الجمعة، 11 أبريل 2025

العم «عابد»

 

خاطرة الجمعة /494

الجمعة 11 إبريل 2025م

(العم «عابد»)

 

أنقل إليكم اليوم قصةً من أعجب القصص، تُظهر قوة الإيمان، يرويها أحد الدُعاة، حفظه الله، وهي قصةٌ حقيقيةٌ وقعت في إحدى قُرى منطقة «ينبع» في غرب «المملكة العربية السعودية». يقول راويها:

توجهنا -أنا ومجموعةٌ من أهل الصلاح- إلى قريةٍ بسيطةٍ أخبرنا بعض الأحبة من طُلاب العلم المُقيمين في المنطقة أنّ في تلك القرية رجلاً صالحاً، اسمه (العم «عابد»)، وأنه كما يُقال "اسمٌ على مُسمى"! سألناهم: "كيف ذلك؟"، قالوا: "اذهبوا إلى القرية، واحضروا الصلاة في مسجدها، وستعرفونه بأنفسكم، وستدركون وقتها لماذا نقول عليه إنه اسمٌ على مُسمى! توجهنا في اليوم التالي إلى القرية وعندما وصلنا إليها وجدناها قريةً بسيطةً مُتواضعةً، لا يوجد بها أي مَعلمٍ من معالم الحضارة الحديثة، كأنها تعيش في زمنٍ آخر، شاهدنا مئذنة المسجد على بُعدٍ، وبدأنا المسير إليه، سِرْنا على أرضٍ غير مُمهدةٍ، قاصدين المسجد آملين أن نلتقي (العم «عابد») ونتعرف عليه. لكننا عندما اقتربنا من المسجد، شاهدنا شيئاً عجيباً؛ شاهدنا عند بابه حجراً كبيراً مربوطاً به حبلٌ مُمتدٌ على الأرض؛ تملكنا الفضول، وتساءلنا عن سر هذا الحبل المربوط بالحجر على باب المسجد. ولما كان هناك وقتٌ طويلٌ قبل أذان العصر؛ فقد قررنا أن نرجئ دخول المسجد لمُقابلة (العم «عابد»)، وعزمنا على أن نكتشف أولاً سر هذا الحبل بأنفسنا! أمسكنا بطرف الحبل، وأخذنا نسير معه، يرتفع بنا حيث ترتفع الأرض، وينخفض حيث تنخفض؛ فطُرقات القرية غير مُستويةٍ، سِرْنا مسافةً كبيرةً حتى اقتربنا من نهاية الحبل. نعم، لقد بدأنا نصل إلى الطرف الآخر من الحبل؛ فما هو السر الذي ينتظرنا في نهايته يا ترى؟! إلى ماذا سوف يوصلنا هذا الحبل، وإلى مَن؟ وما هو سبب وجوده ممدوداً حتى المسجد؟

عندما وصلنا إلى نهاية الحبل، وجدنا بيتاً مُتواضعاً مُكوّناً من غُرفةٍ ودورة مياهٍ، ووجدنا به رجلاً كبيراً في السن، كفيف البصر، عُمره يزيد عن خمسٍ وثمانين سنةً، مَن هو يا تُرى؟

هنا كانت المفاجأة! إنه هو (العم «عابد») الذي كُنا نريد أن نلتقي به في المسجد! سألناه: "يا عم «عابد»، أخبِرنا ما سر هذا الحبل؟!" فردَّ قائلاً: "هذا الحبل من أجل الصلوات الخمس في المسجد؛ أخرج من بيتي قبل الأذان، وأُمسك بهذا الحبل حتى أصل إلى المسجد، ثم بعد انتهاء الصلاة وخروج الناس، أخرج أنا كآخر رجلٍ من المسجد، وأُمسك بالحبل مرةً أخرى حتى أعود إلى بيتي؛ إذ ليس لي قائدٌ يقودني"!

نظرنا إلى كلتا يديه، فإذا هُما خشنتين مُتشققتين تشهدان على صدق صاحبهما.

إنه رجلٌ نوَّر الله قلبه بالإيمان، قصد طاعة الله، أراد الصلاة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ فكأنه قد تمثل قوله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾، إنه رجلٌ في هذا السن، كفيف البصر، ضعيف البناء، بحالةٍ لو رأيتموها لتعجبتم والله! يقول: "من أجل الصلوات الخمس في المسجد"؛ فأين الرجال المُبصرون الذين يتكاسلون عن حضور الصلوات الخمس في المسجد؟ أين الذين هجروا صلاة الفجر؟ أين الذين حرموا أنفسهم من الصلاة في بيوت الله؟ أين أولئك الكُسالى الذين امتنعوا عن أداء الصلوات الخمس في المسجد؟! ألم يستمعوا إلى قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾.

نعود إلى قصة (العم «عابد»)، يقول أهل المنطقة عنه إنه رجلٌ سمته الصلاح والوقار، كفيف البصر من زمنٍ بعيدٍ، أما عن الحبل فقد غيَّره أكثر من مرة!

فأين المُبصرون الأصحاء جيران المساجد، الذين لا يشهدون الصلوات الخمس بها؟ أين الذين حرصوا على الوظائف والمناصب والتجارة وغيرها من أمور الدنيا أكثر من حرصهم على الصلاة بالمساجد؟ أين هُم من (العم «عابد»)؟!

 

أحبتي في الله.. تدور قصة هذا الرجل الصالح حول أمرين مُهميْن: المحافظة على الصلوات الخمس وعدم التخلف عنها رغم وجود العُذر، والبصيرة التي عوضته عن فقدان البصر.

عن الأمر الأول يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صَلَاةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وفي سُوقِهِ، خَمْسًا وعِشْرِينَ ضِعْفًا، وذلكَ أنَّهُ: إذَا تَوَضَّأَ، فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إلَّا رُفِعَتْ له بهَا دَرَجَةٌ، وحُطَّ عنْه بهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عليه، ما دَامَ في مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عليه، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولَا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلَاةٍ ما انْتَظَرَ الصَّلَاةَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟]، قالُوا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: [إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ]. وهذا رجلٌ أعمى قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنه ليس له قائدٌ يقوده إلى المسجد، وسأل رسول الله أن يُرَّخص له فيصلي في بيته، فرَّخص له، فلما ولىَّ دعاه فقال: [أتَسمعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ؟]، قال: نعم، قال: [فأجِبْ]؛ أي فاذهب للصلاة بالمسجد ولا تُصلِ في بيتك.

 

وكان المسلمون الأوائل يحرصون على الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، ويسعون لإدراك فضل الصلاة في الصف الأول، حتى قيل إن بعضهم صلى سبعين سنةً ما فوَّت تكبيرة الإحرام ولا مرةً واحدة.

ونُقل عن أحدهم قوله لأصحابه: "إذا سمعتم حيّ على الصلاة، ولم تجدوني في الصف الأول، فإنما أكون قد مِتُ".

وقيل: "من تأخر عن حيّ على الصلاة، تأخر عنه الفلاح".

وقيل أيضاً: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة -يقصد في المسجد- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف".

 

وعن الأمر الثاني؛ البصيرة؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

وقال أحد التابعين: "لكل إنسانٍ أربع أعينٍ: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبِه لآخرته؛ فإن عَمِيَت عينا رأسِه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسِه وعَمِيَت عينا قلبِه فلم ينفعه نظرُه شيئاً".

وقال الشاعر في هذا المعنى:

إنْ يأخذ الله من عينيَّ نورَهما

فإن قلبي مُضيءٌ ما به ضَررُ

أرى بقلبي دُنيايَ وآخرتي

هو القلبُ يُدركُ ما لا يُدركُ البَصرُ

 

أحبتي.. فقد (العم «عابد») البصر، لكنه لم يفقد البصيرة؛ فأضاء الله دربه بنور الإيمان، ويسَّر له أداء الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد القرية بغير رفيقٍ يأخذ بيده، ولا قائدٍ يقوده إلى المسجد ويعود به إلى بيته، وكأنه ممن تصفهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

إنّ في قصة (العم «عابد») عبرةً لكل مُسلمٍ، ودرساً لكل مؤمنٍ، وتذكِرةً لكل غافلٍ؛ ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾؟

اللهم اجعلنا من عُمّار بيوتك، ومن المُحافظين على الصلوات في أوقاتها، وأنِر بصائرنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يسمعون ويقرأون عن الصالحين فيتعلمون منهم ويتخذونهم قدوةً لهم.

https://bit.ly/4lsLsH1