الجمعة، 25 يونيو 2021

الصديق الصدوق

 

خاطرة الجمعة /297


الجمعة 25 يونيو 2021م

(الصديق الصدوق)

 

رجل أعمالٍ في «تبوك» بالمملكة العربية السعودية، زاره صديقٌ له من «الرياض» وعند الانتهاء من ضيافته قال له: "دعنا نخرج وقت العصر في جولة لترى ماذا أملك وتشاهد أملاكي". بعد انتهاء الجولة قال رجل الأعمال لصديقه: "ما رأيك فيما شاهدت"؟ قال صديقه: "ما شاهدتُ شيئاً"!! انصدم رجل الأعمال من إجابة صديقه فقال: "كيف ما شاهدتَ شيئاً"؟!! قال له صديقه: "كل ما شاهدتُه هو أملاك الورثة بعد موتك، لم أرَ فيما شاهدتُ شيئاً تفتخر أنت به، كل ما شاهدتُ لن ينفعك ولن يفيدك"!! قال: "كل هذا"؟ قال: "نعم؛ ما شاهدتُ لك مسجداً أو وقفاً خيرياً"، انصدم الرجل من كلام صديقه. وبمجرد تودیعه، شرع في بناء مسجدٍ يتسع لألفي مصلٍ بكل مرافقه؛ من سكن إمامٍ ومؤذنٍ ومغسلة أموات، وبعدها بشهرين تُوفي إلى رحمة الله.

سبحان الله العظيم، توفيق الله، ثم نصيحةٌ مخلصةٌ من صديقه كانت سبباً في قيامة ببناء هذا المسجد، ليكون صدقةً جاريةً له بعد موته، ورصيداً له ينفعه بالآخرة.

 

أحبتي في الله .. (الصديق الصدوق) هو الصديق الحقيقي المخلص الذي يقال عنه "صديقُك من صدَقَك لا من صدَّقك"؛ فمخطئٌ من يظن أن الصديق الحقيقي هو الذي يوافقك دائماً ويُثني عليك في كل الأحوال، بل الصديق الحقيقي هو الشخص الصادق معك، الذي يشد من أزرك ويقف معك وقت الشدائد، لكنه في ذات الوقت يُقوّمك عندما تخطئ، ويُقدم لك النصائح بإخلاصٍ، ويُنبهك إلى مواقع الزلل التي قد تقع فيها، هو الصديق الذي يُضحي بأعز ما يملك من أجلك، لا ذلك الذي يوافقك في ضلالك، خوفاً من انفعالك. (الصديق الصدوق) مَن يُخلص لك النصيحة، دون مجاملةٍ أو تملق.

 

وهذه قصةٌ عن الصديق الحقيقي (الصديق الصدوق) المخلص لصديقه حياً كان أو ميتاً، كتب يقول: كنتُ شريكاً في التجارة مع صديقي سعود في مدينتنا «بريدة» وذات يومٍ ذهبتُ لصلاة الجمعة في الجامع الكبير كعادتي، فسمعت الإمام يقول: "الصلاة على الجنازة"، تساءل المصلون: مَن المتوفى؟! فإذا هي الصدمة؛ إنه صديق عمري سعود، تُوفي بسكتةٍ قلبيةٍ في الليل ولم أعلم بالخبر، فقد كان هذا الحادث عام ١٤١٥هـ قبل ظهور الجوالات ووسائل الاتصال السريع. صُدمت بشدةٍ، وصلينا الجنازة على حبيبي وصديق عمري رحمه الله. بعد شهورٍ من الحادث بدأتُ أصفي حساباتي المادية مع أبناء سعود وورثته، وكنتُ أعلم أن سعود رحمه الله عليه دَيْنٌ بمبلغ ٣٠٠ ألف ريالٍ لأحد التجار، فطلب مني التاجر أن أذهب معه للشهادة بخصوص هذا الدَيْن عند أبناء سعود، وحيث إن الدَيْن لم يكن مثبتاً بشكلٍ واضحٍ لأنه تم عبر عدة صفقاتٍ لم يتضح لأبناء سعود هل والدهم سدد ثمن الصفقات أم لا؟ ورفض أبناء سعود التسديد ما لم يكن هناك أوراقٌ ثابتةٌ تُبين أن والدهم لم يسدد المبلغ، ولأن العلاقة بيننا نحن التجار تحكمها الثقة لم يوثق ذلك التاجر مراحل التسديد بوضوحٍ ولم تُقبل شهادتي، وصارحني ابن سعود قائلاً: "لم يترك لنا والدي سوى ٦٠٠ ألف ريالٍ فهل نسدد الدَيْن الذي لم يهتم صاحبه بإثباته ونبقى بلا مال؟!! دارت بي الدنيا وتخيلتُ صديقي سعود معلقاً في قبره مرهوناً بدَيْنه!! كيف أتركك وأتخلى عنك يا صديق الطفولة ويا شريك التجارة!! بعد يومين لم أنم فيهما، وكنتُ كلما أغمضتُ عينيّ بدت لي ابتسامة سعود الطيبة وكأنه ينتظر مني مساعدة. عرضتُ محلي التجاري بما فيه من بضائع للبيع وجمعتُ كل ما أملك وكان المبلغ ٤٥٠ ألف ريالٍ فسددتُ دَيْن سعود، لكني فوجئتُ بعد أسبوعين إذ جاءني التاجر الدائن لسعود وأعاد لي مبلغ ١٠٠ ألف ريالٍ وقال إنه تنازل عنها عندما عرف أني بعتُ بضاعتي ومحلي من أجل تسديد دَيْن صديقي المتوفى. ذكر التاجر الدائن قصتي لمجموعةٍ من تجار «بريدة» فاتصل بي أحدهم وأعطاني محلين كان قد حولهما لمخزن، وذلك لأعود لتجارتي من جديدٍ، وأقسم عليّ ألا أدفع ريالاً واحداً، وما إن استلمتُ المحلين ونظفتهما مع بعض العمال إلا وسيارةٌ كبيرةٌ محملةٌ بالبضائع نزل منها شابٌ صغيرٌ وقال لي: "هذه البضائع من والدي التاجر فلان يقول لك عندما تبيعها تسدد لنا نصف قيمتها فقط والنصف الباقي هديةٌ لك، وكلما احتجت بضاعةً تكون لك منا على التصريف"! أشخاصٌ لا أعرفهم بدأوا بمساعدتي من كل مكان، وانتعشت تجارتي أضعاف ما كانت قبل تلك الحادثة؛ فنحن الآن في رمضان ١٤٣٦هـ والحمد لله لقد أخرجتُ زكاة مالي ثلاثة ملايين ريال!!!

أولاد سعود؛ فلذات كبده، لم يكترثوا بسداد دَيْن والدهم طمعاً في الميراث، و(الصديق الصدوق) الذي كان بمثابة الأخ المخلص ضحى بباب رزقه حتى لا يُحبس صديقه في قبره ويُعذب بسبب دَيْنه! هذه هي الصداقة الحقيقية والصحبة الطيبة والأخوة المخلصة.

 

يقول العلماء إن أصل مفهوم الصداقة من الصدق، وهو ذلك الخلق العظيم الذي حثت عليه الشريعة الإسلامية، ودعت المسلمين إلى الالتزام به، كما أن مفهوم الصداقة يأتي من قيم الوفاء والإخلاص. وقد وردت كلمة الصداقة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بمصطلحات مختلفة منها: الخلّة يقول تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾، ويبين سبحانه العداوة بين الأخلاء والأصدقاء غير المتقين يوم القيامة حين يتلفت أهل النار يميناً ويساراً، يتطلّعون إلى من كانوا يصادقونهم من أمثالهم ليشفعوا لهم فلا يرون أحداً، فيتساءلون: أين هو الصديق الحميم؟ ويقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ . وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ فيحسون بالندم والحسرة من صداقتهم لمثل هؤلاء؛ يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾، والظالم هو الذي ظلم نفسه بالكفر أو بالضلال والمعصية، يقول الواحد منهم -من حسرته- يا ليتني عشتُ على منهج الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويجعله الندم ينادي بالويل والثبور؛ فيقول: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ أي ليتني لم أتخذ فلاناً صديقاً، وتسأله: ماذا فعل بك صديقك فلان؟ فيجيبك: ﴿لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾، فلقد جاءني ذِكر الله على لسان رسوله، عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الصديق الضال وقف حاجزاً بيني وبين ذِكر الله، إلى أن واجهتُ مصيري المحتوم. مثله في ذلك مثل قرين السوء الذي وصفه لنا صاحب الجنة وحمد الله أنه لم يُطعه وإلا كان مصيره نار جهنم والعياذ بالله؛ يقول تعالى على لسان صاحب الجنة: ﴿إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ . يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ . أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ . قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ . فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ . قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴾. أما من أطاع قرين السوء فيقول في الآخرة وقت لا ينفع الندم: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ وقتها يتنصل منه قرينه ويتخلى عنه ويقول: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾.

 

وقد ورد مفهوم الصداقة بمعنى الصحبة والجليس الصالح في الأحاديث النبوية؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا تُصاحِبْ إلاّ مُؤمِناً، ولاّ يأكُلْ طَعامَكَ إلاّ تَقِيّ]؛ فالصداقة في الإسلام ترتبط بالعقيدة والخلق القويم، ولا خير في الصديق والصاحب العاصي؛ لأنه يضر المسلم ولا ينفعه، وتكون صحبته فتنةً له في دينه ودنياه، لذلك حذر النبي الكريم من جليس السوء، وحث على ملازمة الجليس الصالح، قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّما مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ والجَليسِ السُّوءِ، كَحاملِ المِسْكِ ونافخِ الكيرِ. فَحامِلُ المِسْكِ إمَّا أن يُحْذِيَكَ وإمَّا أن تَبْتاعَ مِنْهُ وإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكيرِ إمَّا أنْ يَحْرِقَ ثِيابَكَ وإمَّا أنْ تَجِدَ ريحًا خَبِيثَةً]، فالصديق الصالح في الإسلام نعمةٌ من الله على عباده، ذلك أنه يحث صاحبه على الخير، والالتزام بمنهج الله وشريعته، ولذلك تَوَّجب على المسلم أن ينظر ويتحرى عن الصديق الصالح الذي ينفعه في الدنيا والآخرة. والصديق مرآة صديقه؛ فإذا كان الرجل ملتزماً بشريعة ربه، وسنة نبيه، حريصاً على التحلي بالأخلاق الحسنة في تعامله مع الناس، وجدت صديقه يشابهه في تلك الصفات والأحوال.

ويبين لنا كتاب الله صفات ومواصفات مجتمع الأصدقاء الذين ينبغي أن نصادقهم ونعيش معهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، يقول العلماء: أي صادِق الذين يخلصون لله ويعبدونه ويبتهلون إليه؛ لأنّ هؤلاء هم الذين يزيدون إيمانك، وهم الذين يحفظون لك ودّك ويفون لك الوعد والعهد. وفي هذه الآية الكريمة أمر ٌبصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم، فعليك بالمواظب على الطاعات، الذاكر لله كثيراً، المجتنب المعاصي والسيئات، فمن عظَّم حقوق الله في قلبه وأداها بجوارحه، حريٌ به أن يحفظ حقوق إخوانه وأصدقائه. علينا أن نختار الصاحب الناصح الأمين سيما في مواطن الفتن، نختاره من ذوي الرأي السديد والعقل الراجح القويم، ليعيننا على العصمة من فتنة الدِين ودوام تذكر الآخرة. كذلك نختار من لا يخالطنا لغرضٍ دنيويٍ أو مصلحةٍ ماديةٍ ومنفعةٍ وقتيةٍ، إنما يريد بصداقته لنا وجه الله والنصح والأخوة الصادقة.

إن الصاحب ساحبٌ، ومَن صَحِبَ قوماً عُرِفَ بهم، وقد يترتب على هذا الاختيار خيري الدنيا والآخرة، أو تعاسة الدنيا والآخرة؛ فلا بد من حُسن اختيار الأصدقاء.

 

قال الشاعر:

كم من أخٍ لكَ لم يلدْه أبوكا

وأخٌ أبوه أبوكَ قد يجفوكا

صافِ الكِرام إذا أردتَ إخاءَهم

واعلمْ بأنَّ أخا الحِفَاظِ أخوكا

كَمْ إخوةٍ لكَ لم يلدْك أبوهُم

وكأنَما آباؤهُم وَلَدوكا

 

أحبتي .. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُر أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِل]، فإذا أردنا أن نصادق فعلينا أن ندرس دين من نصادقه حتى نتأكد مِن أنّ مَن نصادقه لن يُضلّنا عن ديننا، إنما يقوّي لنا إيماننا. وهكذا يكون توجيهنا لأبنائنا في اختيار أصدقائهم. وعلينا أن نحافظ على (الصديق الصدوق) المخلص الوفي مهما كان صريحاً أو قاسياً أو مخالفاً لهوانا، فهو المرآة الحقيقية التي نرى فيها أنفسنا.

اللهم ارزقنا صحبةً صالحةً تُعيننا على طريق الاستقامة والهداية، ينصحوننا أحياءً ويصبرون علينا، ويدعون لنا بعد الممات بكل صدقٍ وإخلاص.

ونصيحةٌ من القلب: ﻻ تُفرِّط في صديقك الصالح، (الصديق الصدوق) المخلص الوفي فهو شيءٌ نادرٌ وجميلٌ، تمسك به فإنه لا يُعوَض.

 

https://bit.ly/3x06xyU