الجمعة، 20 نوفمبر 2020

إنها الغفلة

 

الجمعة 20 نوفمبر 2020م

خاطرة الجمعة /266

(إنها الغفلة)

 

حدثنا بهذه القصة أحد المشايخ، وهي لشابٍ قد أخبره بقصته فقال:

"كنتُ مقصراً بالصلاة، حتى أنني لا أعرف طريق المسجد، وفي إحدى الليالي منذ عدة سنواتٍ نمتُ في بيتي ورأيتُ في منامي رؤيا عجيبة؛ رأيتُ أني في فراشي نائمٌ فأتت إليّ زوجتي تريد إيقاظي فقلتُ لها: "ماذا تريدين؟"، فوجئتُ بأنها لا تسمع كلامي! كررتْ زوجتي إيقاظي مراراً، وكنتُ في كل مرةٍ أسألها: "ماذا تريدين؟"، لكنها لم تكن تسمع كلامي أبداً، وإنما ذهبتْ مسرعةً خائفةً ونادت إخواني فأتوا وتجمعوا حولي فصحتُ فيهم: "ماذا تريدون؟"، المفاجأة أني وجدتهم جميعاً لا يسمعوني، بل اقترب مني أخي الأكبر ورفع يديّ للحظاتٍ ثم تركها فوقعت، فإذا به يمسك بجفون عينيّ ويغلقهما، ثم سمعته يقول لباقي إخواني: "عَظَّمَ الله أجركم، أخونا في ذمة الله"، ففزعوا وبكوا على وفاتي، مع أني لم أمت، ولكن لا أدري لماذا لم يسمعوا كلامي؟

كنتُ في حالةٍ عصيبةٍ جداً؛ حيث أرى زوجتي وإخواني وأكلمهم وأنظر إليهم ولكنهم لا يردون عليّ، ثم إني سمعتهم يتحدثون عن جنازتي: "عجلوا بها إن كانت خيراً تُقدم، وإن كانت شراً تُوضع عن الأعناق"! ثم ذهبوا بي إلى المقبرة، وكنتُ أكلم كل من يواجهني في الطريق أني حيٌ ولم أمت، ولكن لا أحد يرد عليّ! لما وصلوا بي إلى المقبرة نزعوا عني ثيابي وغسلوني وكفنوني، ثم ذهبوا بي إلى المسجد للصلاة عليّ؛ فكلمتُ الإمام وقلتُ له: "أنا حيٌ، لم أمت"، لكن الإمام هو الآخر لا يرد عليّ، وأنا أسمعهم وأنظر إليهم وهم يصلون عليّ، وبعد الصلاة ذهبوا بي إلى القبر، كنتُ أنظر إلى الناس وهم يجهزون لدفني، ووضعوني في اللحد! كلمتُ آخر شخصٍ رأيته قبل إتمام عملية الدفن وقلتُ له: "أنا لم أمت، أنا حيٌ؛ فلا تدفنوني"، لكنه لم يرد عليّ هو الآخر، كأنه لم يسمعني، ثم هالوا عليّ التراب. تذكرتُ وقتها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن الميت يسمع قرع النعال] فسمعتُ قرع نعالهم لما ذهبوا وابتعدوا عن قبري. وجدتُ نفسي وقتها في مكانٍ مظلمٍ، بعد قليلٍ أتى إليّ رجلان فزعتُ منهما؛ وقف أحدهما عند قدميّ والآخر عند رأسي، سألاني: "مَن ربك؟"، فبدأتُ أردد: "ربي ربي"، وأنا أعرف مَن هو ربي ولكن لا أدري كيف نسيت، ثم سألاني: "مَن نبيك؟"، فبدأتُ أردد "نبيي نبيي"، ثم سألاني: "ما دينك؟"، فقلتُ: "ديني ديني"، نسيتُ كل شيءٍ، ولم أتذكر وقتها إلا زوجتي وأبنائي ودكاني وسيارتي، حتى أتيا بمرزبةٍ كبيرةٍ وضرباني ضربةً قويةً صرختُ منها صرخةً مدويةً فوجئتُ بعدها بنورٍ يُضاء حولي، وزوجتي بجواري تُسمي عليّ وتسألني: "لماذا تصرخ وتصيح"؟، أيقنتُ وقتها أني كنتُ نائماً، وأن تلك كانت رؤيا رأيتها وأنا نائم، وإذا بأذان الفجر يُرفع؛ فقمتُ مسرعاً وتوضأتُ وتوجهتُ -لأول مرةٍ في حياتي- لصلاة الفجر في المسجد، وأنا سعيدٌ أشعر أنه قد كُتبت لي حياةٌ جديدة؛ فقد كانت هذه الرؤيا سبباً لهدايتي والتزامي وابتعادي عن كل المحرمات، وحافظتُ من يومها -بحمد الله- على الصلاة في المسجد وطاعة ربي، وأعيش الآن مع زوجتي وأبنائي وإخواني حياة السعادة وراحة الضمير، بعد أن كنتُ تائهاً ضائعاً، يا إلهي كم كنتُ غافلاً عن سبيل الرشاد!‏

 

أحبتي في الله .. ما إن انتهيتُ من قراءة هذه القصة حتى تذكرتُ الآيات الكريمة: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. يقول العلماء في معنى هذه الآيات: الشدة والمعاناة عند نزع الروح أوضحت للغافل حقيقةَ الأمر؛ هذا هو الموت الذي كنتَ تنفرُ عنه وتهربُ منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص، ها أنت الآن ترى الحقيقة التي كنتَ تتهرب منها، ها أنت الآن ترحل عن الدنيا التي ملأتْ قلبك واستعبدتْ جوارحك. ثم هذا هو صوت إسرافيل وهو ينفخ في القرن، فاليوم إذن هو يوم البعث، يوم القيامة، يوم إنجاز العذاب الموعود للكفار، وجاءت كل نفسٍ يصحبها مَلَكٌ يسوقها، وشهيدٌ يُخبر بأعمالها؛ لقد كنتَ أيها الإنسان في لهوٍ وسهوٍ من هذا النازل بك، فأزحنا عنك حجابَ غفلتك؛ فبصرك اليوم حادٌ قويٌ نافذ، إنه يوم الحساب ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾.

 

(إنها الغفلة)، الغفلة عن عبادة الله ولقائه سبحانه، والانشغال بالدنيا الزائلة، عن الآخرة الباقية الخالدة؛ يقول تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾. ويصف الله تعالى الغافلين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، وبقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

وقد توعّد الله تعالى من يستكبر عن عبادته ويُفرِّط في طاعته بأشد الوعيد، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

(إنها الغفلة) عن الموت والدار الآخرة؛ فالغفلة -كما يُبين أهل العلم- تُنسي العبدَ ربّه وآخِرَته، وتجعله متعلقاً بدنياه، مُعْرِضاً عن آخِرَته، لا يتذكر الموت، ولا يستعد ليوم الحشر، حتى إذا نزل به الموت تمنى العودة وقال: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، لكن هيهات. كثيرٌ منا غافلون؛ يسعون بجدٍ واجتهادٍ ويتناحرون ويقتتلون للحصول على مكاسب وملذاتٍ وشهواتٍ في دنيا لا بقاء لها ولا دوام، ثم هُم مُقصِّرون فيما ينفعهم في الدار الآخرة التي إليها معادهم، غافلون عنها، رغم وصف المولى عزَّ وجلَّ لها بأنها هي الحيوان، أي أنها هي الحياة الكاملة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

(إنها الغفلة) يذكرني بها قول سيدنا علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه: "الناسُ نيامٌ فإذا ماتُوا انتبَهوا".

 

أحبتي .. العاقل من اتعظ بغيره؛ كم من شابٍ صحيحِ الجسم كان يظن أن في قابل أيامه متسعاً له للتوبة وإصلاح علاقته بالمولى عزَّ وجلَّ، فإذا بالموت يفاجئه. وكم من شيخٍ كبيرٍ ما تزال الدنيا تغره وتخدعه وتتزين له وتسحبه بعيداً عن صراط الله المستقيم، ثم يأتيه الموت فجأةً وهو على حاله هذه فيكون مصيره الخلود في نار جهنم وبئس المصير. فهلا اتعظنا؟ هلا أفقنا من غفلتنا؟ هلا حاسبنا أنفسنا قبل أن نُحاسَب؟ إلى متى الغفلة؟ إلى متى البُعد عن الله؟ إلى متى التفريط في عبادته؟ ليراجع كلٌ منا نفسه؛ هل هو راضٍ عن صلاته؟ هل يُخرج زكاة ماله؟ هل يصوم كما ينبغي أن يكون الصيام؟ هل حجَّ وقت أن كان مُستطيعاً؟ إلى أي مدىً هو قريبٌ من كل ما يُرضي الله سبحانه وتعالى من أعمال خيرٍ وبرٍ وصلة رحمٍ وذِكرٍ؟ وإلى أي مدىً هو بعيدٌ عما يُغضب الله سبحانه وتعالى ويستوجب لعنته وسخطه من أعمال شرٍ كالقتل والزنا وشرب الخمر والسرقة وشهادة الزور وأكل أموال الناس بالباطل وإيذاء الناس وسوء التعامل معهم؟

أحبتي فلنحارب الغفلة بمحاسبة النفس، ولنحذر التهاون في الصغائر فهي التي تسحب الإنسان إلى الكبائر. ولنحذر التسويف في التوبة فهي بداية طريق الضياع. ولنأخذ أنفسنا بالشدة؛ فلكلٍ منا نفسٌ أمارةٌ بالسوء، إذا سلمنا لها قيادنا تُهنا وضِعنا. اللهم اجعلنا من أصحاب النفوس اللوامة التي تقود أصحابها حتى يصيروا من أصحاب النفوس المطمئنة، فيكونوا من الفائزين برضا الله ورضوانه، وينعموا بالسعادة في الدارين؛ الدنيا والآخرة، ولا يكونوا من الغافلين.

 

https://bit.ly/38VBjzY