الجمعة، 8 يناير 2021

قصة «بلقيس»

 

خاطرة الجمعة /273


الجمعة 8 يناير 2021م

(قصة «بلقيس»)

 

«بلقيس» شابّةٌ نصرانيةٌ إفريقيةٌ، قدمت من بلادها «النيجر» إلى مدينة «جدة» مع عصابة لتهريب المخدرات تتكون من ثلاثة رجال وامرأتين. تم القبض – ولله الحمد – على هذه العصابة، وصدر الحكم القضائي بالقصاص للرجال الثلاثة، أما المرأتان بلقيس وزميلتها فقد صدر الحكم عليهما بالسجن لمدة عشرين سنة، والتفريق بينهما؛ أُودعت زميلتها في سجن «جدة» أما «بلقيس» فقد أُودعت في سجن «الرياض» لأمرٍ قد قُدِر! في سجن النساء كانت بلقيس تتصف بالعدوانية وسلاطة اللسان، الكل يتحاشاها، فعاشت منبوذةً من الجميع. كانت إدارة السجن تنقلها من مكانٍ إلى آخر عندما تتشاجر مع النزيلات حتى استقر بها المقام في قسم السيريلانكيات إذ أن هذه الجنسية تميل إلى الوداعة والهدوء والحِلم. ومن فضل الله سبحانه أن إدارة التوعية الإسلامية بالسجن قد وفرت كتب التعريف بالإسلام للسجينات بجميع اللغات تقريبًا. وفي يومٍ ما طلبت إحدى السجينات السيريلانكيات النصرانيات من المسؤولة الدينية في السجن كتبًا عن الإسلام بلغتها، وكالعادة تبقى الكتب الدينية مع السجينة يومين أو ثلاثة ثم تُعطى لأخرى وهكذا، لكن هذه السجينة رفضت إعادة الكتب، وبقيت عندها أسبوعًا كاملاً، وهي تقرأ وتعيد وكأن كنوز الأرض بين يديها، جاءت المسؤولة الدينية وطلبت تسليم الكتب، فرفضت للمرة الثانية؛ فما كان من المسؤولة إلا أن أخذت الكتب منها بالقوة. طوال الليل، وبكاء السجينة لا ينقطع، و«بلقيس» تُراقب الحدث، وقد عجبت من بكائها وإصرارها على بقاء الكتب عندها، وجال في خاطرها أنه لابد أن وراء هذه الكتب سرًا! ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾.

في الصباح طلبت «"بلقيس» من المسؤولة الدينية كتبًا عن الإسلام بلغتها؛ قرأت وقرأت وأحست بشعورٍ غريبٍ من الراحة والسعادة، والرغبة القوية في اعتناق الإسلام، تلك النفس الهائجة وجدت سكنًا لحيرتها، وريًّا لروحها المقفرة؛ فكانت المفاجأة!

أعلنت «بلقيس» إسلامها، وغيّرت اسمها القديم إلى هذا الاسم، فرح الجميع لها فرحًا عارمًا. سبحانه إذا أراد أمرًا هيأ له أسبابه! إنه تدبير العليم الحكيم؛ لقد قاد بكاء تلك السجينة السيريلانكية إلى قراءة «بلقيس» لكتب التعريف بالإسلام ثم اعتناقه!

وكَمْ للهِ منْ تدبيرِ أمرٍ

طَوَتْهُ عن المُشاهدةِ الغيوبُ

حدثٌ لا يستطيع القلم أن يسطّره، ولا اللسان أن يصفه. رحلةٌ من ظُلمة الكفر إلى نور الإسلام، من تيهٍ إلى أمان، من موتٍ إلى حياةٍ حقيقيةٍ وجنةٍ عاجلةٍ، تغيّرت طباع «بلقيس» وتحولت من امرأةٍ عدوانيةٍ إلى امرأةٍ مسالمةٍ هادئةٍ؛ فكما قال صلى الله عليه وسلم: [الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ].

التحقت «بلقيس» بمدرسة القرآن الكريم، وحفظت ستة أجزاء من القرآن الكريم، وحرصت على تعلّم أحكام الدين، ذاقت طعم الحياة الحقيقية، ذاقت طعم السعادة، وصدق الله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وما أجمل ما قال ابن تيمية: المحبوس مَنْ حَبِسَ قلبه عن ربّه، والمأسور من أسره هواه. وقال صلى الله عليه وسلم: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم]. لما أنقذ الله سبحانه «بلقيس» من ظلمات الكفر، وقد تجرّعت غصّته، وخاضت وَحْلَه؛ أشفقتْ على غير المسلمات في السجن، فبذلت جهدها في عرض صورة الإسلام وسماحته وعدله ورحمته عليهن، إضافةً إلى أنها تملكُ أُسلوبًا قويًا مؤثرًا جذّابًا؛ فأسلم على يديها الكثير.

قامت إدارة السجن بتكريم للمسلمات الجدُد اللاتي أسلمن على يد «بلقيس»، وداعيةٍ أخرى، عجبتُ من هذه المرأة المسلمة الوديعة كيف كانت عدوانيةً قبل إسلامها كما ذُكر لي، وكيف أصبحتْ الآن بفضل الله ثم بدخولها في هذا الدين العظيم. عجبتُ من سمتها وهديها وبهاء وجهها. ولا غرو؛ فنور الإيمان يُبدّد ظلمات الكفر، ويجلب الفلاح في الدين والدنيا.

وجاء العفو، كان الحكم القضائي على «بلقيس» عشرين عامًا، كانت أوائل سنوات سجنِها جحيمًا لا يُطاق: كفرٌ وضلالٌ، وعدوانيةٌ وظلمٌ ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾. جاء العفو الملكي وشمل «بلقيس» مع بعض السجينات، فقد أُعطيتْ نصف المحكومية عشر سنوات لحسن إسلامها وحفظها ستة أجزاء من القرآن وحُسن خلقها.

عادت «بلقيس» إلى بلادها (النيجر) داعيةً إلى الله، وافتتحت هناك مدرسةً لتحفيظ القرآن الكريم، سبحان مقلّب القلوب، ومُصرّف الأحوال، مدبّر الأمور، يهدي من يشاء بحكمته؛ لبثت في السجن بضع سنين؛ أسلمت وأسلم على يديها الكثير، وحفظت ستة أجزاء من القرآن الكريم، وتعلمت الكثير من أحكام الدين. يقول تعالى: ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾؛ لقد خرجت «بلقيس» من بلدها نصرانيةً مجرمةً بجريمة تهريب المخدرات، وعادت إلى بلادها مسلمةً وداعيةً إلى الله!

كانت هذه (قصة «بلقيس») نقلتها مختصرةً من كتاب "صالحات عرفتهن" للكاتبة السعودية/ شيخة القاسم.

 

أحبتي في الله .. كفاني التعليق على هذه القصة المؤثرة، ما كتبه أحد العلماء عن أربعة أسباب لاعتناق غير المسلمين للإسلام، كتب يقول: ننظر أحيانًا لكثيرٍ من النعم التي رزقنا الله إياها على كونها أمورًا مسلَّمًا بها، وربما يكون على رأسها إسلامنا، ثم لا يلبث يتذكر بعضنا هذه النعمة ويشكرها حين يسمع قصة أحد المسلمين الجدد، ويحمد الله عليها، فالواقع أننا ﴿مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾. بيد أنه من المثير للرثاء من جهةٍ أخرى، أن نجد مسلمين يتغافلون عن تطبيق بعض أحكام الدين، بل وأحيانًا يقومون بشن الهجوم على الأمور التي أدت إلى إسلام الملايين من غير المسلمين حول العالم! إن البحث عن النفس من أكثر الأسباب شيوعًا لإسلام غير المسلمين؛ ويبدو ذلك في رغبة معظمهم معرفة الهدف وراء الحياة، فأسلوب حياتهم المادي في الغرب، والغرق في ملذات الدنيا يبعث في نفوسهم ــ مع الوقت ـ شعورًا بالتعاسة والحيرة، والرغبة في عيش حياةٍ لها معنىً وهدفٌ ورسالة. ومع بحثٍ دؤوبٍ ومستمرٍ، يجد معظمهم هذا في الإسلام. وفي المقابل، نجد كثيرًا من المسلمين، بلا هويةٍ ولا هدفٍ، وحين يلجأ بعضهم للبحث، نراهم يلجأون لفلسفات ومراجع الغرب في النفس والحياة، والتي دحضها الإسلام بدليلٍ مقنعٍ، وجاء بخيرٍ منها. سببٌ آخر هو الطمأنينة عند سماع القرآن؛ ويحدث هذا الأمر مع غير المسلمين بشكلٍ ملحوظٍ سواءً صدفةً أو عمدًا. فبعضهم يقرأ في القرآن خصيصًا ليهاجم به المسلمين، ولكن سرعان ما ينقلب السحر على الساحر، وتكون النتيجة أن يعتنق هذا الشخص الإسلام. والمؤسف في المقابل أن نجد العديد من المسلمين، الذين يحرصون على سماع الأغاني والألحان بصورةٍ يوميةٍ ولوقتٍ طويلٍ، من باب إراحة النفس والبال وتجديد النشاط والفكر! سببٌ ثالثٌ، الصلاة؛ تجد فتاةً أسلمت حين رأت مسلمةً تُصلي، مبررةً ذلك بأنها رغبت هي الأخرى في الصلاة، لتتمكن من الحديث مع الله جلَّ وعلا بصورةٍ مباشرة! كما تجد أحد المسلمين الجدد وقد علق على صلاة الجماعة، بكونها أمرًا خارقًا؛ فما إن يكبر الإمام للصلاة حتى يصبح جميع المصلين مصطفين جنبًا إلى جنبٍ بصورةٍ تلقائيةٍ شديدة التنظيم، وكل هذا في ثوانٍ معدودة! وهنا يتيقن ذك الرجل غير المسلم أنّ هذا الدين الذي يجمع الناس من كافة الطبقات الاجتماعية، ومن مختلف الأجناس والأعراق والألوان، لا ريب أنه دينٌ مميزٌ ورائع! فكان أن أعلن إسلامه. والسؤال المؤلم الذي يطرح نفسه هو: تُرى كم عدد المسلمين الذين ما عادوا يحرصون على أن يكونوا جزءًا من ذلك الصف المُعْجِز؟! أما السبب الرابع فهو حجاب المرأة وإنصاف الإسلام لها؛ إذ أثبتت الكثير من الدراسات والإحصائيات أن العدد الأكبر من معتنقي الإسلام خاصةً في الولايات المتحدة وبريطانيا هم من النساء، وأن الحجاب يُعتبر من الأسباب الرئيسية وراء إسلام الكثير منهن في الغرب؛ حيث يرجع هذا الأمر للاستغلال الذي تتعرض له المرأة، نتيجة العُري والتبرج. وتكمن المشكلة حقيقةً في الكم الهائل من النساء والرجال المسلمين، الذين يُعدون في أحيانٍ كثيرةٍ من الطبقة المثقفة، فيتشدقون بحرية المرأة في الغرب، والكبت الذي تعاني منه المرأة في ظل الدين الإسلامي! حتى إن أحدنا ليجد نفسه عاجزًا عن الرد، لا جهلًا بالجواب، ولكن استخفافًا بعقلية المتكلَّم الرجعية غير العالمة بما تهذي! ونُصدم بحال كثيرٍ من المسلمات في عالمنا العربي اللاتي يهاجمن الحجاب ويصمونه بالرجعية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة النساء والفتيات اللاتي يخلعن الحجاب بعد سنين من ارتدائه دون أية أسباب وجيهة، في الوقت الذي تعاني فيه المسلمات الجدد الأمرَّين في مجتمعاتهن وأوساط عملهن بسبب ارتدائهن للحجاب، ومع ذلك يأبين خلعه!

 

من المؤكد أن (قصة «بلقيس») لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة بإذن الله، فالإسلام ينتشر بين كثيرٍ من الغربيين؛ يقول أحد المختصين إنه ضمن حوالي مائة ألف أوروبي اعتنق الإسلام، نجد مجموعةً من المثقفين، بما يُفيد أن الإسلام لم يعد مقتصراً على الدوائر الضيقة من بعض الفئات الاجتماعية العادية، بل صار يتغلغل داخل أوساط النخبة الغربية المثقفة. فخلال العقود الثلاثة المنصرمة دخل الإسلام العديد من المفكرين والمثقفين من أدباء وفنانين وفلاسفة ومفكرين وأساتذة جامعات وسياسيين، منهم على سبيل المثال: الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، العالم والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، الكاتب النمساوي محمد أسد، الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان، المغني الإنكليزي السابق كات ستيفن «يوسف إسلام»، الداعية الإسكتلندي عبد القادر الصوفي، الكاتبة الأمريكية مريم جميلة، الدبلوماسي الإنكليزي غي إيتون، المستشرق الإنكليزي مارتن لنغز، الباحث البلجيكي عمر فان دنبروك، المحامي الكاتب أحمد ثومسون، الباحثة الإنجليزية هدى خطاب، الكاتبة الإنجليزية عايشة بويلي، الكاتبة الأسترالية جميلة جونز، الأنثروبولوجي الألماني أحمد فون دينفر، أستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ، الكاتبة الأمريكية بربارا براون، الإنكليزية سوزان حنيف، الباحثة الإنكليزية رقية وارث مقصود، الباحث الهولندي هندريك خيل، الكاتبة الهولندية ساجدة عبد الستار، الإعلامي والكاتب الهولندي عبد الواحد فان بومل، وآخرون كثيرون ينتشرون على امتداد القارة الأوروبية. ويُلاحظ أن مجمل هؤلاء يساهمون في تطوير الفكر الإسلامي عموماً من خلال كتاباتهم ومقالاتهم ومحاضراتهم وندواتهم التي يقيمونها ويتحدثون فيها بلغاتهم الأوروبية إلى جمهور أوروبي أو مسلم. ويناقشون ويكتبون في مختلف القضايا والعلوم الإسلامية كالسيرة والحديث والتفسير والسنة والفقه الإسلامي. واللافت أن بعض هؤلاء يعترضون على عبارة “اعتناق” ويفضلون بدلها لفظة العودة إلى الإسلام؛ لأنهم يعتقدون أنهم رجعوا إلى الحالة الإنسانية الأصلية أي الفطرة السليمة؛ فالإنسان يولد على الفطرة السليمة أي الإسلام ولكن البيئة والتربية تجعله يؤمن بدين والديه ومجتمعه.

 

أحبتي .. في الختام، دعونا نشارك أهل العلم الرأي في أنه من الواجب علينا كمسلمين، حين نسمع إحدى قصص المسلمين الجدد، مثل (قصة «بلقيس») أن نضيف إلى شعورنا بالغبطة، ورغبتنا في الشكر والدعاء والحمد على نعمة الإسلام، مرحلة التطبيق العملي؛ من خلال الأمر بالمعروف قولًا، وتطبيق الفرائض فعلًا، كيلا نغدو [غُثَاء كَغُثَاءِ اَلْسَيْل] كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي ينتهي معظمنا إلى أن نكون مسلمين بالاسم فحسب!

وعلينا - كما تقول كاتبة (قصة «بلقيس») - ألّا نيأس من هداية أحد، ولا نقنط من روح الله، فالقلوب بيد الله وحده، قال صلى الله عليه وسلم [إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ].

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، واهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/38qjgB9