الجمعة، 6 يناير 2023

على قدر نياتكم تُرزقون

 

خاطرة الجمعة /377


الجمعة 6 يناير 2023م

(على قدر نياتكم تُرزقون)

 

يقول راوي القصة إن صاحب شركةٍ قرر أن يُقدِّم لجميع موظفيه من الرجال والنساء هدايا؛ فأتى بمجموعةٍ من الساعات الرجالية والنسائية الفخمة، ووضعها على طاولةٍ كبيرةٍ، وطلب من كل فردٍ من الموظفين أن يختار ساعته بنفسه، وأخبرهم أنه سيُعلن بعد قليلٍ عن موظفٍ واحدٍ ستتم ترقيته. أخذ كل رجلٍ من الموظفين ساعةً رجاليةً عدا موظفٍ واحدٍ فقط أخذ ساعةً نسائيةً؛ فتعجب صاحب الشركة وسأله لماذا أخذ ساعةً نسائيةً؟ فرّد الموظف: "هي لزوجتي"، طالعه الجميع وتهامس كل واحدٍ مع زميله في سُخريةٍ منه، وقال بعضهم أنه ضعيف الشخصية، بينما أكمل الموظف كلامه برصانةٍ شديدةٍ: "إنها عِشرة عُمْر؛ لي منها خمسة أولادٍ، وهي زوجةٌ مثاليةٌ، لكن للأسف ليس في مقدوري شراء هدايا قيمةٍ لها في المُناسبات؛ فأكتفي بأن أهديها بعض كلمات الشُكر، ومع ذلك أراها راضيةً كل الرضا، واليوم أعلم أنها ستفرح كثيراً بهذه الهدية؛ فهي أقل شيءٍ أقدمه لها".

بعد هذا الكلام الجميل تجاه زوجته حمل صاحب الشركة ساعةً أخرى رجاليةً وقدَّمها هديةً لهذا الموظف، وقرر أن يقوم بترقيته وقال له: "كنتُ في حيرةٍ شديدةٍ بينك وبين ثلاثة أشخاصٍ، لكن موقفك هذا يدل على أنك مُخلصٌ لزوجتك، وبالتالي ستكون مُخلصاً لعملك؛ لذا لا أرى سواك يستحق الترقية". شكره الموظف واتجه إلى بيته يحمل الهدية، ويحمل الفرحة لزوجته الحبيبة؛ استقبلته بمُنتهى الود والرضا، وقدَّم لها الساعة فضحكت بشدةٍ فسألها: "ألهذه الدرجة أسعدتك الهدية؟!"، فردت بعفويةٍ: "اليوم، وبينما أنا في السوق ارتطمت بي فتاةٌ صغيرةٌ تبيع الخضار؛ فأمسكتُ بيدها أربتُ عليها، فأعجبتها ساعتي، فأعطيتها إياها بمُنتهى اللُطف، رغم أنك تعلم جيداً كم أحب تلك الساعة، لكن سعادة الفتاة بها أنستني كل شيءٍ، وها أنت تُقدِّم لي ساعةً أثمن وأجمل كثيراً من ساعتي"، ابتسم الزوج وتذكر أنه هو الآخر حين حمل لها الساعة حصل على أخرى له، واستحق الترقية لسلامة قلبه ونيته الطيبة تجاه زوجته.

 

أحبتي في الله.. النية الطيبة دائماً تجلب الخير لصاحبها، وصدق من قال: (على قدر نياتكم تُرزقون)، كما صدق من قال: "على قدر النوايا تُجلب العطايا".

 

يقول أهل العلم إن النوايا الطيبة مفتاح الخير في هذه الحياة، وبوابة التوفيق والرزق، وهي من العبادات الخفية، فكلما كان داخل الإنسان نقياً ابتسمت له الدروب، ولانت له الخطوب، ومالت إليه القلوب؛ لأن صفاء النية ونقاء السريرة وحُسن الظن مفاتيح لكثيرٍ من كنوز الدنيا والآخرة. والنية سر العبودية وروحها؛ فهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد؛ لأنها من أعمال القلوب، وأعمال القلوب أنفع وأنجع الأعمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّما الأعمالُ بالنِّيات]، فهي مِلاك الأعمال، وعليها يكون القبول والرد، والثواب والعقاب. ويبلغ الإنسان بنيته ما لا يبلغ بعمله؛ فقد يعجز المرءُ عن عمل الخير الذي يصبو إليه لرقة حاله، أو ضعف صحته، أو قلةِ حيلته، لكن الله المُطّلع على خبايا النفوس يرفع أصحاب النوايا الصادقة إلى ما تمنوه، لأن طِيبَ مقصدهم أرجحُ لديه من عجز وسائلهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [منْ سَأَلَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ]؛ فكل من صَدَقَ الله صَدَّقَه الله جلَّ في علاه، و(على قدر نياتكم تُرزقون).

ولا يُغلَق بابٌ على العبد فيصدق في نيته ويُحسِن الظن بربه إلا ويفتح الله له أبواباً أوسع وأرحب يقول سبحانه: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾.

إن النية الصالحة تفتح أبواب الخير والتوفيق والمعونة؛ فمن أوجد نية الخير في قلبه أعانه الله على عمله، وفتح له من أبواب التوفيق والتيسير على قدر نيته، يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ﴾. والله لا يُضيِّع صدق النوايا ولو خفيت عن عباده؛ يقول تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾.

 

كتب أحد التابعين ناصحاً واحداً من حُكام المُسلمين: "فإن نويتَ الحقَّ وأردته أعانك الله عليه، وأتاحَ لك عُمَّالاً، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب، فإنَّ عونَ الله على قدر النية؛ فمن تمَّت نيتُه في الخير تمَّ عونُ الله له، ومن قَصُرَت نيتُه قصر من العون بقدر ما قصر منه".

 

وكما أن النية الصالحة تزيد صاحبها خيراً، فإن النية السيئة تزيد صاحبها سوءاً؛ يقول تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾؛ فكما أن النية الطيبة قد تُبَلِّغ الإنسان منازلَ المُتصدقين، فإن النيةَ السيئةَ قد تُبَلِّغه منازلَ الخاسرين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [...وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ].

ولنا عبرةٌ في قصة أصحاب الجنة الذين أضمروا النيةَ بحرمان المساكين فعاقبهم الله، فتحولت بَساتينُهم إلى سوادٍ وجناتُهم إلى رمادٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ. وَلَا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾.

 

أحبتي.. ما أصدق عبارة (على قدر نياتكم تُرزقون)؛ فلنُصلح نوايانا حتى ننال ما وعدنا الله سُبحانه وتعالى به من عطايا الدنيا وحُسن ثواب الآخرة؛ فالنية الطيبة مفتاح الرزق الحسن في الدارين، ونظافة القلب، وسلامة الصدر، وصفاء النية، هي مفاتيح التيسير.

ولنَحذر من سوء النية؛ فإنها تجلب لصاحبها غضب الله وسخطه، وتزيد صاحبها في الدنيا هماً وغماً وشقاءً، والجزاء من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.

اللهم أصلح نوايانا، وأعنّا على كل عملٍ صالحٍ يُرضيك عنا، وأكرم عطايانا، واجعلنا من عبادك المُحسنين.

 

https://bit.ly/3ioaATB