الجمعة، 21 فبراير 2020

نعمة الابتلاء


الجمعة 21 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٧
(نعمة الابتلاء)

كتب أحد كبار الأطباء على صفحته بفيس بوك يقول: استحييتُ من ربي، وعرفتُ ضعف إيماني عندما حضرت بالأمس لعيادتي تلك الأسرة برفقة ابنتهم التي انتشر في جسدها الورم الخبيث وتغلغل، وسقط شعرها من العلاج الكيماوي، وتعاني من التهابٍ شديدٍ؛ حضرت لي لتُعالج منه، وأدركتُ أنَّ البلاء على قدر الإيمان، وأنَّ الصبر والرضا عليه يختص الله به عباداً أحبهم.
الأب متوسط الحال في أواخر الثلاثينات، والأم في أولها، وكلاهما لا تفارق لسانه عبارة "الحمد لله"، ولا تفارق شفتيه ابتسامة الرضا، رغم أنهما في ابتلاءٍ شديدٍ؛ فقد مات لهما من قبل ولدان بنفس الداء "السرطان"، وإذا به يصيب الابنة الوحيدة الباقية لهما؛ ابنة السنوات السبع، وها هي مشرفةٌ على الرحيل، يتبادلان معها الضحك، وكأنها مصابةٌ بنزلة بردٍ، ويهونون عليها. الطفلة كالقمر يوم اكتماله بالسماء، زَلْزَلَتْ كياني وأبكتني عندما قالت لي بفرح: "دكتور، بابا وماما اشتريا لي فستاناً جديداً؛ لأني عن قريبٍ سأزور أخوي سعيد ومصطفى في الجنة". ابتسم الأب وقال لي همساً: "هكذا تعودنا على رحلة العذاب؛ تشخيصٌ وعملياتٌ وعلاجٌ ثم نستعد كل مرةٍ لتسليم الأمانة لخالقها، عندما يقترب موعد الرحيل. تعاهدتُ أنا وأمها -منذ رحيل طفلنا الأول- أن نُلقي في قلوب أبنائنا أنهم ذاهبون إلى الجنة، فيها ما يعوضهم عن رحلة العذاب في الدنيا، وأنَّ من سبقه من إخوته ينتظره على بابها. وها نحن نُهَِّونُ عليها وعلى أنفسنا استقبال الموت الذي أصبح ضيفاً علينا تتكرر زيارته كلما تفتَّحتْ أوراق زرعنا". شَدَدْتُ على يديه، ويعلم الله لو استطعتُ تقبيلها لفعلت. قَبَّلْتُ الطفلة وقلبي يبكي. يعلم الله أنَّ بكاء قلبي هذه المرة كان على نفسي، وأنا أشعر أنَّ الله أرسل لي هذه الأسرة الصابرة، والبنت المبتلاة، لأستحي وأعرف ضعف نفسي وهوانها؛ فأنا عندما تشوكني شوكةٌ املأ الدنيا عويلاً وصياحاً!
يعلم الله، منذ رأيتُ هذه الأسرة، في الساعة الرابعة من عصر أمس، لم تفارق عينيّ صورتهم، ولم يغب عن أذنيّ صوت الملاك الصغير: "أنا ذاهبةٌ لأقابل إخوتي بالجنة".
ما أصغركِ يا نفسي، وعذراً لك يا ربي؛ أيقنتُ الدرس وتعلمتُه، وأدركتُ أنَّ الشكوى لغيرك مذلةٌ، وأنَّ الصبر على البلاء درجةٌ عاليةٌ تختص بها عباداً لم أرْتَقِ بَعْدُ لأكون واحداً منهم. حقّاً؛ لا يشعر المرء بتفاهة نفسه إلا عندما يرى الصابرين.

أحبتي في الله .. كان هذا ما كتبه الأستاذ الدكتور ذو القلب الرحيم، ونشره على صفحته على فيس بوك -نقلتُه بتصرفٍ يسير- فانهالت بعد ذلك تعليقات القراء، اخترت لكم منها ما يلي:
- يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ ذَكَرَ ربنا سبحانه وتعالى الصابرين بعد الخوف والجوع والفقر والموت، فهم الذين استرجعوا وتذكروا بأننا جميعاً لله، وأننا جميعاً إليه سنعود، ووصفهم بأنهم هم المهتدون، واختصهم بصلاةٍ منه ورحمة. كم أنت رحيمٌ يا رب العالمين، تُصلي على عبادك الصابرين.
- قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ]. "لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ" يعني: قبل بلوغ الحُلُم.
- وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ].
- ذكرني هذا الموقف بتصرف أم سُليم الصحابية مع زوجها أبي طلحة؛ وكيف نقلت له خبر موت ابنهما الصغير فقالت: "يا أبا طلحة، أرأيتَ أن قوماً أعاروا قوماً عاريةً لهم، فسألوهم إياها، أكان لهم أن يمنعوهم؟"، فقال: "لا"، قالت: "فإن الله عزَّ وجلَّ كان أعارك ابنك عاريةً، ثم قبضه إليه، فاحْتَسِبْ واصْبِرْ"، فاسترجَع، وحَمِدَ الله. "عارية": شيءٌ مستعار.
- اللهم بحق سماواتك وأراضيك، وما بينهما، وما فيهما، وبحق عبادك الصالحين المتقين، وبحق رحمتك وعفوك وغفرانك، وقدرتك على كل شيء، اشفها شفاءً لا يغادر سقماً يا رب العالمين.
-شفاها الله، وجزى الله والديها خيراً على صبرهما، وعلى ما علماه إيانا من عظةٍ، ونسأل الله الثبات.
- اللهم الطف بها، وبأهلها، وجازهم على صبرهم وقوة إيمانهم خيراً.
- هؤلاء تجاوزوا مرحلة الصبر، هؤلاء في مقام الرضا، ولهم من الله جزاءٌ عظيمٌ.
- أنزل ربنا سبحانه وتعالى على الوالدين السكينة، وجعل صبرهما في ميزان حسناتهما.
- اللهم اربط على قلوبهما، وثبتهما، وأجرهما أجر الصابرين، واجعل أبناءهم أفراطاً لهما على الحوض، نسأل الله لهما العفو والعافية. "الفَرَط": الطفل الصغير.
- إنها حقاً أسرةٌ عظيمةٌ تستحق الثناء، ربط الله على قلوبهم.
- حقاً إنه الصبر جزاؤه الجنة؛ فهذا المرض اللعين لا يستطيع الصبر عليه إلا من اختصه الله سبحانه وتعالى برحمة.
- لله حكمةٌ في ابتلاء عباده، والابتلاء ليس فقط للمريض، بل لكل مَن حوله، ولكل من علم بمرضه، الابتلاء واعظٌ لمن له عقلٌ وقلبٌ وروحٌ تسعى لرضا الله.
- عجز اللسان عن التعبير، وعجزت اليد عن كتابة أية مواساةٍ أو تعزية لكبر الابتلاء وعِظَم الصبر.
- الصواعق لا تضرب سوى قمم الجبال الشامخة، وأما المنحدرات فلا تذهب إليها إلا المياه الراكدة، والمرء يُبتلى على قدر شموخه ورفعته.
- عند المصاعب والمصائب تظهر المعادن الأصيلة، ويظهر أصحابها الناظرون إلى ربهم مستبشرين؛ فما أعظمهم.
- أبكيتنا يا دكتور، وأدميتَ قلوبنا، وأحسستنا كم نحن ضعافٌ، وكم نحن في نعمة.
- قصتك هذه جعلتنا نفيق من أحزاننا ونستهين بها؛ كنا نحتسب أنفسنا من الصابرين، إلى أن عرفنا ما هو الصبر الحق، قواهم الله وصبَّر قلوبهم.

وعن (نعمة الابتلاء) يقول العلماء إن وقوع البلاء من السنن الكونية على المخلوقين اختباراً لهم، وتمحيصاً لذنوبهم، وتمييزاً بين الصادق والكاذب منهم يقول الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.
والابتلاء نعمةٌ للمؤمن؛ قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بعبْدِهِ خَيْرًا عجَّلَ لَهُ الْعُقُوبةَ في الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللَّه بِعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنْهُ بذَنْبِهِ حتَّى يُوافِيَ بهِ يَومَ الْقِيامةِ]، وقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ خَيْرًا ابْتَلَاهُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ].
وأكملُ الناس إيماناً أشدهم ابتلاءً؛ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: [الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ].
يقول أهل العلم إن (نعمة الابتلاء) تظهر جليةً في فوائده ومنها: تكفير الذنوب ومحو السيئات، رفع الدرجة والمنزلة في الآخرة، فتح باب التوبة والذل والانكسار بين يدي الله، تقوية صلة العبد بربه، تذكر أهل الشقاء والمحرومين والإحساس بألآمهم، تعزيز الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتَذَكُر المآل وإبصار الدنيا على حقيقتها.
والمؤمن كل أمره خيرٌ، فهو في نعمةٍ وعافيةٍ في جميع أحواله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ].
وللصبر على البلاء ثوابٌ عظيمٌ يغبطهم عليه يوم القيامة مَن لم يُبتلى؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ].
واقتضت حكمة الله اختصاص المؤمن غالباً بنزول البلاء تعجيلاً لعقوبته في الدنيا أو رفعاً لمنزلته، أما الكافر والمنافق فيعافَى ويُصرَف عنه البلاء وتُؤخَر عقوبته في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتَّى تَسْتَحْصِدَ]. "تَسْتَحْصِدَ": أي يقع عليها الحصد يوم القيامة. ومعنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفرٌ لسيئاته، ورافعٌ لدرجاته، وأما الكافر فقليلها، وإن وقع به شيءٌ لم يُكفِر شيئاً من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملةً.

أحبتي .. الابتلاء واقعٌ بنا جميعاً لا محالة، نسأل الله أن يخفف وقعه علينا، وألا يحرمنا (نعمة الابتلاء) وثواب الصبر عليه والتسليم بقضاء الله وقدره، وأن يُلهمنا الثبات، ويجعلنا وقت البلاء من الصابرين، وعند الابتلاء من الشاكرين.
اللهم اجعلنا من المؤمنين الخاشعين القانتين الراضين بقضائك وقدرك الحامدين لك على آلائك ونعمك.

http://bit.ly/32dcyK2