الجمعة، 23 ديسمبر 2022

الصلاة خيرٌ من النوم

 

خاطرة الجمعة /375


الجمعة 23 ديسمبر 2022م

(الصلاة خيرٌ من النوم)

 

ما ندمتُ في حياتي كلها قدر ندمي على أمرين: عدم حفظي للقرآن الكريم كاملاً في صغري، وعدم التزامي بأداء الصلوات الخمس المفروضة بالمسجد مع جماعة المُسلمين وخاصةً صلاة الفجر. ولأن صلاة الفجر بالذات في المسجد لها حلاوةٌ خاصةٌ وطعمٌ مُميزٌ عن غيرها من الصلوات؛ رأيتُ أن أُخصص هذه الخاطرة للحديث عنها.

أبدأ بهذه القصة العجيبة:

جلس الداعية أمام الشيخ يحكي له تجربته الدعوية، ومن حوله مجموعةٌ من جُنود الكتيبة الصينية المُشاركة في حرب الخليج عام 1991م. أطرق الشيخ برأسه إلى الأرض ليُصغي باهتمامٍ والداعية يُحدثه قائلاً: "لقد قَدِم هؤلاء للمشاركة في عمليات المساندة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، كانوا مُتواجدين في شمال المملكة العربية السعودية، وكان لزاماً علينا -نحن الدُعاة إلى الله- أن ندعوهم إلى الإسلام، ونُخرجهم من ظُلمات الشرك والظلام، ومن عبادة بوذا وكونفوشيوس وغيرهما من الأصنام إلى عبادة الله الواحد الأحد لا شريك له، وقد وفقنا الله سُبحانه وتعالى في مُهمتنا؛ فأسلم عددٌ لا بأس به من هؤلاء، وصرنا نُعلمهم أركان الإسلام ونُدرِّسهم واجباته، وبدأوا في أداء الصلوات في أوقاتها بعيداً عن قادتهم وكُبرائهم. لكن المشكلة واجهتهم في صلاة الفجر؛ فعندما علم قادتهم بتجمعهم في خيمةٍ واحدةٍ ليتناوبوا السهر كي لا تفوتهم صلاة الفجر فرقوهم بين الخيام، فأخذ كلٌ منهم ساعته المُنبهة معه، لكنها صودرت منه، وكلما وجدوا طريقةً للاستيقاظ قُبيل الفجر لأداء الصلاة في وقتها حاربهم هؤلاء القادة وسدوا عليهم المنافذ والأبواب، وفجأةً توصلوا لطريقةٍ مُبتكرةٍ للاستيقاظ!"

وإذا بالشيخ ينظر باهتمامٍ أكبر إلى الداعية المُتحدث، وإلى الجُنود المُحيطين به الذين ينظرون إليه بإكبارٍ وإجلالٍ، وواصل الداعية كلامه قائلاً: "لقد قرر كل واحدٍ من هؤلاء شُرب كمياتٍ كبيرةٍ من الماء قُبيل النوم لكي يستيقظ للذهاب للخلاء ومن ثَمّ ينظر إلى ساعته ويعلم كم بقي من الزمن لصلاة الفجر، فإن قارب الوقت انتظر وصلى وإلا شرب كميةً أخرى من الماء. ومع تكرار التجربة مِراراً قدَّرَ هؤلاء الكميات المُناسبة التي تجعلهم يستيقظون في وقتٍ يكاد يقترب من وقت الفجر، وصار كلٌ منهم يؤدي صلاة الفجر في وقتها!". عندها نظر الداعية إلى وجه الشيخ فإذا عيناه تذرفان بالدمع.

 

أحبتي في الله.. هؤلاء جنودٌ صينيون حديثو عهدٍ بالإسلام، بلغ حبه في قلوبهم هذه الدرجة؛ لأنهم عرفوا ما كانوا عليه من جاهليةٍ وفسادٍ، ثم عندما شرح الله قلوبهم للإسلام ذاقوا طعم السعادة وحلاوة الإيمان وطُمأنينة القلب فتمسكوا به، فأين نحن من هؤلاء؟! إنهم يذكرونني بأهل الكهف الذين وصفهم الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.

 

يقول أهل العلم إن الله تعالى اختص صلاة الفجر بمكانةٍ عظيمةٍ من بين الصلوات، فجعل لها زيادةَ أجرٍ، وكبيرَ فضلٍ، وعظيمَ مثوبةٍ فاقت فيها بقية الصلوات؛ ذلك لمشقتها على النفوس؛ فهي تأتي في ظُلمة الليل، وفي وقت الراحة والنوم، فكان هجر الفراش، خصوصاً في ليالي برد الشتاء القارس، وترك النوم، خصوصاً مع التعب، والاستجابة لداعي الفلاح (الصلاة خيرٌ من النوم) ما يجعلها سببَ التمايز بين العباد، والامتحان الصعب الذي يُختبر به الإيمان، مَن نجح في هذا الامتحان حاز على الجوائز العظيمة في الدنيا والآخرة، والتي منها:

- النور التام يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ].

- حِفظ الله له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ] يعني في حفظه وحمايته وعهده.

- شهادة الملائكة له عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وهو أعْلَمُ بهِمْ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ].

- شهود قرآن الفجر المشهود؛ يقول تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، أي أن ما يُقرأ به من قرآنٍ في صلاة الفجر تشهده الملائكة.

- سبيلٌ لدخول الجنة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ]، والبردان الصبح والعصر. وقال: [لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا]. والمُراد بهذا صلاة الفجر وصلاة العصر.

- من أسباب النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا علَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَسَبِّحْ بحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ الغُرُوبِ﴾].

- حصول الثواب الكبير؛ ففي الحديث: [رَكْعتا الفجْرِ خيْرٌ مِنَ الدُّنيا ومَا فِيها]، قال بعض العلماء: هما سُنّة الفجر؛ فإذا كان هذا أجر السُنّة فكيف بأجر الفريضة وهي أحب إلى الله؟ كما في الحديث القدسي: {وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه}.

- أجر قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ].

- براءةٌ من النفاق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا].

- أداء صلاة الفجر في وقتها يزيد النشاط ويُريح النفس، ويُبعد عن الإنسان الضيق والاكتئاب والكسل؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ].

 

ويقول العارفون:

- أهل الفجر فئةٌ موفقةٌ، وجوههم مُسفرةٌ، وجباههم مُشرقةٌ، ونُفوسهم طيبةٌ، وأعمالهم زاكيةٌ، وأوقاتهم مُباركةٌ.

- ما أجمل الفجر؛ فريضته تجعلك في ذمة الله، وسُنته خيرٌ من الدنيا وما فيها، وقرآنه مشهود.

- صلاة الفجر هي أول امتحانٍ يخوضه كلٌ منا صباح كل يومٍ، لينجح فيه من وثب من فراشه صافاً قدميه بين المُصلين.

- إذا دخلتَ لصلاة الفجر ورأيتَ قلة المُصلين فاعلم أن الله اصطفاك من بين عباده؛ فهنيئاً لك.

- هنيئاً لمن حافظ علي صلاة الفجر، لم توقظه مدرسةٌ أو جامعةٌ أو عملٌ، إنما هو حب ملك الملوك أنار قلبه فحرّك جوارحه.

- هنيئاً لمن لبّى نداء ربه واستجاب لحي على الصلاة، حي على الفلاح، و(الصلاة خيرٌ من النوم).

- لا تسألوا من لا يُصلي الفجر عن معنى السعادة؛ فلا يستوي من قام للمولى ومن عشق الوسادة.

- الفَجر والفَرَج توأمان؛ فالفجر: انتقالٌ من ظلامٍ إلى نور، والفرج: انتقالٌ من ضيقٍ إلى سعة.

- عندما تُعطي صلاة الفجر المكانة الأولى في بداية يومك ثق تماماً أن كل الأمور الباقية تأخذ أماكنها الصحيحة تلقائياً.

- صلاة الفجر سِرُ بَركةِ يومك، ومفتَاحُ سَعادتك، وحَياةٌ لِرُوحك.

‏- تنفرد صلاة الفجر بأذانٍ مُختلفٍ عن بقية الصلوات فيه: (الصلاة خيرٌ من النوم) إنه اختبار الصدق مع الله.

- ما أجمَل الفجر؛ ملائكةٌ تهبط، ونسماتُ إيمانٍ، وقلوبٌ تَتمنى الخير لبعضها، لا يَستيقظ لها إلا المُحب الصادق، فيها أنوارٌ تسطع، وجباهٌ تركع، وحسناتٌ تُرفع، وأَرزاقٌ تُوزع، فيها يُنقي الله عباده من الذُنوب والخَطايا.

- يظن من ينام عن صلاة الفجر أنه أخذ قسطاً من الراحة، ولا يدري المسكين أن الراحة كل الراحة هي الوقوف بين يدي الله.

 

قال الشاعر:

صلاةُ الفجرِ في الظُلَمْ

مَنْجاةٌ مِن النِقمْ

فكمْ داوتْ مَن عانى مِن سِقَمْ

وشرحتْ صَدْراً كانَ به حِممْ

فَقوموا لَها بِصِدقٍ وهِمَمْ

وَأبْشِروا بِنورٍ في جَنَّة النِعَمْ

 

ومن المُعينات على صلاة الفجر: صدق الرغبة، وعقد النية، والدعاء لله بالإعانة، وترك السهر، وهجر الذنوب، ومُصاحبة الأتقياء، والأخذ بالأسباب المُساعدة: كالنوم على وضوء، وكثرة الاستغفار، وضبط المؤقت والمنبه ولو كان منبه شُرب الماء، ووصية بعض الأهل أو الجيران أو الأصدقاء للإيقاظ.

 

أحبتي.. قصة الجنود الصينيين فيها عبرةٌ لمن لا يواظبون على صلاة الفجر في المسجد مع جماعة المُسلمين -بغير عذرٍ- فيحرمون أنفسهم من خيرٍ كثيرٍ، يُقدِّمون النوم على الصلاة، وهُم يسمعون المؤذن يُعلنها واضحةً صريحةً لا لبس فيها (الصلاة خيرٌ من النوم). إلى هؤلاء أقول، وبصراحة:

ألا تخجل من سهرك تُشاهد فيلماً أو مسلسلاً أو مباراةً لكرة القدم حتى قُبيل موعد أذان الفجر بقليلٍ فتقوم للنوم؟!

ألا تخاف الله، وأنت تقوم من نومك مُسرعاً لتكون على رأس عملك في موعدٍ مُحددٍ -صباح كل يومٍ- يأمرك به مديرك، وعندما يكون الموعد صلاة الفجر، ويكون الآمر بها الله سبحانه وتعالى، تتكاسل وتنام؟!

ألا تستحي من انتظامك في صلاة الفجر بالمسجد وقت الامتحانات فقط أو في مواسم مُعينةٍ كشهر رمضان مثلاً ثم تنقطع عن ذلك بعد انتهاء الامتحانات أو بعد شهر رمضان؟!

لكن، ولأن الله رؤوفٌ رحيمٌ، ولأنك ما تزال حياً فإنّ أمامك فرصةً -لا تُضيِّعها- لتدارك الأمر والإحسان إلى نفسك؛ بالالتحاق بمن يُصلون الفجر في جماعةٍ، ويحرصون على هذه الصلاة المُباركة، ويواظبون عليها، ويحذرون من إضاعتها والنوم عنها؛ فإن الله قد توعد من يُضيّع الصلاة بقوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، قال العُلماء ليس معنى أضاعوها: تركوها، ولكن أخروها عن أوقاتها، فما بالك بمن ضيّعها؟

أما المواظبون على صلاة الفجر في جماعةٍ بالمسجد، فأقول لهم: احمدوا الله على فضله، واستمروا واثبتوا، أثابكم الله ثواباً عظيماً وحفظكم من كل سوء.

هدانا الله جميعاً إلى طريق الصواب والرشاد.

https://bit.ly/3HVniDV