الجمعة، 22 ديسمبر 2023

الصبر على المكاره

 

خاطرة الجمعة /426

الجمعة 22 ديسمبر 2023م

(الصبر على المكاره)

 

اتصلت امرأة بإحدى القنوات الفضائية؛ لتستفتي في أمرٍ ما، قالت لضيف الحلقة: "يا شيخ أنا امرأة جزائريةٌ مسلمةٌ مؤمنةٌ مطيعةٌ لله، ولكن زوجي رجلٌ يشرب الكحول، ويأتي إلى المنزل آخر الليل، وفي إحدى الليالي دخل عليّ المنزل ووجدني أقرأ القرآن فبطشه من يدي ومزقه ورماه في الحمام. ما حكمك يا شيخ؛ هل يصلح العيش معه أم أطلب الطلاق؟"، قال: "هل لكِ ولدٌ منه؟"، قالت: "نعم لدي خمسة أولاد"، قال: "هل لديكِ أسرةٌ؟"، قالت: "نعم لديّ، ولكنهم في قريةٍ بعيدةٍ جداً وأنا في العاصمة"، قال: "هل لكِ من يعولك الآن؟"، قالت: "لا أحد؛ فأبنائي مازالوا صغاراً"، قال: "إذاً اثبتي مكانكِ، ولا تطلبي الطلاق، ولا تتشاجري أو تدخلي مع زوجكِ في أي صراعٍ واصبري"، قالت: "كيف يا شيخ تطلب مني أن أصبر؟"، قال: "أرأيتِ يا ابنتي إن تركتِ زوجكِ ورحلتِ بدلاً من واحدٍ فقط هو الذي يسكر ويمزق القرآن سيكونون ستةً؛ لأنه سيأخذ أولاده ويُربيهم على طباعه؛ فيشربون الخمور، ويمزقون القرآن. لا حل في الفرار وترك المنزل، اصبري واعلمي أن دورك هو أن تهتمي بأبنائك، وأريد منكِ قيام الليل والدعاء لزوجك بالهداية". قالت: "أفعل إن شاء الله".

ودارت الأيام والشهور، وإذ بنفس الشيخ تتم استضافته بإحدى القنوات الفضائية، وكانت المفاجأة من بين المتصلين هي تلك المرأة الجزائرية تقول: "السلام عليكم يا شيخ"، قال: "وعليكم السلام مرحباً تفضلي"، قالت: "ما عرفتني يا شيخ؟"، قال: "لا والله، عرفيني بنفسك"، قالت: "أنا المرأة الجزائرية؛ اتصلتُ بكَ قبل عامٍ بشأن زوجي الذي يشرب الكحول"، قال: "أجل والله عرفتكِ، بشريني يا ابنتي ما حالكِ؟"، قالت: "والله يا شيخ إن زوجي الآن هو من يفتح باب الجامع في صلاة الفجر ويؤذن للناس، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن، ويصلي كل الفروض والنوافل؛ لقد هداه الله حق هدايةٍ يا شيخ، بارك الله فيك". قالتها وهي تبكي بكاء الفرحة.

قال ناشر هذه القصة: "لأن هذه المرأة المؤمنة تقربت إلى الله، وعلم الله بنقاء وطهر وصدق قلبها، فاستجاب لها. جاهدت النفس وصبرت ونالت ثواب وأجر الصبر.

 

أحبتي في الله.. إن (الصبر على المكاره) له ثوابٌ عظيمٌ.

قال أهل العلم إن اللهَ شاء أن تكون حياة البشر على ظهر هذه الأرض مزيجاً من السعادة والشقاء، والفرح والترح، واللذائذ والآلام؛ فيُستبعد أن ترى فيها لذةً غيرَ مشوبةٍ بألمٍ، أو صحةً لا يكدرها سقمٌ، أو سروراً لا ينغصه حزنٌ، أو راحةً لا يخالطها تعبٌ، أو اجتماعاً لا يعقبه فراق. والصبر على الشدائد والمصائب خير ما تواجَه به تقلباتُ الحياة ومصائبُ الدنيا. وحقيقةُ الصبر حبسُ النفس عن الجزع، أي حبسُها وقهرها على مكروهٍ تتحمله أو لذيذٍ تفارقه؛ فمع الصبر يمتنع العبد من فعل ما لا يَحسُن وما لا يليق، ومع الصبر يكون حبسُ اللسان عن التشكي، وحبسُ الجوارح عن لطم الخدود ونحوِها.

 

وقد ذُكر الصبرُ في القرآن الكريم في نحو سبعين موضعاً، وما ذاك إلا لضرورته وحاجة العبد إليه؛ ومن ذلك

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾. وبيّن عزَّ وجلَّ أن ما قد نرى أنه شرٌ لنا هو في حقيقته خيرٌ لنا؛ يقول تبارك وتعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. ويُبشر الله الصابرين بعاقبة الصبر؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ويقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكارِهِ وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ].

 

وقال العلماء إن الذي يبتلينا هو الله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لا يرسل إلينا البلاء ليهلكنا به ولا ليعذبنا به، وإنما افتقدنا به ليمتحن صبرنا ورضانا عنه وإيماننا وليسمع تضرعنا وابتهالنا وليرانا واقفين ببابه لائذين بجنابه مكسوري القلب بين يديه رافعين قصص الشكوى إليه. إن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل المؤمن من مرارةٍ منقطعةٍ إلى حلاوةٍ دائمةٍ خيرٌ له من عكس ذلك.

 

قال الشاعر:

فما شدةٌ يوماً وإن جَلَّ خَطبها

بنازلةٍ إلا سيتبعها يسرُ

وإن عسرت يوماً على المرءِ حاجةٌ

وضاقت عليه كان مفتاحها الصبرُ

 

وقال آخر:

اصبر لكل مصيبةٍ وتجلَّد

واعلمْ بأنَّ المرءَ غيرُ مُخلَّدِ

أوما ترى أنَّ المصائبَ جمَّةٌ

وترى المنيةَ للعبادِ بمرصدِ

من لم يُصَب مِمَن ترى بمصيبةٍ

هذا سبيلٌ لستَ فيه بأوحدِ

فإذا ذكرتَ محمداً ومُصابَه

فاذكر مصابَك بالنبي محمدِ

 

ويرى العارفون أن من الوسائل المعينة على (الصبر على البلاء) أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه. وأن يعلم أن البلاء بمثابة الدواء وأن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. وأن يعلم أن الصبر عند الصدمة الأولى ويتجنب الجزع فهو لا ينفعه، بل يزيد من مصابه. وأن يتسلى المصاب بمن هم أشد منه مصيبة. وأن يعلم أن ابتلاء الله له هو امتحانٌ لصبره. وأن يعلم أن مرارة الدنيا هي حلاوة الآخرة. وأن ينظر إلى نعم الله تعالى عليه، ولا ينشغل بالمفقود، فإنه إن تأمل وجد أنه محاطٌ بنعم الله من كل جانب.

 

أحبتي.. (الصبر على المكاره) ابتلاءٌ وامتحانٌ واختبار، ولا يوجد من بيننا -ولا من بين جميع خلق الله- من يعيش بغير هذا الابتلاء؛ فلنصبر، احتساباً للأجر الكبير والثواب العظيم الذي وعد الله الصابرين به.

اللهم أعنّا على الصبر، ليكون صبرنا صبراً جميلاً؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾ صبراً لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله منه؛ كما قال نبي الله يعقوب عليه السلام: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.

https://bit.ly/489f70P