الجمعة، 22 أبريل 2016

فقه الأولويات

22 أبريل، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٨

(فقه الأولويات)

"حمداً لله على السلامة"، "عمرة مقبولة بإذن الله"، "عقبال الحج"، عبارات ترددت كثيراً من إخوة أفاضل يهنئون أحد رواد مسجدنا بمناسبة عودته من مكة المكرمة بعد أداء مناسك العمرة.
تذكرت وقتها كم عمرة أداها هذا الصديق العزيز .. لا أقل من خمس عمرات خلال آخر سنتين .. لا شك أن لصديقنا رؤيته الخاصة ولديه أسبابه التي تجعله يُكثر من أداء العُمرات .. لست في معرض مناقشة هذه الرؤية أو تلك الأسباب .. لكني تساءلت بيني وبين نفسي هل إذا توافرت لدي الإمكانيات وسمحت لي الظروف هل كنت أفعل كما يفعل صديقنا هذا؟ فكرت في الأمر، فإذا صورٌ كثيرةٌ في مخيلتي تستدعيها الذاكرة: مسلمون يموتون جوعاً، وآخرون يموتون من شدة البرد شتاءً، وغيرهم يموتون غرقاً قرب شواطئ اضطروا إلى السفر إليها هرباً من واقع مؤلم وحياة صعبة وحروب لا ترحم شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، وصورٌ أخرى نراها يومياً رأي العين: أرامل وثكالى وأيتام ومعوزين .. تزاحمت تلك الصور لتضعني في مواجهةٍ مع عدة أسئلة: ماذا قدمنا لهؤلاء؟ ماذا نحن فاعلون لمساعدتهم وهم إخوان لنا في الدين؟ ما الذي يمكن أن نفعله لنخفف من معاناتهم وآلامهم ونسد احتياجاتهم؟ ثم هل مساعدتنا لهم واجبة إذا كنا نملك من المال ما يفيض عن حاجتنا حتى أننا نصرفه على عُمرة بعد أخرى؟ أيهما أولى أداء عمرة جديدة أم مساعدة أولئك المحتاجين؟
هذه الأسئلة وغيرها مرت على ذهني، فقررت أن أراجع ما يسمى (فقه الأولويات) لعلي أجد جواباً شافياً خاصةً على سؤالي الأخير، فوجدت ما يلي: ﴿الاستكثار من العمرة أمرٌ مشروع، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [العمرة إلي العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد]، ومع ذلك فقد أشار العلماء إلى استثناء مهم وهو: "إلا إذا كان له أقارب محاويج [ذوو حاجة]، أو كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته، فالتصدق هنا أفضل". وقال أحد العلماء: "الصدقة في وقت الحاجة وشدة المجاعة أفضل من عمرة التطوع؛ لأن نفع العمرة قاصر على صاحبها، والصدقة على المحاويج والجياع يتعدى نفعها، وما كان نفعه متعدِّيًا أفضل مما كان نفعه قاصرًا، وهذا عام في فقراء المسلمين، ولكن الفقراء الذين في البلد أحق من الذين في الخارج"﴾. وعندما راجعت كتاب الله استوقفني قوله تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ» فمع كون سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام فضيلة، إلا أنه لا وزن لهذه الفضيلة إذا كان الإنسان مُفَرِّطاً بحقيقة الإيمان وصحة الاعتقاد. كما لفت انتباهي حديث للرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: [أحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفعُهُمْ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ تُدخِلُهُ على مُسلِمٍ، أو تَكشِفُ عنهُ كُربةً، أو تَقضِيَ عنهُ دَيْنًا، أو تَطرُدَ عنهُ جُوعًا، ولَأَنْ أمْشِيَ مع أخِي المسلمِ في حاجةٍ أحَبُّ إليَّ من أنْ أعتكِفَ في المسجدِ -يعني مسجد المدينة- شهْرًا، ..]، ولعل آخر جملة في هذا الحديث الشريف تعبر تماماً عن (فقه الأولويات).
لقد استقر في يقيني أن ثواب عمل الخير ومساعدة المحتاجين يفوق ثواب أداء عُمرة تطوع؛ فعمل الخير يستفيد منه عدد كبير من المسلمين، أما أداء عمرة التطوع فلن ينتفع بها إلا من أداها فقط. والعُمرة هنا مثال لغيرها من نوافل فردية لا يعود نفعها إلا على من يؤديها، في مقابل أعمال خير وبر يصل نفعها إلى الكثير من عباد الله.
ومع ما تقدم فإن من فَضْل الله سبحانه وتعالى أنه لا يضيع ثواب أداء عُمرة التطوع على من نوى أداءها ثم عدل عنها ليصرف تكلفتها في أعمال الخير؛ يُحكى أن رجلاً صالحاً كان في طريقه إلى العمرة فوجد أرملة معها أطفال صغار لا يجدون طعاماً فتصدق عليها بمال العمرة وعاد لمنزله، ثم فوجئ بأن بعض من عادوا من العمرة في ذلك العام يخبرونه بأنهم رأوه يعتمر معهم، وكأن الله عز وجل قد أوكل ملاكاً يعتمر عنه ليأخذ أجره كاملاً غير منقوص عن كلا العملين: العمرة والصدقة.
أحبتي في الله .. حثنا الإسلام على فعل الخير؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وقال عز وجل: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾. ودعانا إلى مساعدة الآخرين كنوع من الإحسان؛ قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال عز وجل: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. وحثنا الرسول عليه الصلاة والسلام على مساعدة المحتاجين؛ حيث قال: [.. مَنْ كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ].
أحبتي .. على كلٍ منا أن ينضبط عنده ميزان الأولويات بشكل منطقي وصحيح؛ حتى لا يُقدِّم المهم على الأهم، أو يحرص على أداء عمل طيب يوجد ما هو أطيب منه، كمن يحرص على أداء بعض النوافل والمستحبات ويفرط في أداء الفرائض والواجبات، وكمن يهتم بتعليم أبنائه لغات أجنبية ويهمل تعليمهم اللغة العربية .. أو من يصطحب أطفاله يومياً إلى النادي لتعلم رياضة ما وإجادتها، ولا يفكر في تحفيظهم ما تيسر من كتاب الله .. وغير ذلك من أمثلة يتضح منها أننا جميعاً وفي كل يوم تقريباً نكون مخيرين بين أمرين، في كلٍ منهما خير، إذا تمكنا من الجمع بينهما فهذا أمر طيب، أما إذا كنا مضطرين لتفضيل أحدهما على الآخر لمحدودية المال أو الجهد أو الوقت فهنا يتوجب علينا الإفادة من (فقه الأولويات) الذي يُعَرَّف بأنه "العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها بناءً على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها" .. إنه من أفضل العلوم التي علينا أن نتعلمها ونلتزم بها ونطبقها في جميع مجالات حياتنا حتى تنصلح أحوالنا وتستقيم شؤوننا بإذن الله. وعودةً إلى ما بدأتُ به فلو أن مئات الألوف الذين يؤدون عُمرة تطوع رصدوا ما ينفقون في عمرتهم لإقامة مشروعات خيرية لتبدل الحال غير الحال، ولن نجد فقيراً أو محتاجاً.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/twHtsP