الجمعة، 17 مايو 2019

مدرسة الصوم


الجمعة 17 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٧
(مدرسة الصوم)

كتب يقول: حدثني شخصٌ أسلم عن قصة إسلامه، وأنها كانت بسبب رمضان، قال إنه تعجَّب من حال المسلمين، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّب في السماء خلال الشهر السابق لشهر الصوم، كأنهم ينتظرون إشارةً من خالق الكون من فوقهم ليقوموا بشيءٍ بعدها، فلما رأوْا هلال رمضان، فرحوا فرحاً عظيماً، كأنهم بُشـِّروا بأعظم البشرى، ولم أتوقّع أن يكون فرحهم بأنهم سيمتنعون عن الشهوات في النهار كلِّه طيلة شهرٍ كاملٍ! هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها، وتُخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلها. وزاد تعجبي حين وجدتهم يفرحون بأنهم سيقفون معظم ساعات الليل على أقدامهم يُصلُّون مناجاةً لربهم وطلباً للرحمة والمغفرة! فأخذ هذا منهم بلُبِّي، واستحوذ على قلبي، فصُمتُ معهم، وأنا لا أعرف الإسلام، ولم أنطق بالشهادتين، بل أكتفي بالامتناع عن الأكل والشرب وإتيان زوجتي إذا ذهب المسلمون لصلاة الصبح، وكنت أفطر إذا سمعت أذان المسجد لصلاة المغرب، وأذهب فأصلي معهم في الليل صلاة التروايح وأصنع مثل ما يصنعون، قياماً وركوعاً وسجوداً، غير أنني لا أتكلم بشيء، فأجد راحةً عجيبةً وسكينةً لم تعرفها روحي من قبل وأنا أستمع للقرآن، حتى إذا انتصف الشهر، لاحظ أحدهم أنني غريبٌ عن القوم، فسألني عن نفسي وأحوالي، فدُهش من قصتي اندهاشاً حمله على أن يجمع الناس ليسمعوا مني، فلما سمعوا قصتي علموني الإسلام، فنطقت بالشهادتين، فكبروا وقالوا أنت أسلمت على يد رمضان؛ فسموني رمضان!

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن حِكْمة الحقِّ تبارك وتعالى اقْتَضَتْ أن يُفَضِّلَ بعض الشهور على بعض، فَفَضَّلَ شهر رمضان على سائر الشُّهور، واخْتَصَّه بِمَزايا مُتَعدِّدة، حيث أنزل فيه القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، وجَعَل فيه ليلةَ القدر، وهي ﴿خيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر﴾، واخْتَصَّهُ بِفَريضةٍ عظيمةِ الشأن، وهي فريضةُ الصِّيام. ولو نَظَرْنا إلى الصِّيام، نَجِد أنَّه يختلف عَنْ سائرِ العِبَادات في خاصيةٍ هامَّةٍ، وهي خُلُوُّه منَ الرِّياء، فقد يدخل الرِّياء في الصَّلاة، أوِ الزكاة، أوِ الحج؛ لأنَّها عِباداتٌ تُؤَدَّى بأفعالٍ ظاهريَّة، يراها الناس، أمَّا الصَّوم فإنه لا يُؤَدَّى بِفِعْلٍ، ولكن بالكَفِّ عن فعلٍ، وهو الامتناعُ عَنْ تناوُل المفطرات، ومِن هنا فإنَّ الصَّائمَ لا يعلم حَقِيقة صَوْمه إلاَّ اللهُ سبحانه المُطَّلِع على سَرِيرَتِه وقَلْبه؛ لذا يقول الله تعالى في الحديث القُدسي الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ}.
ويقولون إنه من عجائب آيات الله في رمضان، أنه لو بذل فلاسفة البشرية ومفكروهم - كلهم مجتمعون - طلاع الأرض ذهباً على أن يجعلوا سُدس سكان الكرة الأرضية، يجتنبون الشهوات، ويتنزهون عن متاع الدنيا، ويتركون بطونهم خاويةً، ويلتفتون إلى أرواحهم ليطهروها من التعلق بعالم المادة، إلى السمو الأخلاقي الذي يصل إليه المسلم بالصيام، يوماً واحداً وليس شهراً كاملاً، لأعلنوا عجزهم عما نجح فيه هذا الدين العظيم.
حقاً؛ فرمضان (مدرسة الصوم)، يقولون أن العبد يتعلم فيها ويتدرب على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيءٍ، والتسليم لحكمه في كل شيءٍ، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيءٍ. فهو مدرسةٌ متميزةٌ للتربية العملية يتعلم منها الناس القيم وأرفع المعاني، فمن اغتنم الفرصة وصام كما أمر الله وشرع فقد نجح في الامتحان، ومن تكاسل وخالف فهو الخاسر ولا يضر الله شيئاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: [مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ]. رمضان مدرسةٌ للتقوى يعيش بها ضمير المسلم حياً تفرحه الطاعة وتؤذيه المعصية. رمضان مدرسةٌ يتعلم فيها العبد الصبر فلا جزع، ويتعلم التواضع فلا كبر، ويتعلم الكرم فلا شح، ويتعلم الإخلاص فلا رياء.

يقول الشاعر:
أتى رمضانُ مدرسةَ العبادْ
لتطهيرِ القلوبِ من الفسادْ
فأدِّ حقوقَه قولاً وفعلاً
وزادُك فاتخذه للميعادْ
فمن زرعَ الحبوبَ وما سَقاها
تأوهَ نادِماً يومَ الحصادْ
وقال آخر:
الصَومُ مدرسةُ التعفُّف والتُّقى
وَتَقارُبِ البُعَداءِ والأغرابِ
الصّومُ رابِطَةُ الإخاءِ قوِيّةً
وَحِبالُ وُدِّ الأهْلِ والأَصْحابِ
الصّومُ دَرسٌ في التّساوي حافِلٌ
بالجودِ والإيثارِ والتَّرحْابِ
شهرُ العَزيمةِ والتَصبُّرِ والإبا
وصفاءِ روحٍ واحتمالِ صعابِ
أما حال شهر رمضان (مدرسة الصوم) الآن فيصفه الشاعر في هذه الأبيات:
الصوم مدرسةٌ قلّت نظائرها
قد خرّجت سالف الأزمان فرسانا
مالي أرى اليوم طلاباً بها درسوا
شتان أخلاقهم واللهِ شتانا
الصوم صبرٌ ونحن اليوم نفقده
إذا غضبنا فعلنا الشر ألوانا
الصوم عطفٌ فأين اليوم رحمتنا
أين الشعور بجارٍ بات جوعانا


فاللهَ اللهَ فيما بقي لنا من أيام هذا الشهر الفضيل .. اللهَ اللهَ في أيامه ولياليه لا تدعوها تضيع منا فيما لا ينفع، فما لا ينفع يضر؛ نخسر في كل دقيقةٍ نفوتها بغير عبادةٍ أو نافلةٍ أو ذكرٍ لله أو عملِ خيرٍ وبر ما لا يمكن تعويضه في غير رمضان. انظروا كم كان الصالحون يحرصون على ألا يضيع منهم رمضان؛ هذا واحدٌ منهم قيل له: إنك شيخٌ كبيرٌ وإنَّ الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفرٍ طويلٍ، والصبرُ على طاعة الله أهونُ من الصبر على عذابه، ولما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش والظمأ، أفرد لهم باباً من أبواب الجنة وهو باب الريان، من دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً.
وهذا آخر كتب يقول: ‏عندما يأتي رمضان أكتشف أنني كنت أستطيع الصوم كل اثنين وخميس خلال السنة، وأن الصوم ليس بهذه الصعوبة التي كنت أتصورها! وأجد أنني أستطيع أن أقلع عن التدخين نهائياً لكني لم أحاول! ويتضح لي أن الختمة الشهرية للقرآن ليست صعبةً ولا هي من المعجزات كما كان الشيطان يوهمني بذلك! وأتعجب من نفسي حين أستيقظ للسحور في رمضان قبل الفجر، وأعجز عن القيام لصلاة الفجر في غير رمضان! ويتبين لي أن الفقير موجودٌ طوال العام بينما أنا لا أراه إلا في رمضان!

أحبتي .. إذا كان شق تمرةٍ يبعدنا عن النار، وصدقةٌ تطفئ غضب الرب، وكلمتان تثقلان ميزان أعمالنا، ووضوءٌ يزيل من جوارحنا الخطايا، وحسنةٌ تتضاعف لعشرة أضعاف .. إذاً لماذا نعتقد أن الجنة بعيدة المنال؟! ورمضان جاء فرصةً لنا ليقربنا إلى جنة ربنا ورضاه؛ فاستثمروا رمضان لجنةٍ عرضها السموات والأرض.
رمضان أحبتي (مدرسة الصوم) نتعلم فيها دروساً عظيمةً في الإخلاص والصبر والعزيمة فلا مجال للوهن والخمول والكسل؛ دعونا إذن نقول لأنفسنا حي على العبادة، حي على الإكثار من أعمال الخير والبر، ولنشمر سواعد الجد ونسرع ونبادر ونتسابق في أداء العبادات وفعل الخيرات في هذه الأيام الطيبة المباركة؛ فهي أيامٌ لا تُعوض وأوقاتٌ لو وُزنت بالذهب لرجحت كفتها.  
اللهم سامحنا على ما فرطنا فيما مضى وأعنا على ما بقي، واجعلنا ممن يصومون رمضان قياماً واحتساباً لوجهك الكريم، وارحمنا واغفر لنا واعتق رقابنا من النار.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2HKFsHV