الجمعة، 6 أغسطس 2021

الابتلاء نعمة

 

خاطرة الجمعة /303


الجمعة ٦ أغسطس ٢٠٢١م

(الابتلاء نعمة)

 

عالمٌ سوريٌ جليلٌ -أثق في علمه- كتب يحكي عن ثلاثة أشخاص فقال:

لي أخٌ انتظم في الصلاة بالمسجد من سنواتٍ عدةٍ، قال لي: "قبل أن أصطلح مع الله كنتُ أعمل في عملٍ تجاريٍ درَّ عليَّ مبالغ كبيرةً جداً، وضعتُ في جيبي 500 ألف ليرة، وتوجهتُ إلى بلدٍ بعيدٍ كي أستمتع، ولم آخذ معي أحداً، وفهمكم كفاية"! أخبرني أنه وصل إلى ذلك البلد البعيد، وهو يحلم بأن يقضي شهراً كما يُحب من دون قيدٍ، من دون ضابطٍ، من دون رقابةٍ، من دون محاسبةٍ، من دون تكليفٍ. وإذ تظهر فجأةً آلامٌ في ظهره، قال: "فدخلتُ إلى المستشفى، وأجريتُ الفحوص؛ كانت نتيجة التشخيص: سرطان في العمود الفقري"! قال لي: "عدتُ أدراجي إلى الشام بسرعةٍ أتنقل من مسجدٍ إلى مسجدٍ، ومن شيخٍ إلى شيخٍ، ثم تبين بعد فترةٍ أن التشخيص كان غير صحيحٍ، كان خطأً ولا يوجد بي أي مرض"! قال: ثم تاب الله عليه والتزم.

‏ قال عالِمنا: وكانت هناك فتاةٌ تحب أن تتوظف في التدريس، وهي متفلِّتةٌ، سافرةٌ، لا تُصلي، قدمت أوراقها الثبوتية للتوظيف، فطولبت بشهادةٍ صحيةٍ من المشفى، ذهبت إلى المشفى وأجرت فحصاً شاملاً؛ فكان الجواب: سلٌّ رئوي!! وهو مرضٌ مُعدٍ، فعلم أهلها بذلك، وابتعدوا عنها، وجعلوها تقبع في غرفتها، واستخدموا لها أدواتٍ خاصةً بها، وبقيت تبكي وتبكي وتبكي، وهي ترى مصيرها الأسود، ثم خطر لها أن تتوب إلى الله، وأن تصطلح معه، وأن تبدأ بالصلاة، وأن تبدأ بالحجاب، وتابت إلى الله عزَّ وجلّ؛ فذهب أخوها صدفةً إلى المستشفى ليتأكد من النتيجة، فإذا بالنتيجة كانت ليست لها، بل لغيرها، ولكن بالخطأ أعطوها لها!

 

وقال عالِمنا: وأعرف رجلاً بعيداً عن الدين كبُعد الأرض عن السماء، يحمل شهادةً عليا بفرعٍ نادرٍ من العلوم، وهو جميل الصورة، ومتفلِّتٌ في مِزاحه وفي لسانه وفي عقيدته؛ لدرجة أنه كان يستهزأ بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! تزوج فتاةً تروق له، فأنجبت له بنتاً صغيرةً، كاد عقله يذهب بحبها، فإذا هي تُصاب بمرضٍ عضالٍ في دمها! أنا أعرفه إنساناً شارداً، أعرفه غارقاً في المعاصي والآثام، أعرفه بعيداً عن الدين، فجأةً وجدتُه في حالٍ لا يُصدق من الإنابة والتوبة والخشوع، سألته: "ما الذي حصل"؟ قال: "هذه البنت الصغيرة أصابها مرضٌ عضالٌ، لم أترك طبيباً إلا وعرضتُها عليه، ثم بعتُ بيتي، وذهبتُ بها إلى «بريطانيا»، ولم تشفَ من مرضها، بعد هذه المحاولات اليائسة أُلهمتُ أنْ إذا تبتُ إلى الله أنا وزوجتي ورجعنا إلى الله، لعلَّ الله يشفيها". قال عالمِنا: فبدأ يُصلي، وحجَّب زوجته، والتزم في مسجدنا، ثم بعد فترةٍ شفى الله ابنته. وبعد حينٍ من الزمن دُعيتُ إلى عقد قرانٍ من قِبله لابنته، وألقيتُ كلمةً، ولما انتهت الكلمة سألته: "هيَ هيَ"؟! قال: "هيَ هيَ"! قال عالْمنا: واللهِ بكيتُ وقلتُ: "يا رب، كل هذا المرض الخبيث جاء كضيفٍ فهدى الأب والأم، وانصرف بسلامٍ، هذا فِعلُ الله عزَّ وجل".

 

ختم عالِمنا كل قصةٍ من هذه القصص الثلاث بعبارةٍ واحدةٍ يُشير فيها إلى صاحب القصة ثم يوجه نصيحته للقارئ فيقول: "فالله عزَّ وجلَّ أتى به مُسرعاً؛ فإما أن تأتيه مُسرعاً، أو أن يأتي بك مُسرعاً". ثم عقَّب عليها جميعاً بما يلي: "يقول تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾؛ فالبطولة هي أن تأتيه أنت بنفسك طائعاً، أن تأتيه مسرعاً بمبادرةٍ منك، قبل أن يأتي بك مسرعاً ذليلاً، مكسوراً، مجروراً إليه. البطولة أن تأتيه وأنت معافىً صحيحٌ، ليس عندك مشكلةٌ، آمنٌ في بيتك، عندك زوجةٌ، عندك أولاد، عندك عملٌ، ما عندك مشكلةٌ ماليةٌ، تُصلي له وتدعوه وتناجيه".

 

أحبتي في الله .. إنها محنة الابتلاء عندما تتحول إلى منحة! لقد كانت كل محنةٍ منها سبباً في عودة المُبتلى إلى الله سبحانه وتعالى، وما أحلاها وأغلاها من منحةٍ، تؤكد لنا أنّ (الابتلاء نعمة).

 

يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.

والابتلاء من الله تعالى قد يكون دليلاً على محبته للعبد؛ فأشد الناس ابتلاءً الأنبياء أراد الله تعالى أن يرفع درجتهم ويُثَبِّت حجتهم ويجعلهم قدوةً للخلق، قال عليه الصلاة والسلام حينما سُئل أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟: [الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ].

 

يقول أحد العلماء: لو تفكّر الإنسان في هذا الكون وسننه والغاية من خلقه، لعلم أنّ للابتلاء نوراً يُضيء له ظلمات دروبه وتُشرق له نفسه، بل لو تفكر هذا العبد وتخلّى عن نظرته القاصرة التي تدفعه للجري وراء النعم العاجلة، لأدرك أنّ الابتلاء والمصائب التي يُمتحن بها ما هي إلا قطرات غيثٍ تتساقط على ربوع قلبه وصفحة روحه، إن استقبلها استقبالاً حسناً صابراً راضياً أينعت روحه وأشرقت نفسه وتبددت الحُجُب من حوله، وفَهِم المعنى المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ]. ولو تفكّر وتريث قليلاً لأدرك أن وجوده في هذه الحياة إنما هو ابتداءً ابتلاءٌ وامتحانٌ يخوضه منذ بلوغه سن التكليف والتمييز، وأنّ هذه الابتلاءات هي التي ترقى به للعلا، أو تهبط به لأسفل الدرجات. ومن طبيعة الإنسان أنه يجزع لضرٍ مسّه، أو لفوات خيرٍ عنه، فتراه يستقبل ابتلاء ربه وقد اسودّ وجهه، وانقبضت نفسه، وعبست أساريره، ولو أدرك أية منحةٍ تكمن في محنته هذه لما رفع رأسه من سجود شكرٍ لله حتى يلقاه، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: [يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بالْمَقَارِيضِ]. إن الذي يستقبل عطايا الله في النعم بالشكر، يستقبل الابتلاءات بالصبر والرضا؛ لأنه يعلم حقيقة أن النصر في أي سباقٍ أو الفوز والخلاص من أي امتحانٍ، إنما بدايته صبر ساعةٍ، وبعدها تغمره لطائف الله، فهو يتقلب من خيرٍ لخيرٍ في كل أموره، وقد منحه الله بصيرةً من خلالها تيقن أن وراء كل محنةٍ لابد من منحةٍ؛ كأشد أوقات الظُلمة حلكةً يُسفر عن فجرٍ ساطعٍ لا زيف فيه.

ويختم العالم كلامه بقوله: فليُلزم كلٌّ منا نفسه المقام الذي وضعه به خالقه ومليكه ومولاه، فإنه استخدمك في النعمة؛ ليسمع قلبك يخفق شكراً وحمداً وثناءً، وهو جلَّ شأنه من يملك أن يمتحنك بالبلاء والفتن؛ لتجود بدمع ضعفك بين يدي سيدك، مُقراً بفقرك إليه، وغناه عنك، وأنك العبد الذي لا سيد ولا رب لك سواه، وكم يا مسكين من عبيدٍ غيرك للعزيز الجبار ما حالت مصائبهم ولا منعتهم محنهم من الانطراح على عتباته رضاً وحباً وفقراً وتذللاً وتقرباً.

 

وقال آخر مبيناً حقيقة الابتلاء، موضحاً أن (الابتلاء نعمة): إن الله عزَّ وجلَّ لم يضع الابتلاء ليعذب به المؤمنين والسائرين على طريقه، وإنما وضعه؛ ليصطفيهم ويُرقيهم ويُميزهم عن غيرهم ممن تنقطع بهم الأنفاس عن الاستمرار في الطريق الموصل إليه سبحانه، وكتب سبحانه التوفيق لأوليائه بالنصر في الدنيا، ولو تأخر لسببٍ من الأسباب، والجزاء العظيم في الآخرة بجنةٍ عرضها السماوات والأرض؛ يقول تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.

 

ويخلص عالِمٌ ثالثٌ إلى نتيجةٍ مؤداها أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات وإعظام الأجور، كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار. وقد يكون لتكفير السيئات؛ كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بعبْدِهِ خَيْرًا عجَّلَ لَهُ الْعُقُوبةَ في الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللَّه بِعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنْهُ بذَنْبِهِ حتَّى يُوافِيَ بهِ يَومَ الْقِيامةِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]. إن الابتلاءات والمحن سببٌ لرفعة منزلة المُبتلى؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَمَا يَزَالُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ إِيَّاهَا].

 

حقاً وصدقاً ويقيناً إنٌ (الابتلاء نعمة)؛ فمن فوائده كما يخبرنا أحد العارفين: تكفير الذنوب ومحو السيئات، رفع الدرجة والمنزلة في الآخرة، الشعور بالتفريط في حق الله واتهام النفس ولومها، فتح باب التوبة والذُل والانكسار بين يدي الله، تقوية صلة العبد بربه، تَذَكُر أهل الشقاء والمحرومين والإحساس بآلامهم، قوة الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتَذَكُر المآل وإبصار الدنيا على حقيقتها.

 

وصدق الشاعر حين قال:

قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بالبَلْوى وإنْ عَظُمَتْ

ويَبْتَلي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بالنِعَمِ

وقال آخر:

إذَا اشْتَدَّت البَلْوَى تُخَفّفْ بِالرِضَا

عَن اللهِ قَدْ فَازَ الرَضِيُّ المُرَاقِبُ

وَكَمْ نِعْمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِبَلِيّةٍ

عَلَىَ النَاسِ تَخْفَىَ وَالبَلايَا مَوَاهِبُ

وقال ثالثٌ:

رُبَّ أَمْرٍ تَتَقِيه

جَرَّ أَمْرَاً تَرْتَضِيهِ

خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ

وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ

 

أحبتي .. كان أحد الصالحين إذا أصابه بلاءٌ قال: "ما ابْتُلِيتُ ببلاءٍ إلاَّ كان لله -تعالى- عَلَيَّ فيه أربعُ نِعَمٍ: إذْ لم يكن في ديني، وإذْ لم يكن أعظم منه، وإذ لم أُحْرَم الرضا به، وإذْ أرجو الثوابَ عليه".

اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا ومالنا. اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا. اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، ونسألك أن تُعطينا من اليقين ما تُهَوِّنُ به علينا مصائب الدنيا.

https://bit.ly/3Ck7Ewy