الجمعة، 24 ديسمبر 2021

رؤية خير الخلق أجمعين

 

خاطرة الجمعة /323


الجمعة 24 ديسمبر 2021م

(رؤية خير الخلق أجمعين)

 

قصةٌ واقعيةٌ وعجيبةٌ حدثت في بلاد القوقاز الإسلامية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحكم الشيوعي. بعد انهيار الماركسية مباشرةً أراد الأستاذ/ عاصم -وهو أحد الاتراك الدعاة إلى الله تعالى- السفر إلى تلك الديار الإسلامية للدعوة إلى الإسلام ببناء مدرسةٍ لتعليم القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية التي دمرها وأزالها الشيوعيون الملاحدة أثناء حكمهم لبلاد المسلمين القوقاز. وصل الأستاذ/ عاصم إلى بلاد القوقاز في ذروة أيام الشتاء القارس؛ الثلوج متساقطةٌ بغزارةٍ والبرد شديدٌ لا يكاد يُطاق. سكن في فندقٍ متواضعٍ، أطل من شرفة الفندق يتأمل ملامح هذه البلاد التي كانت يوماً ما عامرةً بعزة الإسلام وأهله، فرأى تماثيل لينين وبقية رموز الماركسية مزروعةً في كل مكانٍ تؤكد على اكتساح العقيدة الشيوعية الإلحادية لهوية وثقافة هذا الشعب المسلم المقهور في بلده الإسلامي العظيم. كان هذا الشاب التركي المسلم داعيةً مُمتلأً بشعلةٍ إيمانيةٍ، ونشاطٍ كبيرٍ وثقةٍ بالله بتغيير هذا الواقع الذي صار إليه هذا الشعب والبلد المسلم. كان ذهنه منشغلاً بالتفكير في كيف السبيل لبناء مدرسةٍ إسلاميةٍ هنا كمنطلقٍ لعودة الهوية والروح الإسلامية لهذا البلد. عزم على القيام بأول مهمة عملٍ له وهي زيارة رئيس البلاد!

سأل عن القصر الجمهوري وانطلق إليه، وعند وصوله رفض الجنود والحراس أن يُدخلوه المبنى، لم ييأس وبعد محاولاتٍ وإصرارٍ شاء الله تعالى أن يسمحوا له بمقابلة الرئيس مباشرةً. استقبله الرئيس استقبالاً حسناً ورحب به؛ فانبسطت أسارير الأستاذ/ عاصم وحل الأمل والسرور في قلبه. قال للرئيس: "سيدي الرئيس، جئتكم بتحية إخوانكم في هضبة الأناضول"، ثم قدّم الهدايا لفخامة الرئيس، ومن ضمن هذه الهدايا كان القرآن الكريم، أعظم هدية. عندما رأى الرئيس المصحف ترقرقت الدموع في عينيه، وتناول المصحف بأدبٍ وشوقٍ وراح يُقّبله ثم ضمه إلى صدره وقال: "أتيتنا بروحنا يا أخي، أعدتَ إلينا سراجنا الذي فقدناه منذ عقود؛ أذكر يا أخي وأنا طفلٌ صغيرٌ كيف أن جدتي كانت تقرأ القرآن خفيةً. لا أعرف كيف أشكرك. ما الذي أتى بك إلى هذه الديار النائية؟"، قال عاصم: "سيدي، أتيتُ لأقيم مدرسةً لتعليم القرآن الكريم والعلوم الإسلامية"، سأله الرئيس: "هل أتيتَ وحدك؟!"، أجاب عاصم: "نعم، سأبدأ بالعمل وحدي وسيلحق بي آخرون من الأناضول وبقية دول العالم الإسلامي فيما بعد. سيدي لقد افترقنا عن بعضنا سبعين عاماً، والحمد لله انتهى الفراق وولت أيام الغُربة، حان وقت إقامة الجسور ومدها من جديد، وسوف يتسلح إخواننا بالعلم والفضيلة والإيمان بإذن الله تعالى"، قال الرئيس وقد بلغ منه التأثر مبلغاً: "ما أجمل حديثك يا أخي، أتيتَ وحدك من أجلنا وبدون مقابل! لك كل ما تُريد؛ افعل ما شئتَ وأينما شئتَ"، رد الاستاذ عاصم ممتناً: "شكراً يا سيدي، وجزاك الله خيراً".

شرع الأستاذ/ عاصم بالعمل لإقامة المدرسة في البناية التي خصصها له الرئيس. راح يعمل بكل ما في وسعه من جهدٍ وطاقةٍ يُسابق الزمن. بعد شهرٍ كاملٍ من أعمال التجهيز تم بعون الله تسجيل خمسين طالباً في المدرسة، وبدأ التدريس بمباركةٍ ورعايةٍ من الرئيس.

في أحد الأيام دعاه تلميذه إسماعيل -أحد طلابه المتميزين- لزيارة أهله في قريته البعيدة؛ لم يستطع الأستاذ/ عاصم أن يرفض الدعوة ولكنه كان متخوفاً من شدة البرد. الأستاذ: "كيف سنذهب؟!"، إسماعيل: "على عربة الجليد يا أستاذي". كان الثلج والجليد يغمران كل مكان، والضباب يُغطي قمم الجبال، شعر الأستاذ بالخوف والقلق، فالبرد الشديد يكاد أن يُجمد يديه وقدميه، ولكنه عزم على التوكل على الله وتلبية دعوة تلميذه النجيب إسماعيل. الأستاذ: "كم يستغرق الطريق إلى القرية؟"، إسماعيل: "ساعتان"، قال الأستاذ: "ساعتان يا إسماعيل! أنت تقطع كل هذه المسافة يومياً ذهاباً وإياباً لتأتي إلى المدرسة يا إسماعيل؟!"، إسماعيل: "نعم؛ إنها رغبتي ورغبة أهلي يا أستاذي".

ذهب الأستاذ برفقة تلميذه، وعندما وصلوا للدار كان الأستاذ يتألم من خدرٍ في رجليه ويديه من شدة البرد، ولكنه تحامل على نفسه ولم يُظهر أي ألمٍ حتى لا يُحرج مضيفيه وتلميذه. استقبلهم أهل الدار بحفاوةٍ وترحيبٍ بالغين. جلست جدةٌ كبيرةٌ في السن قبالة الأستاذ/ عاصم. الجدة لعاصم: "من أين أنت يا بُني؟"، الأستاذ: "من بلاد الأناضول يا أماه". إسماعيل: "جدتي، إنه معلمي الأستاذ/ عاصم الذي حدثتك عنه". قرّبت العجوز المصباح لترى جيداً وجه هذا القادم من بعيد. تأملت الجدة وجهه، وفجأةً تجمدت في مكانها دون حراك، وارتجفت يداها. إسماعيل: "جدتي ما بك؟ هل أنت بخير؟". أمعنت الجدة النظر في وجه الأستاذ مرةً ثانيةً! امتلأت عيناها بالدموع! وتمتمت بتأثرٍ عميقٍ: "أنا أعرف هذا الوجه"، انتفض الأستاذ باستغراب! الجدة: "نعم أعرفه، إنه هو، إنه هو، إنه هو!". أرخى الصمت سدوله على أطراف البيت لحظات! ثم تحدثت العجوز بتأثرٍ تسترجع الذكريات؛ تُخبرهم بمعاناتهم أيام الحكم الشيوعي الخبيث؛ أول بدايةٍ للشيوعيين أنهم قاموا بقتلٍ وإبادةٍ جماعيةٍ لعددٍ كبيرٍ من المسلمين، ثم أخرجوا البقية -من النساء والشيوخ والأطفال ومَن ظَل على قيد الحياة- من قُراهم ووضعوهم في عربات القطار كالحيوانات، نساءً ورجالاً وأطفالاً، كان البرد قارساً، والثلج يتساقط بشدة. تقول الجدة وهي تذرف الدموع: "مات أهلي وأعمامي وجدتي، ومات الكثير من الأطفال، ومات كثيرٌ من الناس أثناء التهجير والنفي. عشنا في المنفى عيشةً صعبةً وحياةً قاسيةً، وعندما كبرتُ هربتُ من المنفى حتى وصلتُ بصعوبةٍ إلى قريتنا هذه فوجدتها خراباً، وصلتُ إلى بيتي وكنتُ مرهقةً جداً، وعندها استغرقتُ -من شدة الإرهاق والتعب- في النوم العميق، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أتاني في المنام. لا أعرف كيف أصف لكم جماله، لم أشبع من النظر إلى وجهه المضيء الكريم، مسح رأسي بيده الشريفة قائلاً: [لا تقلقي يا ابنتي، سينتهي هذا الظلم يوماً]، فقلتُ بألمٍ: "متى يا رسول الله؟ ولماذا لم يأتِ أشقاؤنا المسلمون لمساعدتنا حتى الآن؟"، قال: [إنهم في وضعٍ أسوأ منكم، ومن الصعب عليهم أن يأتوا، ولكن سوف يأتي أحفادهم يوماً ما]، وفجأةً ظهر شابٌ إلى جانبه -صلى الله عليه وسلم- طويل القامة جميل الوجه يُشع النور من جميع أطرافه، فأشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليه قائلاً: [هذا هو أول من يأتي لمساعدتكم، لكنه سيأتي من بلادٍ حارةٍ فلا يستطيع تحمل برد دياركم؛ فأسرعي بنسج جوربين وقفازين، وقدميها إليه هديةً عندما يأتي]. ثم قالت الجدة العجوز: "لم أنسَ ذلك الوجه أبداً منذ خمسين سنة. كيف أنسى هذا الوجه؟"، وأشارت إلى الأستاذ/ عاصم. لم يتمالك الأستاذ نفسه، وانهمرت دموعه بغزارة. هرولت العجوز إلى الغرفة المجاورة وأحضرت الجوربين والقفازين، وقالت للأستاذ: "هيا البسها الآن يا بُني، إنها هديتك، ستحميك إن شاء الله من البرد، مثلما قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم- هذه هديتك من رسول الله التي انتظرتك طويلاً، لقد انتظرت قدومك خمسين عاماً يا ولدي". أخذ الأستاذ/ عاصم هديته ولبسها وقد غمرته السعادة والبِشر، وازدادت سعادته ويقينه عندما رأى أنها على مقياس قدميه ويديه تماماً! امتلأ قلبه بالسعادة والإيمان والثقة واليقين بنجاح مهمته وتحقق هدفه؛ فما عاد يشعر بالبرد ولا بالتعب ولا بالغُربة، أحس بدفء الرسالة السامية وشرف وعظم الأمانة التي يؤديها، واستشعر الرضى النبوي الكريم والعناية والرعاية والمعية الإلهية.

 

أحبتي في الله .. سبحان الله؛ مرّت خمسون عاماً على (رؤية خير الخلق أجمعين) وكانت الجدة لا تزال تتذكر تفاصيل تلك الرؤية بحذافيرها كما لو كانت قد رأتها بالأمس! وسبحان الله على شدة يقين هذه السيدة التي استجابت لطلب سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي موقنةٌ تمام اليقين أن ما أخبرها به النبي سيتحقق.. لم تكن تعرف متى، لكن لم يساورها شكٌ ولا للحظةٍ في أن ما أُخبرت به سيقع لا محالة.. وإذا بها -بعد مرور كل ذلك الزمن- ترى الرؤيا -وقد تحققت- كفلق الصبح، مشرقةً بكل تفاصيلها!

 

يقول أهل العلم إن (رؤية خير الخلق أجمعين) صلى الله عليه وسلم في المنام جائزةٌ شرعاً وعقلاً، واقعةٌ فعلاً، وما مِن شكٍ أن رؤيته صلوات الله وسلامه عليه فرحةٌ لا تُضاهيها فرحةٌ، وأمنيةٌ غاليةٌ لا تُدانيها أمنيةٌ، فالمسلم المُحب للنبي صلى الله عليه وسلم مستعدٌ لأن يبذل أهله وماله مقابل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مِنْ أشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا، ناسٌ يَكونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أحَدُهُمْ لو رَآنِي بأَهْلِهِ ومالِهِ]. ولا شك أن (رؤية خير الخلق أجمعين) صلى الله عليه وسلم في المنام على صورته المعروفة في السُنة والسيرة النبوية دليل خيرٍ وبُشرى لصاحبها، ومع ذلك لا يجوز بناء الأحكام والمواقف والتصرفات عليها، فهي مُبشراتٌ تبعث الأمل، ويُفْرَح ويُتفاءل بها، ولا يُبنى حُكْم عليها.

 

وقد وردت أحاديث كثيرةٌ في باب (رؤية خير الخلق أجمعين) النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، منها:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن رَآنِي فقَدْ رَأَى الحَقَّ]. [فقَدْ رَأَى الحَقَّ] أي الرؤيا الصحيحة الثابتة لا أضغاث أحلام ولا خيالات. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن رَآنِي في المَنامِ فَسَيَرانِي في اليَقَظَةِ، ولا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطانُ بي]. وفي روايةٍ: [مَن رَآنِي في المَنامِ فَسَيَرانِي في اليَقَظَةِ، أوْ لَكَأنَّما رَآنِي في اليَقَظَةِ، لا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطانُ بي]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [من رآني في المنامِ ، فأنا الذي رآني ، فإنَّ الشيطانَ لا يتخيَّلُ بي]، وقوله صلى الله عليه وسلم [لا يتخيَّلُ بي] أي: لا يأتي بصورتي التي يعرفها الناس، لا يمنع أن يأتي الشيطان ويقذف في قلب الرائي أنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بصورةٍ تخالف الصورة الصحيحة التي يُعرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث لا يمنع حدوث مثل هذا، فبعض أصحاب البدع والأهواء يذكرون أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأشياء تخالف ما ورد في الكتاب والسُنة، ولا تفسير لذلك ـ إن صدقوا في دعواهم ـ إلا أن الذي رأوه هو الشيطان، وأنه لم يأتِ بالهيئة الصحيحة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من سيرته وشمائله.

 

وعلى المسلم قبل أن يدَّعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض ما رأى على أهل العلم والدين ـ الذين يُعرف عنهم الصلاح والتقوى ـ ليخبروه إنْ كان ما رأى حقاً أو من الشيطان، حتى لا يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا ادعى إنسانٌ أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نومه، وأنه أمره بأمرٍ، وهذا الأمر يُخالف الكتاب والسنة فإنه لا يُعمل به، وهو دليلٌ على أن من رآه ليس النبي صلى الله عليه وسلم. ومع كون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم من المُبشرات للمسلم الذي رآها إلا أنها ليست وحياً بالاتفاق، ولكنها بُشرى.

 

أما الأسباب التي تُساعد المسلم على (رؤية خير الخلق أجمعين) النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فهي متوقفةٌ ـ بعد فضل الله تعالى ـ على طاعة الله سبحانه، وحُب النبي صلى الله عليه وسلم، والشوق لرؤيته، واتباع سنته، وكلما كان الإنسان أتقى لله عزَّ وجلَّ، وأكثر اتباعاً لسُنة النبي الله صلى الله عليه وسلم كان توقع رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر احتمالاً من غيره، ولا يلزم من عدم الرؤية له عدم صلاح الشخص، ولا يلزم أيضاً من شدة التقوى والمتابعة رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأمر في النهاية توفيقٌ من الله تعالى، وفضلٌ من الله يؤتيه من يشاء.

 

أحبتي .. ليكثر كلٌ منا في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولنتبع سُنته الشريفة، ونحيي منها ما غفل عنه بعض المسلمين، وليكن حُبنا له - صلى الله عليه وسلم- أكبر من حُبنا لأنفسنا ولوالدينا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا، وأن نتحلى بالصدق والصلاح، حينئذٍ ندعو الله مخلصين أن يرزقنا (رؤية خير الخلق أجمعين) في المنام عسى أن يستجيب الله دعاءنا ونرى نبينا -عليه الصلاة والسلام- فنكون من الفائزين بشفاعته يوم الحساب، المبشَرين بصحبته في الفردوس الأعلى من الجنة.

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مع ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

 

https://bit.ly/3mvdYex