجتُ الفتوى مع التقوى، والحكم مع الموعظة، وشرحتُ لهما ما ظننته يُقربهما إلى الطاعة، ثم انصرفا فتنفستُ الصعداء، وحدّثتُ نفسي ألا أدخل في مثل هذا ثانية.

مرت مدةٌ من الزمن وكنتُ واقفاً يوماً عند الصندوق بعدما اشتريتُ أغراضاً من أحد المحلات، فإذا بشخصٍ يتناول شيئاً من فوق أحد الرفوف يكاد يصدمني فابتعدتُ عنه، ونظرتُ إليه؛ فإذا بها تلك الأخت التي زارتني قبل مدةٍ مع زوجها، فدُهشتُ أنا وفوجئت هي، واحترتُ لثوانٍ فيما أصنع، وخشيتُ إن تجاهلتها أن تُسيء الظن بكل أهل الدين، وإن كلمتها أن أفتح باباً يفرح الشيطان به، وظننتُ أن الناس كلهم ينظرون إليَّ وإليها، أنا بلحيتي ولباسي، وهي بسفورها وتبذلها، ثم اتخذتُ قراراً وأطرقتُ إلى الأرض قائلاً: "السلام عليكِ يا أختي، كيف أحوالكم؟ أرجو أن تكونوا بخير، وسلمي على زوجك، السلام عليكم"، وانصرفتُ، وفم صاحب الصندوق مفتوحٌ من الدهشة، وخرجتُ وأنا أحس بألمٍ شديدٍ لحالها، وأدعو على من يجعل بنات المسلمين هكذا نهباً لكل عين، وترقرقت دمعةٌ على خدي شفقةً عليها وحيرةً مما يلزم لإصلاح مثل تلك الأحوال.

في اليوم التالي اتصل بي زوجها بالهاتف وقال بدهشةٍ واستغرابٍ شديدين: "ما الذي قلته لزوجتي البارحة؟"، سقط قلبي من الحيرة والاندهاش؛ أستغفر الله أن أكون قد قلتُ ما لا ينبغي قوله! لعلها ماكرةً أو ساذجةً أو توهمت شيئاً لم أقله، مرت ثوانٍ كأنها دهرٌ ريثما أردف زوجها قائلاً: "هل تعلم أنها لم تنم البارحة، وبقيت تبكي طوال الليل بسببك!"، فاستعذتُ بالله، وخفتُ حقيقةً، وقبل أن أتكلم تابع حديثه: "لقد قالت لي زوجتي: عندما وضع أستاذك بصره في الأرض وكلمني، شعرتُ لأول مرةٍ في حياتي أنني أعصي الله، ولا أدري كيف عدتُ إلى البيت وكأنني لستُ تلك الفتاة الفاتنة التي تُسَر كلما تسمرت الأبصار تنظر إلى فتنتها الخارقة وجمالها الأخاذ، وفي البيت أحسستُ بكل الغفلة التي كنتُ فيها، ومن دون أن أدري صرتُ أبكي بحرقةٍ وكلي حياءٌ من الله على ما مضى". قال الأستاذ: "كاد يتوقف قلبي من الفرح بعدما كاد يتوقف من الخوف، وصرتُ أتمتم: الحمد لله .. الحمد لله، ثم لم أعد أستطيع الكلام فأغلقتُ الهاتف، وبدأتُ أنا أبكي ثم علا مني النشيج".

قال الأستاذ: "مرت على تلك الحادثة حوالي ثلاث عشرة سنة، ولم أرَ تلك الأخت من يومها، وقد أخبرني زوجها أنها مع الأيام التزمت بشرع الله، وحافظت على ما أمر الله به من اللباس والعبادة، فضلاً عما أكرمها الله به من خُلُقٍ نادرٍ وكريم. لا أدري إن أصبتُ أو أخطأتُ في اجتهادي، لكنني أشعر بنعمة الله عليّ كلما تذكرتُ تلك الحادثة، ومن أعماق قلبي أسأل الله لكل أخٍ وأختٍ تمام الهداية والرحمة والثبات.

 

أحبتي في الله .. إنه (غض البصر) الذي كان سبباً في هداية تلك المرأة وعودتها إلى الصراط المستقيم. وهو (غض البصر) الذي كان سبباً في إسلام فتاةٍ أمريكيةٍ من شابٍ مسلم؛ فهذه قصةٌ من واقع الحياة حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية لشابٍ مغربيٍ فقيرٍ كان يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ذات يومٍ كان يصعد في المصعد إلى طابقٍ في إحدى ناطحات السحاب مع مجموعةٍ من الناس، في طابقٍ معينٍ نزل كل الأشخاص فبقي الشاب وحيداً إلى جانب فتاةٍ أمريكيةٍ جميلةٍ جداً تلبس لباساً متبرجاً كباقي النساء هناك، لما وجدت نفسها أنها بقيت لوحدها مع الشاب شعرت بالخوف منه، لكنها لاحظت أن الشاب لا ينظر اليها أبداً؛ فخشيت أن يؤذيها هذا الشاب أو يفعل بها ما هو منتشرٌ ببلدها من حالات اغتصابٍ، وأخذ الفكر يشغلها والخوف يتملكها؛ فظلت تراقب هذا الشاب، فنظرت إليه فوجدته ينظر إلى الأرض، ولم ينظر أو يلتفت إليها؛ فتعجبت الفتاة، واستمرت تراقبه وهو على نفس الحالة، إلى أن وقف المصعد وخرج الشاب وهو على نفس حالته، لم يرجف لها جفنه، فإذا بها تلاحقه وتسأله وهو ما زال ينظر إلى الأرض: "هل لي بسؤال؟"، فقال: "تفضلي"، قالت: "ألستُ جميلةً؟"، قال: "لا أدري؛ فلم أنظر إليكِ"، قالت: "نعم، وهذا سبب سؤالي، لماذا لا تنظر إليّ؟"، فأجابها: "هذه تعاليم ديننا وآدابه"، قالت: "أدينك يمنعك من النظر إلى المرأة؟"، قال: "نعم؛ يمنع النظر إلى المرأة الأجنبية، أي الغريبة عنا، حفظاً لنا وعفافاً للمرأة"، قالت: "أي دينٍ هذا؟"، قال: "إنه الإسلام"، فتعجبت، وسألته: "أتتزوجني؟"، قال لها: "أنا مسلمٌ، ما دينك أنت؟"، قالت: "لستُ مسلمة"، قال: "لا يجوز"، فقالت: "هل لو دخلتُ دينك هذا تتزوجني؟"، قال: "نعم"، فقالت: "ماذا أفعل لأكون مسلمة؟"، شرح لها ما يجب عليها أن تفعله لتكون مسلمةً، ولما أسلمت تزوجها، وكانت هذه الفتاة ثريةً فأخذت كل أموالها وذهبت مع الشاب إلى بلده، فلم يعد يُعاني من الفقر؛ بسبب أنه اتقى الله وغض بصره.

 

أحبتي في الله .. أمر الله الرجال بغض البصر؛ يقول تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، والنساء كذلك مأموراتٌ بغض البصر؛ يقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...﴾. ويُلاحظ المفسرون لهاتين الآيتين أن الله تعالى قد جعل الأمر بغض البصر مُقدماً على حفظ الفرج، لأن كل الحوادث مبدؤها من النظر؛ قال الشاعر:

كلُّ الحوادثِ مَبداها منَ النَّظرِ

ومُعظَمُ النَّارِ من مُستصغرِ الشَّررِ

كَمْ نظرةٍ فعلتْ في قلبِ صاحبِها

فِعْلَ السِّهامِ بلا قوسٍ ولا وتَرِ

 

و(غض البصر) سبيلٌ إلى الجنة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ]. وهو من آداب الطريق، وأحد حقوقها؛ قال -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه رضي الله عنهم: [إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ علَى الطُّرُقَاتِ]، فَقالوا: ما لَنَا بُدٌّ، إنَّما هي مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قالَ: [فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا]، قالوا: وَما حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قالَ: [غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ].

 

ويقول العلماء إن (غض البصر) المقصود منه أن يُغمض المسلم بصره عما حُرّم عليه، ولا ينظر إلا لما هو مباحٌ له النظر إليه، فإذا سار الإنسان في طريقٍ أو كان في مكانٍ به آخرون فوقع بصره على ما حرّم الله تعالى بغير قصدٍ منه، وهذا يُسمى «نظر الفجأة»، عليه أن يصرف بصره سريعاً ولا يتمادى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [... لا تُتبعِ النَّظرةَ النَّظرَةَ، فإنَّ لَكَ الأولى، ولَيسَتْ لَكَ الآخرَةُ]؛ ذلك أن النظر من أهم المنافذ إلى القلب، فإذا كان إطلاقه بغير قيدٍ ولا ضابطٍ حرّك الهوى في قلب صاحبه، وجعله يقع في شَرَك الفواحش والفتن.

وذكر العلماء من فوائد (غض البصر) أن الجزاء من جنس العمل، فمَن غضَّ بصره عما حَرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خيرٌ منه، فكلما أمسك نور بصره عن المحرَّمات، كلما أطلق اللهُ نورَ بصيرته وقلبه، فرأى به ما لا يراه من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلهِ عزَّ وجلَّ إِلاَّ بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]. ورُوي أنه: "مَن غضَّ بصره عن محارم الله، عوَّضه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه"، وقال بعضهم: "من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته"، وقيل: "مَن غضَّ بصره، أنار الله بصيرته".

وعن (غض البصر) قال الشاعر:

يا رامياً بِسِهامِ اللَحْظِ مُجْتَهِداً

أنْتَ القَتيلُ بِما تَرْمي فَلا تُصبِ

وقال آخر:

وأغُضُ طَرْفي إنْ بَدَتْ لي جارَتي

حَتى يُواري جارَتي مَأواها

 

إن (غض البصر) فتنةٌ متجددةٌ، تزداد خدتها بمرور الأيام؛ إذ كانت تقتصر فيما مضى على مجاهدة النفس حتى لا تنظر النظر المحرم في الشوارع والمحلات وأماكن تجمع الناس خارج بيوتنا، أما اليوم فقد صارت مجاهدة النفس أصعب -لكنها أكثر ثواباً بإذن الله- إذ أصبح التلفاز ينقل إلينا داخل بيوتنا صور الأجانب والأجنبيات وكل من هو غريبٌ علينا، محرمٌ علينا النظر إليه. وزاد الطين بلة -وزاد في الأجر والثواب بإذن الله- انتشار الأطباق اللاقطة للقنوات التلفزيونية الفضائية التي تُبث من جميع أنحاء العالم، بما فيها من قنواتٍ إباحية، وحتى الكثير من القنوات غير الإباحية لا التزام فيها بحشمةٍ ولا بوقار، بل إن معظمها تتسابق على أن تكون القناة الأكثر عُرياً والأشد إثارةً بهدف جذب أكبر عددٍ ممكنٍ من المشاهدين لها، لأغراضٍ معظمها تجاري. ثم، ومع الانتشار الواسع لشبكة الإنترنت وسهولة الدخول على أي موقع في العالم على مدار اليوم كله ومشاهدة الصور والڤيديوهات والأفلام، وتبادلها، ونشرها، وانتقال هذه التقنيات من أجهزة الحاسوب الثابتة إلى الهواتف النقالة، صارت فتنة (غض البصر) أكثر صعوبةً، وأعلى أجراً وثواباً بإذن الله. وأخطر ما في هذا الأمر هو تكراره حتى تصبح مُشاهدة المحرمات أمراً اعتيادياً مألوفاً لا ينجُ منه إلا من رحم ربي؛ قال أحد الصالحين: "أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يُستساغ، ثم يؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرامٍ آخر".

 

أحبتي .. أعجبني قول أحدهم: "إن أقوى معركةٍ في حياتك هي الثبات على الدين في زمن المتغيرات"؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾؛ فلندعو الله أن يُثَبِّتنا على ديننا، ويُعيننا على أنفسنا، ويهدينا سُبلنا، ويشغلنا بطاعته عن معصيته؛ قال بعض الصالحين: "إذا دعتك نفسك إلى المعصية فحاورها حواراً لطيفاً بهذه الآية ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾". اللهم حصِّن فروجنا، وطهِّر قلوبنا، وارزقنا (غض البصر) والبُعد عن الحرام. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، إنك على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير.

 

https://bit.ly/3Jy1FYq

الجمعة، 24 ديسمبر 2021

رؤية خير الخلق أجمعين

 

خاطرة الجمعة /323


الجمعة 24 ديسمبر 2021م

(رؤية خير الخلق أجمعين)

 

قصةٌ واقعيةٌ وعجيبةٌ حدثت في بلاد القوقاز الإسلامية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحكم الشيوعي. بعد انهيار الماركسية مباشرةً أراد الأستاذ/ عاصم -وهو أحد الاتراك الدعاة إلى الله تعالى- السفر إلى تلك الديار الإسلامية للدعوة إلى الإسلام ببناء مدرسةٍ لتعليم القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية التي دمرها وأزالها الشيوعيون الملاحدة أثناء حكمهم لبلاد المسلمين القوقاز. وصل الأستاذ/ عاصم إلى بلاد القوقاز في ذروة أيام الشتاء القارس؛ الثلوج متساقطةٌ بغزارةٍ والبرد شديدٌ لا يكاد يُطاق. سكن في فندقٍ متواضعٍ، أطل من شرفة الفندق يتأمل ملامح هذه البلاد التي كانت يوماً ما عامرةً بعزة الإسلام وأهله، فرأى تماثيل لينين وبقية رموز الماركسية مزروعةً في كل مكانٍ تؤكد على اكتساح العقيدة الشيوعية الإلحادية لهوية وثقافة هذا الشعب المسلم المقهور في بلده الإسلامي العظيم. كان هذا الشاب التركي المسلم داعيةً مُمتلأً بشعلةٍ إيمانيةٍ، ونشاطٍ كبيرٍ وثقةٍ بالله بتغيير هذا الواقع الذي صار إليه هذا الشعب والبلد المسلم. كان ذهنه منشغلاً بالتفكير في كيف السبيل لبناء مدرسةٍ إسلاميةٍ هنا كمنطلقٍ لعودة الهوية والروح الإسلامية لهذا البلد. عزم على القيام بأول مهمة عملٍ له وهي زيارة رئيس البلاد!

سأل عن القصر الجمهوري وانطلق إليه، وعند وصوله رفض الجنود والحراس أن يُدخلوه المبنى، لم ييأس وبعد محاولاتٍ وإصرارٍ شاء الله تعالى أن يسمحوا له بمقابلة الرئيس مباشرةً. استقبله الرئيس استقبالاً حسناً ورحب به؛ فانبسطت أسارير الأستاذ/ عاصم وحل الأمل والسرور في قلبه. قال للرئيس: "سيدي الرئيس، جئتكم بتحية إخوانكم في هضبة الأناضول"، ثم قدّم الهدايا لفخامة الرئيس، ومن ضمن هذه الهدايا كان القرآن الكريم، أعظم هدية. عندما رأى الرئيس المصحف ترقرقت الدموع في عينيه، وتناول المصحف بأدبٍ وشوقٍ وراح يُقّبله ثم ضمه إلى صدره وقال: "أتيتنا بروحنا يا أخي، أعدتَ إلينا سراجنا الذي فقدناه منذ عقود؛ أذكر يا أخي وأنا طفلٌ صغيرٌ كيف أن جدتي كانت تقرأ القرآن خفيةً. لا أعرف كيف أشكرك. ما الذي أتى بك إلى هذه الديار النائية؟"، قال عاصم: "سيدي، أتيتُ لأقيم مدرسةً لتعليم القرآن الكريم والعلوم الإسلامية"، سأله الرئيس: "هل أتيتَ وحدك؟!"، أجاب عاصم: "نعم، سأبدأ بالعمل وحدي وسيلحق بي آخرون من الأناضول وبقية دول العالم الإسلامي فيما بعد. سيدي لقد افترقنا عن بعضنا سبعين عاماً، والحمد لله انتهى الفراق وولت أيام الغُربة، حان وقت إقامة الجسور ومدها من جديد، وسوف يتسلح إخواننا بالعلم والفضيلة والإيمان بإذن الله تعالى"، قال الرئيس وقد بلغ منه التأثر مبلغاً: "ما أجمل حديثك يا أخي، أتيتَ وحدك من أجلنا وبدون مقابل! لك كل ما تُريد؛ افعل ما شئتَ وأينما شئتَ"، رد الاستاذ عاصم ممتناً: "شكراً يا سيدي، وجزاك الله خيراً".

شرع الأستاذ/ عاصم بالعمل لإقامة المدرسة في البناية التي خصصها له الرئيس. راح يعمل بكل ما في وسعه من جهدٍ وطاقةٍ يُسابق الزمن. بعد شهرٍ كاملٍ من أعمال التجهيز تم بعون الله تسجيل خمسين طالباً في المدرسة، وبدأ التدريس بمباركةٍ ورعايةٍ من الرئيس.

في أحد الأيام دعاه تلميذه إسماعيل -أحد طلابه المتميزين- لزيارة أهله في قريته البعيدة؛ لم يستطع الأستاذ/ عاصم أن يرفض الدعوة ولكنه كان متخوفاً من شدة البرد. الأستاذ: "كيف سنذهب؟!"، إسماعيل: "على عربة الجليد يا أستاذي". كان الثلج والجليد يغمران كل مكان، والضباب يُغطي قمم الجبال، شعر الأستاذ بالخوف والقلق، فالبرد الشديد يكاد أن يُجمد يديه وقدميه، ولكنه عزم على التوكل على الله وتلبية دعوة تلميذه النجيب إسماعيل. الأستاذ: "كم يستغرق الطريق إلى القرية؟"، إسماعيل: "ساعتان"، قال الأستاذ: "ساعتان يا إسماعيل! أنت تقطع كل هذه المسافة يومياً ذهاباً وإياباً لتأتي إلى المدرسة يا إسماعيل؟!"، إسماعيل: "نعم؛ إنها رغبتي ورغبة أهلي يا أستاذي".

ذهب الأستاذ برفقة تلميذه، وعندما وصلوا للدار كان الأستاذ يتألم من خدرٍ في رجليه ويديه من شدة البرد، ولكنه تحامل على نفسه ولم يُظهر أي ألمٍ حتى لا يُحرج مضيفيه وتلميذه. استقبلهم أهل الدار بحفاوةٍ وترحيبٍ بالغين. جلست جدةٌ كبيرةٌ في السن قبالة الأستاذ/ عاصم. الجدة لعاصم: "من أين أنت يا بُني؟"، الأستاذ: "من بلاد الأناضول يا أماه". إسماعيل: "جدتي، إنه معلمي الأستاذ/ عاصم الذي حدثتك عنه". قرّبت العجوز المصباح لترى جيداً وجه هذا القادم من بعيد. تأملت الجدة وجهه، وفجأةً تجمدت في مكانها دون حراك، وارتجفت يداها. إسماعيل: "جدتي ما بك؟ هل أنت بخير؟". أمعنت الجدة النظر في وجه الأستاذ مرةً ثانيةً! امتلأت عيناها بالدموع! وتمتمت بتأثرٍ عميقٍ: "أنا أعرف هذا الوجه"، انتفض الأستاذ باستغراب! الجدة: "نعم أعرفه، إنه هو، إنه هو، إنه هو!". أرخى الصمت سدوله على أطراف البيت لحظات! ثم تحدثت العجوز بتأثرٍ تسترجع الذكريات؛ تُخبرهم بمعاناتهم أيام الحكم الشيوعي الخبيث؛ أول بدايةٍ للشيوعيين أنهم قاموا بقتلٍ وإبادةٍ جماعيةٍ لعددٍ كبيرٍ من المسلمين، ثم أخرجوا البقية -من النساء والشيوخ والأطفال ومَن ظَل على قيد الحياة- من قُراهم ووضعوهم في عربات القطار كالحيوانات، نساءً ورجالاً وأطفالاً، كان البرد قارساً، والثلج يتساقط بشدة. تقول الجدة وهي تذرف الدموع: "مات أهلي وأعمامي وجدتي، ومات الكثير من الأطفال، ومات كثيرٌ من الناس أثناء التهجير والنفي. عشنا في المنفى عيشةً صعبةً وحياةً قاسيةً، وعندما كبرتُ هربتُ من المنفى حتى وصلتُ بصعوبةٍ إلى قريتنا هذه فوجدتها خراباً، وصلتُ إلى بيتي وكنتُ مرهقةً جداً، وعندها استغرقتُ -من شدة الإرهاق والتعب- في النوم العميق، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أتاني في المنام. لا أعرف كيف أصف لكم جماله، لم أشبع من النظر إلى وجهه المضيء الكريم، مسح رأسي بيده الشريفة قائلاً: [لا تقلقي يا ابنتي، سينتهي هذا الظلم يوماً]، فقلتُ بألمٍ: "متى يا رسول الله؟ ولماذا لم يأتِ أشقاؤنا المسلمون لمساعدتنا حتى الآن؟"، قال: [إنهم في وضعٍ أسوأ منكم، ومن الصعب عليهم أن يأتوا، ولكن سوف يأتي أحفادهم يوماً ما]، وفجأةً ظهر شابٌ إلى جانبه -صلى الله عليه وسلم- طويل القامة جميل الوجه يُشع النور من جميع أطرافه، فأشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليه قائلاً: [هذا هو أول من يأتي لمساعدتكم، لكنه سيأتي من بلادٍ حارةٍ فلا يستطيع تحمل برد دياركم؛ فأسرعي بنسج جوربين وقفازين، وقدميها إليه هديةً عندما يأتي]. ثم قالت الجدة العجوز: "لم أنسَ ذلك الوجه أبداً منذ خمسين سنة. كيف أنسى هذا الوجه؟"، وأشارت إلى الأستاذ/ عاصم. لم يتمالك الأستاذ نفسه، وانهمرت دموعه بغزارة. هرولت العجوز إلى الغرفة المجاورة وأحضرت الجوربين والقفازين، وقالت للأستاذ: "هيا البسها الآن يا بُني، إنها هديتك، ستحميك إن شاء الله من البرد، مثلما قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم- هذه هديتك من رسول الله التي انتظرتك طويلاً، لقد انتظرت قدومك خمسين عاماً يا ولدي". أخذ الأستاذ/ عاصم هديته ولبسها وقد غمرته السعادة والبِشر، وازدادت سعادته ويقينه عندما رأى أنها على مقياس قدميه ويديه تماماً! امتلأ قلبه بالسعادة والإيمان والثقة واليقين بنجاح مهمته وتحقق هدفه؛ فما عاد يشعر بالبرد ولا بالتعب ولا بالغُربة، أحس بدفء الرسالة السامية وشرف وعظم الأمانة التي يؤديها، واستشعر الرضى النبوي الكريم والعناية والرعاية والمعية الإلهية.

 

أحبتي في الله .. سبحان الله؛ مرّت خمسون عاماً على (رؤية خير الخلق أجمعين) وكانت الجدة لا تزال تتذكر تفاصيل تلك الرؤية بحذافيرها كما لو كانت قد رأتها بالأمس! وسبحان الله على شدة يقين هذه السيدة التي استجابت لطلب سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي موقنةٌ تمام اليقين أن ما أخبرها به النبي سيتحقق.. لم تكن تعرف متى، لكن لم يساورها شكٌ ولا للحظةٍ في أن ما أُخبرت به سيقع لا محالة.. وإذا بها -بعد مرور كل ذلك الزمن- ترى الرؤيا -وقد تحققت- كفلق الصبح، مشرقةً بكل تفاصيلها!

 

يقول أهل العلم إن (رؤية خير الخلق أجمعين) صلى الله عليه وسلم في المنام جائزةٌ شرعاً وعقلاً، واقعةٌ فعلاً، وما مِن شكٍ أن رؤيته صلوات الله وسلامه عليه فرحةٌ لا تُضاهيها فرحةٌ، وأمنيةٌ غاليةٌ لا تُدانيها أمنيةٌ، فالمسلم المُحب للنبي صلى الله عليه وسلم مستعدٌ لأن يبذل أهله وماله مقابل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مِنْ أشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا، ناسٌ يَكونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أحَدُهُمْ لو رَآنِي بأَهْلِهِ ومالِهِ]. ولا شك أن (رؤية خير الخلق أجمعين) صلى الله عليه وسلم في المنام على صورته المعروفة في السُنة والسيرة النبوية دليل خيرٍ وبُشرى لصاحبها، ومع ذلك لا يجوز بناء الأحكام والمواقف والتصرفات عليها، فهي مُبشراتٌ تبعث الأمل، ويُفْرَح ويُتفاءل بها، ولا يُبنى حُكْم عليها.

 

وقد وردت أحاديث كثيرةٌ في باب (رؤية خير الخلق أجمعين) النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، منها:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن رَآنِي فقَدْ رَأَى الحَقَّ]. [فقَدْ رَأَى الحَقَّ] أي الرؤيا الصحيحة الثابتة لا أضغاث أحلام ولا خيالات. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن رَآنِي في المَنامِ فَسَيَرانِي في اليَقَظَةِ، ولا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطانُ بي]. وفي روايةٍ: [مَن رَآنِي في المَنامِ فَسَيَرانِي في اليَقَظَةِ، أوْ لَكَأنَّما رَآنِي في اليَقَظَةِ، لا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطانُ بي]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [من رآني في المنامِ ، فأنا الذي رآني ، فإنَّ الشيطانَ لا يتخيَّلُ بي]، وقوله صلى الله عليه وسلم [لا يتخيَّلُ بي] أي: لا يأتي بصورتي التي يعرفها الناس، لا يمنع أن يأتي الشيطان ويقذف في قلب الرائي أنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بصورةٍ تخالف الصورة الصحيحة التي يُعرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث لا يمنع حدوث مثل هذا، فبعض أصحاب البدع والأهواء يذكرون أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأشياء تخالف ما ورد في الكتاب والسُنة، ولا تفسير لذلك ـ إن صدقوا في دعواهم ـ إلا أن الذي رأوه هو الشيطان، وأنه لم يأتِ بالهيئة الصحيحة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من سيرته وشمائله.

 

وعلى المسلم قبل أن يدَّعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض ما رأى على أهل العلم والدين ـ الذين يُعرف عنهم الصلاح والتقوى ـ ليخبروه إنْ كان ما رأى حقاً أو من الشيطان، حتى لا يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا ادعى إنسانٌ أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نومه، وأنه أمره بأمرٍ، وهذا الأمر يُخالف الكتاب والسنة فإنه لا يُعمل به، وهو دليلٌ على أن من رآه ليس النبي صلى الله عليه وسلم. ومع كون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم من المُبشرات للمسلم الذي رآها إلا أنها ليست وحياً بالاتفاق، ولكنها بُشرى.

 

أما الأسباب التي تُساعد المسلم على (رؤية خير الخلق أجمعين) النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فهي متوقفةٌ ـ بعد فضل الله تعالى ـ على طاعة الله سبحانه، وحُب النبي صلى الله عليه وسلم، والشوق لرؤيته، واتباع سنته، وكلما كان الإنسان أتقى لله عزَّ وجلَّ، وأكثر اتباعاً لسُنة النبي الله صلى الله عليه وسلم كان توقع رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر احتمالاً من غيره، ولا يلزم من عدم الرؤية له عدم صلاح الشخص، ولا يلزم أيضاً من شدة التقوى والمتابعة رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأمر في النهاية توفيقٌ من الله تعالى، وفضلٌ من الله يؤتيه من يشاء.

 

أحبتي .. ليكثر كلٌ منا في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولنتبع سُنته الشريفة، ونحيي منها ما غفل عنه بعض المسلمين، وليكن حُبنا له - صلى الله عليه وسلم- أكبر من حُبنا لأنفسنا ولوالدينا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا، وأن نتحلى بالصدق والصلاح، حينئذٍ ندعو الله مخلصين أن يرزقنا (رؤية خير الخلق أجمعين) في المنام عسى أن يستجيب الله دعاءنا ونرى نبينا -عليه الصلاة والسلام- فنكون من الفائزين بشفاعته يوم الحساب، المبشَرين بصحبته في الفردوس الأعلى من الجنة.

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مع ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

 

https://bit.ly/3mvdYex

الجمعة، 17 ديسمبر 2021

الصراط المستقيم

 

خاطرة الجمعة /322


الجمعة 17 ديسمبر 2021م

(الصراط المستقيم)

 

أحد الأشخاص الأثرياء وهو صاحب مجموعة محلاتٍ مشهورةٍ يقول: اشتغل عندي بائعٌ شابٌ من حوالي عشر سنواتٍ في فرعٍ من فروع محلاتي؛ كان عندي فرعان في نفس البناء، فرع أحذيةٍ مع شركائي، وفرع ملابس لي وحدي، شركائي كانوا يرجونني أن آخذ هذا الموظف من عندهم وأعيّنه في المحل عندي ليرتاحوا منه، لا هُم يريدون أن يقطعوا رزقه، ولا هُم يرون منه أية فائدةٍ تُرجى! كان هذا الموظف هادئاً، قليل الحيلة، ضعيف المواهب، لكنه مستقيمٌ جداً، ملتزمٌ، شديد الطيبة، وجم الأدب. أخذته من عندهم ووظفته في الفرع الذي أنا فيه، وجعلته مديراً للفرع. بعد مدةٍ أخطأ خطأً بسيطاً وتافهاً جداً، لكني كنتُ في مرحلة الطغيان، والاعتداد بالرأي، والانفراد بالقرار، والغباء الإداري، فصممتُ أن أطرده! لم يبقَ إنسانٌ إلا وتوسط لديّ من أجله، كلهم تشفّعوا له، ولكن دون جدوى! فصلته من العمل بحجة أنه قليل الحيلة وضعيف المواهب وصفرٌ في الإمكانيات الإدارية، هكذا كنت أراه. هذا الكلام كان تقريباً منذ حوالي ثماني سنوات.

بعد ثلاث سنواتٍ من طردي له، عرفتُ أنه قد أصبح عنده ستة محلات ملابس، واشترى سيارةً، وأصبح من المشاهير في مجال هذا العمل، واسمه صار كالذهب الناصع، يثق به كل الناس! فقلتُ في نفسي: "سبحان الله، الآن فقط فهمتُ لماذا فصلته من العمل! لم يكن هناك سببٌ عظيمٌ كي أصرّ على طرده، لم يفعل هذا الشاب شيئاً يستحق فصله، كنت أستغرب دائماً من إصراري على أن يترك العمل عندي، بالرغم من أن هناك موظفين لديّ فعلوا أفعالاً أكثر سوءاً مما فعل ولم أقم بفصلهم! ورغم أن هذا الشاب كان أميناً ومُهذباً ملتزماً (الصراط المستقيم) في كل أعماله، وكانت بيني وبينه محبةٌ وثقةٌ متبادلةٌ، ولكن إصراري على فصله كان وكأنه يحدث رغماً عني!". قلتُ في نفسي: "إن الله عزّ وجلّ قد أعدَّ له مساراً آخراً في حياته، وقد جاء وقت ذهابه من عندي فكان ينبغي له أن يمشي بأية طريقةٍ، حتى ولو طرداً، حتى ولو أن يُلقى به في الشارع!".

هذه ليست نهاية القصة، وليست أعجب ما فيها؛ الأعجب، أنه أصبح تاجراً كبيراً جداً وذا سمعةٍ طيبةٍ، وظل على استقامته؛ أذكر أنني احتجتُ له يوماً ما فوقف بجانبي ولم يخذلني، بل إنه لم يُذكّرني بما فعلته معه، ولا عاتبني، ولا لمّح لي ولو بتغييرٍ في نبرة صوته، عاملني كأنني ما زلتُ صاحب المحل الذي يعمل هو فيه! أما الأكثر عجباً فأنه لم يفقد ذرةً واحدةً من التزامه وتدينُّه وحرصه على (الصراط المستقيم)؛ يكفي أن نعرف أن أهم شهرٍ في حياة تاجر الملابس والأحذية هو شهر رمضان؛ إذ أن مبيعات هذا الشهر تُعادل مبيعات السنة كلها، وأهم أيامٍ في رمضان بالنسبة لنا كتجار ملابس وأحذية هي العشر الأواخر؛ ففيها لا يهدأ الهاتف من الاتصالات والطلبيات، وتكون المبيعات في أوجها والأرباح كبيرةً، أما صاحبنا هذا فيُغلق هاتفه في العشر الأواخر من رمضان ويذهب إلى العُمرة! هل تخيلتم هذا؟!

أرسلتُ له مرةً رسالةً عن حالة شخصٍ فقيرٍ من قريةٍ في محافظته، وطلبتُ منه أن يستوثق من الحالة، لو أي إنسانٍ آخر لكان احتاج مني إلى اتصالين أو ثلاثة، أما صاحبنا هذا وجدته ثاني يوم في الصباح يُكلمني من عند الرجل الفقير، لم يتركه إلا وقد قام بالواجب معه ولم يُقصّر!

كان مما يلفت انتباهي التزامه بتكبيرة الإحرام التزاماً عجيباً؛ ساعة يسمع الأذان ينتفض من مكانه، كأن عقرباً قد لدغته؛ فيُشمر للوضوء ويذهب إلى المسجد للصلاة.

الخلاصة أنه إنسانٌ مستقيمٌ استقامةً تامةً، وصدق سبحانه وتعالى إذ يقول: ﴿ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.

 

أحبتي في الله .. هو الله، لا إله إلا هو، يدبر الأمر لجميع خلقه، ويساعد من لا حيلة له حتى يتعجّب أصحاب الحيل. هو الله الذي أمرنا بالاستقامة ويثيبنا عليها فتحاً ونصراً وسعة رزقٍ وغنىً ونجاحاً وتوفيقاً وفلاحاً.

 

أمر الله تعالى بالاستقامة، وحث عليها في كتابه الكريم في مواضع عدة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وعن هذه الآية التي نزلت في سورة هود قال المفسرون: "ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آيةٌ كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية؛ لذلك حين قال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم له: قد أسرع إليك الشيب؟! قال: [شَيّبَتْنِي هُودٌ ...]".

ولاحظ العلماء أن الآية وجهت الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنه إمام المستقيمين؛ فقالوا إن المقصود هو الدوام على الاستقامة باعتبارها أعظم كرامة.

وأوصانا رسولنا الكريم بالاستقامة؛ فحين قال أحد الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: [قُلْ: آمَنْت باللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ]. وقال أيضاً: [إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ اللِّسانَ فتقولُ اتَّقِ اللَّهَ فينا فإنَّما نحنُ بِك فإن استقمتَ استقمنا وإن اعوججتَ اعوججنا].

وأفضل ما قيل في وصف (الصراط المستقيم) "أن يكون العمل خالصاً لله عزّ وجلّ، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعلى ذلك فإن الاستقامة -كما يقول العلماء- تتضمن: الإيمان الصادق بالله عزّ وجلّ، الاتباع الكامل والاقتداء التام بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أداء الفروض والواجبات، اجتناب المحرمات والمكروهات، الإكثار من النوافل، المداومة على أعمال الخير، عدم الغلو وعدم التفريط، حفظ الجوارح واللسان، السعي لتزكية النفس، والاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى وفي نيل مرضاته قدر الاستطاعة.

إن الاستقامة تعني التمسك بالدين كله، والثبات عليه، والدعوة إليه، وهي -كما يصفها أهل العلم- سلوك (الصراط المستقيم).

والمؤمن مطالبٌ بالاستقامة الدائمة، ولذلك يسألها ربَه في كل ركعةٍ من صلاته؛ يقول في كل صلاة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ ذلك أن الاستقامة هي الطريق الوحيد إلى الله الواحد الأحد؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

يقول أهل العلم إنه لما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يُقصّر في فعل المأمور، أو اجتناب المحظور، وهذا خروجٌ عن الاستقامة، فإن الشرع أرشد إلى ما يُعيد العبد لطريق الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، في إشارةٍ إلى أنه لابد من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها، وأن ذلك التقصير يُجبَر بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة. وفي هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ...] أمرنا بالاستقامة، وأخبرنا بأننا لن نستطيع أن نُلم بكل جوانب الإسلام، وأن نفعل كل ما أمر به الله عزّ وجلّ، فقال عليه الصلاة والسلام: [سدِّدُوا وقَارِبُوا ...]، أي: اتقوا الله ما استطعتم.

 

قال الشاعر:

وإلا فإنّ الاستقامة عينُ ما

هو الشرعُ، يَسمو مَنْ بها يتجملُ

وما الشرعُ إلا والحقيقةُ عينُه

وبينهما لا فرقَ مفصلُ

 

وقيل إن من عوائق التزام (الصراط المستقيم): اليأس، الغلو، الاستهانة بالمعصية، الانشغال بالدنيا عن الآخرة، الشهوات والتطلع إليها، التوسع في المباحات، والصحبة السيئة.

 

أحبتي .. الاستقامة إذن هي لزوم طاعة الله تعالى مع السداد والاعتدال، وتجنب الإفراط والتفريط. والطريق واضحةٌ؛ إما سبيل الاستقامة وإما سبيل الضلال والاعوجاج والبُعد عن شرع الله. وكل إنسانٍ حرٌ في اختياره: إما أن يلتزم (الصراط المستقيم)؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، وهذا هو اختيار الأذكياء. أو أن يختار الطريق المعاكس؛ فينجرف إلى متعٍ زائلةٍ في دنيا فانيةٍ يلهث وراءها، يُزينها الشيطان له؛ يقول تعالى: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ والسبيل هنا هو سبيل الحق، يظل الشيطان يغويه حتى يبتعد عن هذا السبيل؛ فينسى الله فيصبح من الفاسقين؛ يقول تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. ليكن اختيارنا اختيار الأذكياء، وليكن رضا الله سبحانه وتعالى هدفنا، فنكون من المُفلحين الفائزين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم يا مُقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من أهل السداد والاستقامة، وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وارزقنا حسن الختام.

 

https://bit.ly/3EbQQaY

الجمعة، 10 ديسمبر 2021

تدبُّر القرآن


خاطرة الجمعة /321


الجمعة 10 ديسمبر 2021م

(تدبُّر القرآن)

 

تحكي عن جارةٍ لها فتقول: أذكر أياماً خوالي قضيتها من عمري في دمشق، وأذكر جارةً لي هناك، كنتُ كلما طرقتُ عليها الباب صباحاً لأقول لها: "تفضلي، اشربي فنجان قهوة"، كانت فوراً تأخذ حجابها ومفتاحها وتدخل وتقول: "وين القهوة؟ فليس لديّ وقت.. اغلِ القهوة سريعاً"، وبعد أن نشرب القهوة تقوم وتقول: "ليس لديّ وقت"؛ فأتعجب منها. كل يومٍ.. وكل وقتٍ.. وأنا أعزمها دائماً.. فقد كنتُ قد كبرتُ وأصبحتُ وحيدة. والعجب أنها أكبر مني عمراً، وليس لديها سوى زوجٍ شيخٍ كبيرٍ في السن مثلها. ولم تكن هذه الزيارات تستغرق الكثير من الوقت؛ فدائماً نشرب القهوة وتنصرف سريعاً وهي تعتذر: "ليس لديّ وقت"! وأحياناً كنتُ أعزم نفسي عندها، وأراها تبتسم وتقول: "فوتي، أغلي القهوة، فليس لديّ وقت".. وأزداد عجباً فلستُ أرى ما يشغلها.. أشرب القهوة وأعود سريعاً خوفاً من إزعاجها. وذات يومٍ قلتُ لها مازحةً: "يا ريت تشغليني معك بالذي يشغلك، ويجعلك ما عندك وقت"، فأشرق وجهها استبشاراً وفرحت وقالت: "منذ زمنٍ وأنا أنتظر منك هذا الطلب".. غداً نبدأ عملنا معاً إن شاء الله تعالى. دخلتُ بيتها صباحاً، شربنا القهوة، ومن ثمّ قالت: "ليس لدينا وقت".. أحضرتْ مُصحفين وقالت: "هيا بنا نقرأ آية ونتدبرها، ونُحاسب أنفسنا أين نحن منها!"، حَبِستُ أنفاسي للحظاتٍ ثم قلتُ لها: "مصحف؟ آية؟ نتدبر؟ أين أنا من هذا؟ أهذا ما يشغلك يا جارتي العزيزة الرائعة؟ أهذا هو لغز عبارة ليس لديّ وقت؟"، قالت مبتسمةً: "نعم، فلم يعد لدينا أنا وأنتِ وقتٌ؛ نُسابِقُ زمن عمرنا، ودقائقه، وثوانيه قبل أن يسبقنا، ونجد أنفسنا في قبرٍ مظلمٍ لا يُنيره سوى نور القرآن، والصّدق مع كلام الله، وتعمير أوقاتنا بالطّاعات وأعمال البر"..

آه.. كم أحسستُ لحظتها أني كبرتُ كثيراً، وأنه فعلاً ليس لديّ وقت!! وأحسستُ بيدي تُمسك بحافة القبر وأنا أنظر إليه.. وأحسستُ بدقات قلبي معدودة.. أمسكتُ بالمصحف عطشى، أرتوي منه، ولا ينتهي ظمئي. آهٍ يا نفسي كم شغلتيني عن كلام ربي! سأسابق الزمن، والعمر، والموت لأعوض ولو بعضاً مما فاتني.

أحبتي في الله .. لقد وفق الله سبحانه وتعالى هذه الجارة - وأمثالها- إلى أمرٍ عظيمٍ وهو (تدبُّر القرآن)، ليس فقط مجرد قراءته وتلاوته ولا حتى حفظه -وإن كان كل ذلك مهماً- بل تدبر معانيه، ومحاسبة النفس عما كان منها بعد تدبره. إنه والله لأمرٌ عظيمٌ أزعم أن الكثير منا غافلون عنه.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، ويقول كذلك: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

 

أما مفهوم التدبر في اللغة فهو يعني النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، وفي المصطلح فإن (تدبُّر القرآن) يعني تأمل القرآن بقصد الاتعاظ والاعتبار والاستبصار، وتصفح آياته، وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول العلماء إن التدبُّر في القرآن يُثبت أنه من عند إلهٍ حكيمٍ قديرٍ، وليس للبشر أن يُبدعوا مثله أبداً؛ فيُطَمْئِن المؤمنَ في عبوديته لله عزَّ وجلَّ، ويُزيل الشُبهة، ويُقَوِّي العقيدة، مما ينعكس على حياة الإنسان كلها. والتدبُّر في القرآن طريق هدايةٍ؛ فالقرآن له مذاقٌ خاصٌّ، وفيه أسرارٌ عظيمةٌ، وبقدر تدبُّر المؤمن فيه يفتح الله له أبواب الهداية، والذي لا يتدبَّر القرآن يُخشَى عليه أن يضل ويزيغ. والتدبُّر في القرآن يفتح آفاقاً مباركةً هائلةً من المعرفة، فقد ملأه ربُّ العالمين بكنوز العلم بشتَّى فروعه، والذي يتعلَّم في نور القرآن يصل إلى ما لا يقدر غيره على الوصول إليه؛ قال بعض التابعين: “من تدبر القرآن طالباً الهدى منه؛ تبين له طريق الحق”.

 

وحتى يتحقق (تدبُّر القرآن) يرى أهل العلم أن لذلك خطواتٍ هي: الاستعداد النفسيّ للتدبُّر: فتدبُّر القرآن يبدأ من إرادة الشخص داخليّاً، ووجود دافعٍ، ويكون ذلك بالتأمُّل، والنَّظَر، والبحث. اختيار المكان المناسب، والوقت الملائم: باستقبال القِبلة، والحرص على الطهارة، والخشوع في الجِلسة، ومن الأوقات المُفضَّلة وقت السَّحَر. التوجُّه إلى الله بالدعاء: فالاعتماد على الأسباب دون الرجوع إلى مُسبّب الأسباب من الأخطاء التي قد يقع فيها العباد. المراقبة الذاتيّة أثناء القراءة: فينظر القارئ إلى ما يمنعه من الوصول إلى التدبُّر، ويبحث عن الحلول لتجاوز تلك الموانع، كما يُمكن تحقيق التدبُّر بتلاوة الآيات بصوتٍ عالٍ، أو خَفضه. عدم التعجُّل في القراءة: فلا بدّ من تلاوة القرآن بتأنٍ وهدوءٍ ورَويّة، وتعويد النفس على ذلك، والأفضل عدم خَتْم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّامٍ. اعتبار الخطاب الإلهيّ مُوجَّهاً إلى النَّفْس: فيسعى القارئ إلى استجابة أمر الله الوارد في الآيات، وعليه أن يُسقط القرآن على نفسه، وواقعه، ويتساءل عن مُراد الله، وغايته. المحافظة على الوِرد اليوميّ: فقد أمر الله -تعالى- عباده بتلاوة القرآن، ولم يُلزمهم بقَدْرٍ مُعيَّنٍ؛ فكلّ شخصٍ له ظروف تختلف عن غيره، ولهذا يقرأ بحسب ما يناسبه.

 

يقول أحد العلماء أنْ ليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من (تدبُّر القرآن)، وإطالة التأمل، والتفكر في معاني آياته؛ فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر؛ فتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتُعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه. كما تُعرفه ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

 

وعن تدبُّر الصحابة -رضي الله عنهم- للقرآن الكريم؛ كان أحدهم إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن؛ فتعلموا العلم والعمل. حتى المشركين الذين لم يسلموا عرفوا قدر القرآن الكريم؛ إذ وصفه كبيرٌ من كبرائهم بقوله: "واللهِ إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه". ومع ذلك نجد من بيننا كمسلمين من يقصر علاقته بالقرآن تلاوةً وتدبراً على شهر رمضان فقط، وكأنه في غنىً عن هدى الله ونوره ورحمته وحياة قلبه أحد عشر شهراً كل عام!

 

أحبتي .. إن التلاوة الحقة لكتاب الله تعالى تعني تلاوته بفهمٍ لآياته وتدبرٍ لمعانيه ينتهي إلى إدراكٍ وتأثرٍ ثم عملٍ وسلوك. فالعبرة ليست -كما يفعل كثيرٌ منا- بكثرة عدد ختماتنا للقرآن، بل بمدى فهمنا له والتزامنا بأحكامه، وإقامتنا لحدوده، وإتيان أوامره واجتناب نواهيه، العبرة باختصار تكمن في (تدبُّر القرآن). فلينظر كلٌ منا في أسلوبه وطريقة تعامله مع القرآن؛ فربَّ ختمةٍ واحدةٍ بتدبر أبرك وأنفع وأثقل في موازيننا من عشرات الختمات بغير تدبر. ولا أعجب من أن نجد من المسلمين -شباباً وشيوخاً- من لم يختم قراءة القرآن ولا مرةً واحدةً فيما مضى من عمره! لهؤلاء أقول: "عفى الله عما سلف، تدارك نفسك، ابدأ اليوم، بل الآن، في ختمةٍ تنوي بينك وبين الله سبحانه وتعالى أن تكون كاملةً وأن تكون بتدبرٍ وفهمٍ واستيعاب. لا تؤجل هذا الأمر، فلا تدري لعل الله أراد لك خيراً بإمهالك إلى الآن".

اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً، اللهم ذَكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجةً لنا لا علينا يا رب العالمين.

 

https://bit.ly/3dCpBv1

الجمعة، 3 ديسمبر 2021

أشعث أغبر

 

خاطرة الجمعة /320


الجمعة 3 ديسمبر 2021م

(أشعث أغبر)

 

يقول راوي القصة: من أغرب ما صادفتُه في رحلات الحج التي كنتُ أتشرّف بتنظيمها؛ أنه من عدّة سنوات اعترضتني مشكلةٌ كارثيّةٌ خلال أداء مهمّتي في موسم الحج تتعلق بتجهيز مخيمات عرفات الخاصة بالفوج الذي أقوم على خدمته، وتتلخص القصة بأنّه بقي على يوم عرفات خمسة أيّام ولم أتمكّن من الحصول على مساحةٍ كافيةٍ لعدد حجاج الفوج الذي أقوم على خدمته، وهذا يعني أنني لن أتمكنّ من أن أفي الناس حقها من الخدمة المتميزة التي وعدتهم بها في عرفات. استحال الأمرُ عليَّ، ولم أجد سبيلاً إلى تحقيق المراد، وقد ضاق الوقت إلى درجةٍ تقتضي أن أجد حلاً قبل الفجر لأتمكّن من نقل مستلزمات المخيم ورفع الخيام وتجهيز المكيفات وبناء الحمامات وتحضير مخيّمٍ بكامل مستلزماته لتفي باحتياجات ثلاثمائة حاج، وواقع المشكلة يؤكد عدم وجود أي حل! ركبتُ سيارتي منطلقاً من جدة إلى مكة، وكانت الساعة الحادية عشرة ليلاً، كنتُ في حالةٍ يُرثى لها من الانهيار النفسي؛ فالحلول تكاد تكون معدومةً، ولا أرى بصيص أملٍ، كنتُ أقود سيارتي وأنا في حالةٍ من الذهول، فبيني وبين وقوع الكارثة ساعات الليل فقط. تذكّرتُ وأنا في منتصف الطريق إلى مكة أنني نسيتُ أداء صلاة العشاء، فتوقفتُ عند إحدى محطات الوقود الموجودة على طريق «جدّة - مكة» حيث يُوجد مسجدٌ في هذه المحطة، توضّأتُ ثم دخلتُ إلى المسجد وكان خالياً إلّا من رجلٍ بنغاليٍ في الأربعين من العمر، شكله يدل على أنّه عاملُ بناء، كان يدور داخل المسجد حاملاً مصحفه منهمكاً في الحفظ يقرأ بصوتٍ عالٍ وبلغةٍ أعجميّةٍ لا تُسعفه! كان الرجل (أشعث أغبر) رثَّ الثياب، عليه آثار عملٍ ترابيٍ مع آثار عرقٍ جفّ على جبينه مصحوباً بزيتٍ أو شحمٍ أسود، وكان يدور وكأنّه يطوف في الحرم، ألقيتُ عليه السلام لكنه لم يرد عليّ؛ فهو في عالمٍ آخر لا يكاد يشعر بأحدٍ حوله، إذْ كان يطوف في جنبات المسجد كالنحلة، يتسارع في خطواته ويتلعثم في قراءته وهو يلهث مصارعاً قُدراته وكأنّه في وعدٍ على إنجاز مهمّته! صليتُ العشاء في زاويةٍ من المسجد ثم اتجهتُ إلى هذا الرجل وأخرجتُ من محفظتي مبلغاً من المال ليس بالقليل وقدّمته له، فنفضَ يده عنّي رافضاً استلامه، وتابع دورانه دون أن يكترث للمال الذي قدّمته له -رغم أن حالته تدلّ على فقره الشديد- فهرولتُ وراءه أترجاه أن يأخذ المبلغ وهو منهمكٌ في حفظه لا يُلقي إليَّ بالاً، وعندما وجدني أُلح عليه توقف وقال لي: "إنتا إيش أبغي؟!"، فقلتُ له: "لا أريد شيئاً يا أخي، أنا في ضائقةٍ شديدةٍ، وأريدك أن تشملني بدعوةٍ منك"، فطوى مصحفه على إصبعه كي لا يفقد الصفحة التي يقرأ منها، ونظر إلى الأعلى وقال: "يا رب هادا نفَر مُشكل كبير، إنتا في مساعدة يا رب"، ثم تركني وتابع ما كان عليه، تركته ووضعتُ النقود على كرسيٍّ أمامه وأشرتُ إليه كي لا ينساها، فلم يحرّك له ساكن، وأُشهد الله أنّه لم ينظر إلى النقود، بل رمقني بنظرةٍ تحمل شيئاً من اللامبالاة مع شيءٍ من الامتنان.

ركبتُ سيارتي وتابعتُ طريقي إلى مكة والدموع تذرف من عينَيّ، ولا أدري مصير هذه الليلة، فغداً هو آخر يومٍ في السماح لتحضيرات عرفات، وجميع المُطوّفين أنجزوا تحضير مخيماتهم.

ومن عجائب لطف الله، وقبل دخولي إلى مكة اتصل بي مطوّفٌ مسؤولٌ عن الحجاج السوريين، وبيني وبينه قطيعةٌ سببها خطأ وقع منه منذ عدة سنواتٍ، انقطعت معها أخباره عني، اتصل بي مُعاتباً ومُصالحاً ومُعتذراً عن خطأٍ عمره عدة سنواتٍ، وسألني عن حالي ووضعي في عرفات، وقال لي إن وزارة الحج زادت منذ ساعةٍ مساحة مخصّصاته في عرفات وأن لديه مساحةً تتسع لعدد أربعمائة حاج، وعرض عليّ المكان إذا كنتُ بحاجةٍ له، وأخبرني أنّه استلم الموقع وهو الآن بجوار الموقع في عرفات، تمالكتُ نفسي وقلتُ له إنني في طريقي إلى عرفات، وبعد أن أنهيتُ المكالمة صرختُ بأعلى صوتي قائلاً: "الله أكبر"، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم: [ربَّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه]. حوّلتُ اتجاهي من مكة إلى عرفات وذهبتُ إلى الموقع واستلمتُ منه المساحة المطلوبة، وسارعتُ بتجهيز المخيم على الشكل الذي وعدتُ به حجاجي، وانتهى الحج وأنا أسمع كلمات المديح والثناء من الحجاج والتي تنسبُ لي الخبرة والكفاءة ولا أحد فيهم يعلم أنّ ما نحن عليه من نجاحٍ هو بسرّ توفيق الله وبسرّ العون الإلهي، وبسرّ بركاتٍ خفيّةٍ لدعاء (أشعث أغبر) تقف خلفها خبرتنا عاجزةً محدودة.

 

أحبتي في الله .. وهذا رجلٌ تُوفي ولم يكن له غير ولدٍ واحدٍ، وكان أهل قريته يكرهونه ويعزفون عن وصله، ولكن الفاجعة أنه عند موته لم يأتِ أحدٌ ليدفنه أو يُساعد في دفنه؛ فأخذ الابن أبيه إلى الصحراء ليدفنه فيها، وفي طريقه رآه أعرابيٌ (أشعث أغبر) كان يرعى الغنم؛ فسأل الشاب: "أين الناس؟"، لم يُرد الابن أن يفضح أباه ويُخبر الأعرابي بالحقيقة فظل يردد: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم الأعرابي الأمر، ومد يده يساعد الشاب في دفن أبيه، ثم رفع الأعرابي يديه إلى السماء وظل يدعو في سره، ثم أخذ غنمه وذهب. في تلك الليلة حلم الولد أن أبيه يسرح في الجنة وهو في قمة سعادته؛ فسأله الابن: "ما بلغك يا أبي هذه المنزلة؟"، فأجاب الأب: "هذه بركة دعاء الأعرابي". فذهب الابن يُمشط الصحراء ليبحث عن ذلك الأعرابي عله يجد عنده السر خلف هذا الدعاء المُستجاب، ويطلب منه أن يدعو له، وبعد طول بحثٍ وجده فقال له: "أسألك بالله ما الدعاء الذي دعوته لوالدي وهو في قبره؟"، وقصّ عليه ما حصل معه في المنام في تلك الليلة؛ فقال الأعرابي: "يا ولدي، لقد رفعتُ يديي إلى السماء وقلتُ: اللهم إني كريمٌ إذا جاءني ضيفٌ أكرمته، وأنت أكرم الأكرمين؛ اللهم أكرم ضيفك".

 

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: [رُبَّ أَشْعَثَ أغبرَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أَقسم على الله لَأَبَرَّهُ]. "أَشْعَث" مُلبّد الشعر غير مدهونٍ ولا معتنىً به. "أَغْبَر" لونه كلون الغبار لقلِّة تعاهده بالنظافة بسبب فقره وحاجته. "مَدْفُوعٌ بِالأَبْواب" لا قَدْر له عند الناس فهُم يدفعونه عن أبوابهم ويطردونه عنها احتقاراً له بسبب فقره ورثاثة ثيابه. "لَو أَقْسَمَ عَلَى الله" لو حلف يميناً بحصول أمرٍ ما. "لَأَبَرَّهُ" لأعطاه ما حلف عليه لكرمه عند الله -عزّ وجلّ- ومنزلته.

 

كم من (أشعث أغبر) تقيٍ يعيش بيننا وبالقرب منا، ربما لا نأبه له، ولا نشعر به، ولا نعرف عنه شيئاً لكن تقواه أوصلته إلى أن يكون من الفائزين بحب الله، الذين أشار إليهم رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: منْ عادى لي وَلِيّاً فقدْ آذنتهُ بالْحرْب، وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ، وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه]. وقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيمَا يرْوِيهِ عنْ ربهِ عزَّ وجَلَّ: [إِذَا تَقَربَ الْعبْدُ إِليَّ شِبْراً تَقرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، وإِذَا تقرَّب إِلَيَّ ذِرَاعاً تقرَّبْتُ مِنهُ بَاعاً، وإِذا أَتانِي يَمْشِي أَتيْتُهُ هرْوَلَة].

 

ويقول أهل العلم إن الميزان ليس ميزان المظهر ولا الغنى ولا الجاه، بل هو تقوى الله عزّ وجلّ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فمن كان أتقى لله فهو أكرم عند الله، يُيَسر الله له الأمر، يُجيب دعاءه، ويكشف ضره، ويبر قسمه ما لم يُقسم بظلمٍ لأحد، ولا تألياً على الله، ولكنه يُقسم على الله في أمورٍ مباحةٍ تُرضي الله -عزّ وجلّ- ثقةً فيه، فليس شرطاً أن يكون المسلم بالضرورة (أشعث أغبر) حتى يبر الله له قسمه؛ بل إن هناك من هو (أشعث أغبر) لا يستجيب الله دعاءه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «... الرجل يُطِيلُ السفرَ أشعَثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماءِ، يا رب! يا رب! ومطعَمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حرامٌ، وغُذِّي بالحرامِ، فأنَّى يُستجَابُ لذلك؟»، فالأمر إذن مرتبط بالتقوى وما تتطلبه من البُعد عن الحرام والحرص على طيب المطعم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [... أطبْ مطعمَك تكُن مُستجابَ الدعوةِ ...]؛ فليست قيمة الإنسان بمظهره، ولا بغناه أو فقره، ولا بعشيرته ونسبه، ولا بما يتبوأ من مناصب، لكن العبرة بالتقوى ومكارم الأخلاق والعمل الصالح.

 

قال الشاعر:

كم مات قومٌ وما ماتت مكارمهم *** وعاش قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

الناسُ صنفان؛ موتى في حياتهمُ   ***   وآخرون ببطن الأرضِ أحياءُ

 

أحبتي .. علينا ألا نستخف بمن لا جاه له ولا منصب ولا مكانة اجتماعية، فقد يكون -ونحن لا ندري- من أكرم الناس عند الله بتقواه وعمله الصالح.

كما أن على كلٍ منا أن يحافظ محافظةً تامةً على الفروض، وأن يُكثر -قدر ما يستطيع- من النوافل؛ حتى يُحبه الله، فإذا أحبه استجاب لدعائه، وبره في قسمه إذا أقسم.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3EsztDK

الجمعة، 26 نوفمبر 2021

مكانة الأب

 

خاطرة الجمعة /319


الجمعة 26 نوفمبر 2021م

(مكانة الأب)

يقول أحد أساتذة الجامعة في سوريا: في عام 1972م دعا رئيس جامعة اللاذقية "تغير اسمها وصارت الآن جامعة تشرين" جميع أساتذة الجامعة آنذاك إلى العشاء في منزله بمناسبة مرور عام على تأسيس الجامعة، كان من بين المدعوين عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، والذي كان -وبرغم مشاغله وارتباطاته الكثيرة- قد قبل أن يأتينا من دمشق كل يوم أربعاء لتدريس مادة القرآن الكريم في قسم اللغة العربية، فكنّا نستضيفه تلك الليلة ليعود إلى دمشق بعد ظهر الخميس. كنتُ أعمل آنذاك في تأسيس مكتبة الجامعة، إذ لم تكن هذه المكتبة موجودةً قبل ذلك الوقت، وحدث أن زارني رئيس الجامعة في مكتبي وأنا أستضيف عميد كلية الشريعة عندي، فوجّه إلينا معاً الدعوة لحضور العشاء مساء يوم الخميس. أجبتُ من فوري بقبول الدعوة شاكراً، ولكن الدكتور العميد طلب بلطفٍ أن يستأذن والده في دمشق أولاً!

لا أدري أيّنا كان وقع المفاجأة عليه أكبر، أنا أم رئيس الجامعة؟ فأن يعتذر العميد بأي عذرٍ آخر سيبدو أمراً عادياً لا غبار عليه، أما أن يطلب أستاذٌ جامعيٌ كبيرٌ -كان في الأربعين من عمره وقتها، وأبناؤه طلابٌ في الجامعة، وهو عميدٌ لكليةٍ كبيرةٍ ككلية الشريعة، وفي جامعةٍ كبيرةٍ كجامعة دمشق، أن يطلب الإذن من والده لحضور عشاءٍ وتمديد زيارته للاذقية من مساء الخميس إلى صباح الجمعة، فهذا أمرٌ كان وقعه عليّ -وعلى رئيس الجامعة كما تؤكد ملامح الذهول في وجهه- وقع الصاعقة، ومع ذلك فقد استجمع رئيس الجامعة قواه وعدّل ملامح وجهه بسرعة الدبلوماسي الحكيم وتوجّه إليّ قائلاً : "اذهب يا بسّام مع الدكتور العميد إلى مكتبي ليتصل من هاتفي المباشر هناك بوالده في دمشق". المفاجأة لم تنتهِ بعد؛ ففي مكتب رئيس الجامعة أمسك الدكتور العميد بسماعة الهاتف، وسمعتُ منه وهو يحدث والده العبارات التالية التي أحاول أن أنقلها هنا حرفياً: "السلام عليكم أبي"، "السيد رئيس الجامعة دعاني مع بقية الأساتذة مساء غدٍ للعشاء في منزله، فهل أستطيع حضور المأدبة وأعود إلى دمشق صباح الجمعة؟"، "شكراً أبي ... السلام عليكم"، ووضع السماعة؛ فقلتُ له مجاملاً: "الحمد لله، هكذا أصبحت الأمور أسهل وتستطيعون الآن البقاء باطمئنان"، وكانت المفاجأة الثانية تنتظرني على لسان العميد: "لا والله، لا أستطيع؛ أبي ما وافق". لن تتصور أبداً معالم المفاجأة على وجهي، ولا على وجه رئيس الجامعة حين وصفتُ له بدقةٍ ما جرى على الهاتف قال: "هل هذا معقول؟! بغير نقاشٍ ولا حوارٍ ولا إلحاحٍ، ولا حتى كلمة رجاءٍ أو محاولة ثني والده عن رأيه!!".

الأغرب من هذا أنني حين قدّمتُ أستاذنا الدكتور العميد قبل سنواتٍ لجمهور الحاضرين في أكاديمية أوكسفورد، وهو يستعدّ لإلقاء محاضرته، وسمعني وأنا أقصّ عليهم هذه القصة، نظر إليّ نظرةً هادئةً كمن ينظر إليك متوقعاً بقيّة النكتة، وعيناه تقولان لي: "نعم؟ وماذا في هذا؟ أين وجه الغرابة في هذه القصة".

إنها (مكانة الأب) التي ينبغي أن يُحافظ عليها الأبناء.

 

أحبتي في الله .. وعن البر بالأب أسوق لكم هذه القصة المؤثرة التي تُبين (مكانة الأب) في نفوس أبنائه: كان هناك رجلٌ عليه دَيْنٌ, وفي يومٍ من الأيام جاءه صاحب الدَيْن وطرق عليه الباب؛ ففتح له أحد الأبناء فاندفع الرجل بدون سلامٍ ولا احترامٍ وأمسك بتلابيب صاحب الدار وقال له: "اتقِ الله وسدد ما عليك من الديون فقد صبرتُ عليك أكثر من اللازم، ونفد صبري، ماذا تراني فاعلٌ بك يا رجل؟"، هنا تدخل الابن والدموع في عينيه، وهو يرى والده في هذا الموقف، وقال للرجل: "كم على والدي لك من الديون؟"، قال: "أكثر من تسعين ألف ريال"، فقال الابن: "اترك والدي واسترح وأبشر بالخير"، ودخل الشاب إلى غرفته حيث كان قد جمع مبلغاً من المال قدره سبعةٌ وعشرون ألف ريالٍ من راتبه ليوم زواجه الذي ينتظره، ولكنه آثر أن يفك به ضائقة والده ودَيْنه على أن يُبقيه في دولاب ملابسه. عاد إلى المجلس وقال للرجل: "هذه دفعةٌ من دَيْن الوالد قدرها سبعةٌ وعشرون ألف ريالٍ، وسوف يأتي الخير ونسدد لك الباقي في القريب العاجل إن شاء الله". هنا بكى الأب وطلب من الرجل أن يُعيد المبلغ إلى ابنه؛ فهو محتاجٌ له، ولا ذنب له في ذلك، فأصرّ الابن على أن يأخذ الرجل المبلغ، وودعه عند الباب طالباً منه عدم التعرض لوالده، وأن يُطالبه هو شخصياً ببقية المبلغ. ثم تقدم الابن إلى والده وقبّل جبينه وقال: "يا والدي قدرك أكبر من ذلك المبلغ، وكل شيءٍ يُعوض إذا أمد الله عمرنا ومتعنا بالصحة والعافية، فأنا لم أستطع أن أتحمل ذلك الموقف، ولو كنتُ أملك كل ما عليك من دَيْن لدفعته له ولا أرى دمعةً تسقط من عينيك على لحيتك الطاهرة". احتضن الشيخ ابنه وأُجهش بالبكاء وأخذ يُقبله ويقول: "الله يرضى عليك يا ابني، ويوفقك ويُحقق لك كل أمانيك". بعد يومين، وبينما كان الابن منهمكاً في أداء عمله الوظيفي زاره أحد الأصدقاء الذين لم يرهم منذ مدةٍ، وبعد سلامٍ وسؤالٍ عن الحال والأحوال قال له ذلك الصديق: "يا أخي؛ أمس كنتُ مع أحد كبار رجال الأعمال، وطلب مني أن أبحث له عن رجلٍ مخلصٍ وأمينٍ وذي أخلاقٍ عاليةٍ، ولديه طموحٌ وقدرةٌ على إدارة العمل، وأنا لم أجد شخصاً أعرفه تنطبق عليه هذه الصفات إلا أنت، فما رأيك أن نذهب سوياً لتقابله هذا المساء؟"، فتهلل وجه الابن بالبُشرى وقال: "لعلها دعوة والدي وقد أجابها الله"، فحمد الله كثيراً. وفي المساء كان الموعد فما إن شاهده رجل الأعمال حتى شعر بارتياحٍ شديدٍ تجاهه وقال: "هذا هو الرجل الذي أبحث عنه"، وسأله: "كم راتبك؟"، فقال: "ما يقارب الخمسة آلاف ريال"، فقال له: "اذهب غداً وقدم استقالتك، وراتبك خمسة عشر ألف ريالٍ، وعمولةٌ من الأرباح 10%، وراتبان: بدل سكن وسيارة، وراتب ستة أشهرٍ تُصرف لك لتحسين أوضاعك". وما أن سمع الشاب ذلك حتى بكى وهو يقول: "أبشر بالخير يا والدي"، فسأله رجل الأعمال عن سبب بكائه؟ فحدثه بما حصل له قبل يومين، فأمر رجل الأعمال فوراً بتسديد ديون والده، وكانت محصلة أرباح هذا الشاب في العام الأول لا تقل عن نصف مليون ريال.

 

وهذه قصةٌ واقعيةٌ تُبين (مكانة الأب) وحرص الابن على البر بأبيه، وتُبين في ذات الوقت ذكاء المؤمن وفطنته في التعامل مع المواقف الحياتية اليومية؛ ألم يَرِد في الأثر أنّ "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ"؟

تدور أحداث القصة حول رجلٍ عجوزٍ مُسنٍ يُقيم في فلسطين، تم اعتقال ابنه الوحيد من قِبل الإسرائيليين؛ ليعيش هذا الرجل العجوز وحيداً في منزله. وفي ذات يومٍ قرر هذا الرجل العجوز أن يقوم بزراعة أرضه الزراعية، ولكن هذا المسكين كان بمفرده، فتذكر ابنه وحزن لأنه كان يُساعده ويقوم بكل شيءٍ، فقام الأب بكتابة خطابٍ لولده قال له فيه أنه مشتاقٌ إليه كثيراً، وأنه يحبه كثيراً جداً، ويتمنى لو كان بجانبه ليعاونه على حرث الأرض تمهيداً لزراعتها. وصل الخطاب للابن في سجنه؛ فرد بخطابٍ مضمونه ألا يقوم الأب بحرث الأرض لأنه قد وضع بها أسلحة. لم يمر يومٌ واحدٌ إلا ووجد الأب العجوز القوات الإسرائيلية جاءت لتقوم بتقليب الأرض بحثاً عن تلك الأسلحة، لكنهم لم يجدوا شيئاً، ثم تلقى الأب خطاباً آخر من ابنه يقول له: "ها قد تم تقليب الأرض وحرثها وأصبحت جاهزةً للزراعة! لا تقلق أبي؛ سوف أساعدك في العام القادم أيضاً، حظاً موفقاً يا أبي".

 

وقد وردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تؤكد على أهمية البر بالوالدين، وللأب منها نصيب. أما ما ورد لبيان (مكانة الأب) والبر به بصفةٍ خاصةٍ فقد كانت قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، ثم قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل خير مثالٍ على ذلك؛ فها هو سيدنا إبراهيم يُخاطب أباه المشرك بأرق وألطف الألفاظ فيقول له في أكثر من موضع ﴿يَآبَتِ﴾، ثم تدور الأيام، فيكون سيدنا إبراهيم هو الأب، ويكون ابنه إسماعيل عليه السلام هو الابن البار الذي يعرف (مكانة الأب) فيطيعه في أغرب أمر؛ ألا وهو أمر ذبحه؛ يقول تعالى على لسان إبراهيم الخليل: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، فيكون رد الابن البار دون تردد: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.

 

وفي السُنة المشرفة وردت في (مكانة الأب) وعظيم حقه العديد من الأحاديث النبوية منها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَجْزي وَلَدٌ والِدًا إلَّا أنْ يجِدْهُ مَمْلوكًا فَيَشْتَريَهُ فَيُعْتِقَهُ]، أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْوالِدُ أَوْسَطُ أَبْوابِ الجَنَّةِ، فَإنَّ شِئْتَ فَأضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْه].

وقال صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ وَمالُكَ لِأَبيكَ]، واللام هنا للإباحة وليست للتمليك، أي أنه لا يأخذ من مال ابنه إلا بقدر الحاجة، والحديث كناية عن شدة البر بالآباء، ولا تعني أن مال الابن ملكٌ للأب يتصرف فيه كما يشاء، ولكن أن يبر الابن أباه ويُكرمه ولا يبخل عليه بشيء مع الحفاظ على الذمم المالية مستقلة.

كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يُفيد الحج عن الأب في حالة عدم الاستطاعة؛ إذ قال رجلٌ: يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ، لا يستطيعُ الحجَّ ولا العُمرةَ ولا الظَّعنَ قال: [فحُجَّ عَنْ أَبيكَ وَاعْتَمِرْ].

وقال صلى الله عليه وسلم: [إنّ أبَرَّ البرِّ صِلَةُ الرَجُلِ أهْلَ وُدِّ أَبِيه]، بمعنى أن من أفضل أعمال البر أن يصل الابن من كان الأب حريصاً على صلتهم في حياته سواءً من رحمه أو أصدقائه.

 

وقد وصف بعض الفضلاء (مكانة الأب) وفضله فقالوا: إنه الصديق الصادق والأخ القريب، وهو الحاني؛ لا يمكنه تذوق طعم الراحة إلا براحة أبنائه. هو الرجل الشجاع يلتجئ إليه الأبناء في ضعفهم، ويستندون عليه في مصائبهم، هو المكافح الذي لا يعرف الكسل ولا التواكل في جني الرزق، وهو المقدام المناضل لا يعرف التعب من أجل تلبية رغبات أبنائه، وهو الصاحب الذي لا يكل من مرافقتهم في كل محلٍ ومرتحل. هو كالشجرةِ في العطاء؛ فهو يمنح بلا مقابل، وكالنهر في الحب والحنان؛ فهو دائم الحب متدفق المشاعر. هو عمود البيت، وسرّ استقراره، وهو صمام الأمان للأسرة؛ فهو يحمي أفراد أسرته من المخاطر التي تُحيط بهم، ويُحافظ على أسرته متماسكةً لا يفرقها شيءٌ. وهو المربي الصبور يُربي أبناءه ويصبر على أخطائهم، وهو المعلم الذي لا يمل من تعليمهم وإعطائهم النصائح المفيدة، كلامه يُريح القلوب ويُثلج الصدور، لا يتعب من الاستماع إلى أبنائه وإرشادهم، ولا يمل من دعمهم وتشجيعهم وإرشادهم؛ فهو طبيبهم الذي يقف على مشاكلهم ومعضلات أمورهم ويُعالجها بحكمةٍ وصبر.

 

أحبتي .. أعجبني من قال إننا مهما تحدثنا عن فضل الأب فلن نوفيه حقه ولن ننزله منزلته، فحب الأب أروع الهدايا من الله. فمن كان له أبٌ على قيد الحياة فليُقّبِل يديه، وليلزم قدميه، يُحسن صحبته، ويطلب منه الرضا، ويضعه تاجاً على رأسه. ومن كان أبوه ميتاً فليُحسن إليه بكل صنوف البِر بعد الموت، ولا يتذكره في المناسبات فقط بل في كل وقتٍ ويدعو له؛ فلا يجب ألا ينساه.

اللهم اجعلنا ممن يُحافظون على (مكانة الأب) حياً وميتاً، وألهمنا الدعاء له، ويسِّر لنا البر به.

 

https://bit.ly/30YxsAG

 

الجمعة، 19 نوفمبر 2021

البر بالأم

 خاطرة الجمعة /318


الجمعة 19 نوفمبر 2021م

(البر بالأم)

 

تقول راوية القصة: تقدّم أحدُهم لخطبتي وكان شرطه الوحيد للزواج هو الاعتناء بوالدته. أخبرني بأنه لن يطلب مني أكثر من ذلك، فقط أُراعي أمه وقت غيابه؛ فأُمه طريحة الفراش منذ عشرة أعوام، فبعد وفاة والده لم يبقَ له سواها من الحياة. قال لي: "فقط هذا شرطي: أمي، أعرف بأنكِ لستِ مُكّلفةً برعايتها أو خدمتها ولكن إذا وافقتِ فستعملين ذلك من باب إنسانيتك وطاعةً لي". كانت أمه قد تعرضت لحادث سيرٍ مُرعبٍ فقدت بعده التحكم في جسمها بالكامل وشُلت أطرافها، وكان هو القائم برعايتها، ولكن نظراً لدراسته وعمله، فإن هناك أوقاتاً يغيب عنها وهي بحاجةٍ إلى أدويةٍ واهتمام. فكّرتُ كثيراً وتحيّرتُ كثيراً؛ فهذا كأنه بحاجةٍ إلى خادمةٍ وليس زوجة. تكلّمتُ مع والدي الذي خفف من ضجيج تفكيري وقال لي: "اسمعي يا ابنتي، هذا مستقبلك، وليس لي حق التأثير عليكِ، ولكن طالما سألتيني رأيي فأنا أؤمن جيداً بأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وشخصٌ كهذا حريصٌ على والدته لن يُضيعك معه ولن يظلمك حقك؛ إن أحبك أكرمك، وإن كرهك لن يظلمك، فإذا كنتِ ستُراعين أمه ليس بشكلٍ يُرضيه ولكن ستضعيها في مقام أمك فاقبلي ابنتي، وإذا كان الشيطان سيجد بابه إلى قلبك فيحملك على ظُلمها فقولك "لا" أسلم لكِ".

تزّوجنا، وفي أول ليلةٍ لي معه أخذني إلى غُرفة والدته، صُعقت من منظر الغرفة كانت كقطعةٍ من الجنة؛ ألوانها، ترتيبها، وسائل التدفئة فيها، كانت الغرفة مُختلفةً تماماً عن باقي غرف البيت. تركني واقترب من سرير أمه، كانت نائمةً أخذ يهز كتفها برفقٍ قائلاً: "ماما، لقد أحضرتُ هديتي لكِ؛ هذه زوجتي ألا تريدين رؤيتها؟!" فتحت عينيها برفقٍ ونظرت له بابتسامةٍ وادعةٍ ثم حوّلت نظرها إليّ، لا أستطيع وصف تلك اللحظة، عيناها مليئتان بألمٍ، وثغرها مبتسمٌ بحُزنٍ، كان وجهها كالقمر في ليلة تمامه، هادئٌ جداً بالنسبة لامرأة في السبعين من عمرها. قالت: "مُباركٌ عليكِ بُنيتي زفافك، وأدعو الله أن يهدي لكِ صغيري هذا، وأن يرزُقك ولداً باراً مثله، وألا تكوني ثقيلةً عليه مثلي"، ثم ذرفت عيناها دموعاً أشبه بفيضانٍ سُمح له بالجريان. سارع لمسح دموعها بكم بذلته وقال: "هذا الكلام يُغضبني وأنتِ تعلمين ذلك، أرجوكِ ماما لا تُعيديها"، واقتربتُ أنا منها وقبّلتُ يدها ورأسها وقلتُ: "آمين، ماما". مرت أيامي في هذا البيت ودهشتي فيه تزداد يوماً بعد يومٍ، كان هو من يُغيّر لها الحفّاض، وكان يُحممها في مكانها بفرشاة الاستحمام، وكان يُبلل لها شعرها ويُسرحه لها، وعندما تألمت من المشط أحضر لها مشطاً غريباً كان من الورق المُقوى الناعم من أجل فروة رأسها، كان قد رآه في أحد الإعلانات التجارية، أحضره لها، سُرّت جداً بذلك المشط، كان يُضّفر لها شعرها في جديلتين صغيرتين؛ فكانت تخجل عندما يفعل لها ذلك وتبتسم بحياءٍ وتقول: "لستُ صغيرةً لتفعل هذا أيها الولد، فلتُنهِ ذلك"، كان يرد: "عندما يُعجب أحدهم بكِ فستشكُريني"، عندها تغرق في ضحكٍ عميقٍ، كنتُ أرى زوجي من خلف ذلك الضحك ينظر إليها كطفلٍ ما زال في السادسة من عمره، حقاً كان يُحبها، بل ويُحبها جداً. لا أعرف ماذا قصد عندما أخبرني بأنه يُريدني أن أعتني بها، هو يفعل كل شيءٍ! أخبرني بأن وقت خروجه وعمله يستثقله عليها بأن تكون فيه وحيدةً، كنتُ أستغرب كيف يجد وقتاً لكل ذلك؟ فقط كنتُ أنا أساعدها في تناول وجباتها وأخذ أدويتها، هذا كل دوري. أحببتُ علاقته بها جداً، كان مُتعلقاً بها، وهي متعلقةٌ به أكثر؛ كان يستيقظ في الليل على الأقل ثلاث مراتٍ لينقلها من جانبٍ لآخر حتى لا تُصاب بقُرح الفراش وليطمئن عليها. كان مع كل مُناسبةٍ يُحضر لها ملابس جديدةً ويُشعرها بجو تلك المناسبة. وفي إحدى المرات كان قد نسي إحضار حفاضٍ لها، وعندما استيقظ ليلاً للاطمئنان عليها شم رائحة قذارةٍ فعرف أنها قد أطلقتها على نفسها، كانت تبكي بشدةٍ وتقول: "آسفة، حدث ذلك رغماً عني"، كان مُنهمكاً في تنظيفها وهي تبكي وتقول: "أنت لا تستحق مني ذلك، هذا ليس لائقاً بك، أدعو الله أن يُعجّل ما بقي لي من أيامٍ"، يرد قائلاً: "أفعل ذلك أمي بنفس درجة الرضا التي كنتِ تفعلينها بها في صغري". بكيتُ وتيقنتُ أن هذا الرجل فعلاً رِزْق. أنجبتُ منه ولداً تمنيتُ أن يكون مثله في كل شيءٍ؛ فحملته وذهبتُ به عند جدته ووضعته في حضنها وقلتُ لها: "أريده مثل ابنك"، فابتسمت وقالت: "صغيري هذا رزقٌ لي، والرزق بيد الله عزيزتي؛ فادعي الله أن يُربيه لكِ". كانت حياته كُلها بركةً وخيراً، لم يتذمر من والدته قط لا أمامي ولا أمام غيري، كانت رائحته تفوح بالبر بأمه حتى ظننتُ أنها تكفي جميع العاقين.

 

هذه قصةٌ عن (البر بالأم) رأينا فيها بر الابن بأمه. وإليكم قصةً أخرى عن بر زوجةٍ بأم زوجها، وكيف كان ذلك سبباً في إسلام ممرضةٍ أمريكية؛ كتبت الممرضة تقول:

أول مرةٍ سمعتُ فيها كلمة «الإسلام» كانت أثناء متابعتي لبرنامجٍ تليفزيوني، فضحكتُ من المعلومات التي سمعتها يومها. بعد عامٍ من سماعي لكلمة «الإسلام» استمعتُ لها مرة أخرى، ولكن أين؟ في المستشفى الذي أعمل فيه؛ حيث أتى زوجان وبصحبتهما امرأةٌ مريضةٌ. جلست الزوجة أمام المقعد الذي أجلس عليه لمتابعة عملي، وكنتُ ألاحظ عليها علامات القلق، وكانت تمسح دموعها. من باب الفضول سألتها عن سبب ضيقها، فأخبرتني أنها أتت من بلدٍ بعيدٍ مع زوجها الذي أحضر أمه باحثاً لها عن علاجٍ لمرضها العضال. كانت المرأة تتحدث معي وهي تبكي وتدعو لوالدة زوجها بالشفاء والعافية، فتعجبتُ لأمرها كثيراً! تأتي من بلدٍ بعيدٍ مع زوجها من أجل أن يُعالج أمه؟! تذكرتُ أمي وقلتُ في نفسي: "أين أمي؟ قبل أربعة أشهرٍ أهديتها زجاجة عطرٍ بمناسبة عيد الأم ولم أفكر منذ ذلك اليوم بزيارتها! هذه هي أمي فكيف لو كانت أم زوجي؟!". لقد أدهشني أمر هذين الزوجين، لا سيما أن حالة الأم صعبةٌ، وهي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. أدهشني أكثر أمر الزوجة؛ ما شأنها وأم زوجها؟! أتُتعب نفسها وهي الشابة الجميلة من أجل أم زوجها؟ لماذا؟ لم يعد يشغل بالي سوى هذا الموضوع. تخيلتُ نفسي لو أني مكان هذه الأم، يا للسعادة التي سأشعر بها، يا لحظ هذه العجوز، إني أغبطها كثيراً. كان الزوجان يجلسان طيلة الوقت معها، وكانت مكالماتٌ هاتفيةٌ تصل إليهما من الخارج يسأل فيها أصحابها عن حال الأم وصحتها. دخلتُ يوماً غرفة الانتظار فإذا بزوجة الابن جالسة، فانتهزتها فرصةً لأسألها عما أريد، حدثتني كثيراً عن حقوق الوالدين في الإسلام؛ وأذهلني ذلك القدر الكبير الذي يرفع الإسلام إليه الوالدين ويُوصي بهما ويأمر بالإحسان إليهما. بعد أيامٍ تُوفيت العجوز، فبكى ابنها وزوجته بكاءً حاراً وكأنهما طفلين صغيرين. بقيتُ أفكر في هذين الزوجين، وبما علمته عن حقوق الوالدين في الإسلام، وأرسلتُ إلى أحد المراكز الإسلامية بطلب كتابٍ عن حقوق الوالدين، ولما قرأته عشتُ بعده في أحلام يقظةٍ أتخيل خلالها أني أمٌ ولي أبناءٌ يحبونني ويسألون عني ويُحسنون إليّ حتى آخر لحظةٍ من عمري، ودون مقابل. دمعت عيناي؛ هذا دينٌ علّم الأبناء بر الآباء والأمهات، وأن يعيشوا معهم حتى الممات، وأن يرحموهم في الكبر؛ إنه الدين العظيم. اعتنقتُ الإسلام، والحمد لله تزوجتُ من رجلٍ مسلمٍ، وأنجبتُ طفلاً وسميته عبد الملك، أدعو له بالهداية والصلاح، وأن يرزقني الله بره.

 

أحبتي في الله .. ذُكرت الأم في القرآن الكريم في عدة مواضع توصينا بضرورة (البر بالأم)؛ منها: عن الحمل والولادة والرضاعة؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾. وعن أم موسى؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ويقول كذلك: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾. وعن أهوال يوم القيامة؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. وعن البيوت التي يأكل فيها الإنسان بغير حرج؛ يقول تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ...﴾.

 

كما ورد ذِكر الأم في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبين أهمية (البر بالأم)؛ منها: أن رجلاً أتى النبيَ – صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: “إني أشتهي الجهاد، وإني لا أقدر عليه، قال: [هل بَقِي أحدٌ مِن والديك؟] قال: أمي، قال: [فَأَبْلِ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرَّهَا؛ فإنَّك إذا فعلتَ ذلك، فأنتَ حاجٌّ ومُعتمر ومُجاهد، إذا رضيتْ عنك أُمُّك، فاتقِ اللهَ في برِّها]. {فَأَبْلِ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرَّهَا أي أعطه وأبلغ العذر فيها إليه، المعنى: أحسن فيما بينك وبين الله تعالى ببرك إياها}. وجاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: [هل لَكَ مِن أمٍّ؟]، قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]. وقالتْ أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما -: قَدِمَتْ عليّ أُمِّي وهي مُشرِكة في عهْدِ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فاستفتيتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قلتُ: إنَّ أمي قَدِمتْ وهي راغِبة أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قال: [نعم، صِلِي أُمَّكِ]. وقال رجلٌ: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: [أُمُّك، ثم أُمك، ثم أُمك، ثم أبوك]، يقول أهل العلم إن في الحديثُ إشارةٌ إلى أنَّ الأمَّ تفضَّلت على الأب بثلاثِ درجاتٍ، نظراً لحملها ووضعها وإرضاعها، فلزِم أن يكون حبُّها وبرُّها ثلاثة أضعاف برِّ الأب. كما أن الأمُّ أضعفُ وأعجزُ من الأبِ جسدياً، فكانَ مقدَّماً برُّها عليه. وكذلك فإن المشقَّة على الأمِّ في إنجابِ الولد ورعايته اضطرارية، أمَّا مشقَّة الأبوَّة فاختياريَّة، إذ تُضحّي الأمُّ بصحَّتها وراحة جسدها، فتقدّمت في البرِّ وفي وجوبِ الإنفاق عليها عند الحاجة.

 

أما عن الآداب التي تُراعى في مجال (البر بالأم) فمنها كما يشير العلماء: تقديمُ طاعتها على سائِر البشر. الإحسانُ إليها بالقولِ والعمل. خفض الجناح لها بالتواضعِ والانكسارِ وعدم التكبُّر عليها. ملاطفتها بالكلام وعدم نهرها أو رفع الصَّوت عليها أو التأفّف من شيءٍ فَعَلته. الإصغاء إلى كلامها، وعدم مقاطعتها فيه أو إقامة الحُجَّة عليها. الفرح بأداءِ طلباتها وترك التضجُّر منها. التودُّد لها وتعظيم شأنها في المجالس وتقبيل يدها ورأسها بين الفينة والأخرى. الابتعاد عن إزعاجها بالأخبار السيّئة. الاستئذانُ منها وطلب مشورتها في أمورِ الحياة. انتظارها لتناولِ الطَّعام وعدم البدء بذلك قبلها. البقاءُ عندها في حال مرضِها والسَّهر على راحتها وشفائها. الإنفاقُ عليها في حال الحاجة. الترويح عنها وإدخال السرور على قلبها. كثرة الاستغفار لها في حياتها وبعد مماتها. والصَّدقة عنها بعد موتها.

 

أحبتي .. (البر بالأم) من أعظم القربات لله سبحانه وتعالى. فمن كان منا يوقر أمه ويحترمها ويُقدم لها كل فروض الطاعة والولاء دون أي شكوى أو تذمر فهنيئاً له ما قدم لنفسه من خيرٍ له ثوابٌ عظيمٌ في الدنيا والآخرة. أما من كان مقصراً في ذلك فليراجع نفسه، ويسارع إلى تدارك ما فاته، عسى أن يُمهله ربه فيُعوِّض ما قد مضى ويحمد الله أن هداه ووفقه.

هدانا الله سواء السبيل لنيل رضا أمهاتنا؛ فإن كُنّ ما زلنّ على قيد الحياة، فهذه والله لفرصةٌ عظيمةٌ، محظوظٌ صاحبها، لا يُضيعها إلا أحمق. وإن كُنّ قد توفين فواجبنا تجاههن لم ينقطع؛ علينا أن ندعو لهن ونستغفر لهن ونسأل المولى عزَّ وجلّ أن يجمعنا بهن في الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم ارحم أمهاتنا أحياءً وأمواتاً.

https://bit.ly/3nxAuUY