الجمعة، 31 يوليو 2020

التجارة مع الله

الجمعة 31 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /250

(التجارة مع الله)

 

جاءت ليلة العيد، فقالت الزوجة لزوجها: "العيد غداً يا أبا عبد الله، وليس لدى أطفالنا ملابس جديدةٌ يلبسونها مثل بقية أطفال الجيران، وهذا بسبب إسرافك!"، قال الزوج: "أنا أنفق أموالي في الخير ومساعدة المحتاجين، وهذا ليس إسرافاً يا أم عبد الله"، قالت الزوجة: "ابعث رسالةً إلى أحد أصدقائك المخلصين ليعطينا بعضاً من المال، نردُّه له عندما تتحسَّن أحوالنا إن شاء الله".

كان لهذا الرَّجل صديقان مخلصان، الهاشمىُّ وأسامة، كتب الرَّجل رسالةً وأعطاها لخادمه، وطلب منه أن يذهب بها إلى صديقه الهاشمىِّ. ذهب الخادم إلى الهاشمىِّ وأعطاه الرِّسالة؛ فقرأها وعرف أنّ صديقه في ضيقٍ وحاجةٍ

وأصبح لا يملك شيئاً، قال الهاشمىُّ للخادم: "أعرف أنّ سيّدك ينفق كل ما عنده من أموالٍ في عمل الخير، خُذ هذا الكيس وقل لسيِّدك إنَّ هذه الدَّنانير هي كلّ ما أملك في ليلة العيد". عاد الخادم إلى سيِّده وأعطاه الكيس؛ ففتحه فوجد به مائة دينارٍ، فقال لزوجته في فرحةٍ: "يا أم عبد الله، هذه مئة دينارٍ أرسلها الله إلينا"، سُرَّت الزوجة وقالت لزوجها: "أسرع إلى السوق لنشتري الأثواب والأحذية الجديدة لأولادنا". في هذه اللَّحظة دقَّ الباب؛ ففتحه الرَّجل فوجد خادم صديقه أسامة ومعه رسالةٌ يطلب فيها بعض المساعدة ليدفع ديناً

قد حل موعده. أعطى الرَّجل الخادم الكيس الذي أرسله إليه صديقه الهاشمىُّ، وفي داخله المبلغ كاملاً دون أن يأخذ منه شيئاً، ثارت الزَّوجة على زوجها الذي فضَّل صديقه على أولاده، فقال لها زوجها: "صديقي يطلب المساعدة، فكيف أمنع عنه ما عندي من خير؟!". مرَّت ساعةٌ، ثمَّ دق الباب؛ ففتح الرَّجل الباب فوجد أمامه صديقه الهاشمىّ فرحَّب به وأدخله. قال الهاشميُّ: "جئتُ لأسألك عن هذا الكيس، هل هو الكيس نفسه الذي أرسلته إليك مع خادمك وبداخله مائة دينار؟"، نظر الرَّجل إلى الكيس وقال في دهشةٍ: "نعم..نعم..إنَّه هو... أخبرني يا هاشمى.. كيف وصل هذا الكيس إليك؟"، أجاب الهاشمىُّ: "عندما جاءني خادمك برسالتك، وأعطيته الكيس الذي عندي لم يكن في بيتي غيره، فأرسلتُ إلى صديقنا أسامة أطلب المساعدة ففاجأني بأن ّقدّم لي الكيس الذي أرسلته إليك كما هو، دون أن ينقص ديناراً واحداّ، فتعجَّبتُ وجئتُ إليك لأعرف السِّرَّ"، ضحك الرّجل وقال: "لقد فضَّلك أسامة على نفسه وأعطاك الكيس، كما فضَّلتني أنت على نفسك يا هاشمىّ"، ابتسم الهاشمىُّ وقال: "بل أنت فضَّلتَ أسامة على نفسك وعيالك، ما رأيك يا أبا عبد الله في أن نقتسم المائة دينار بيننا نحن الثَّلاثة؟!"، أجاب الرَّجل: "بارك الله فيك يا هاشمىّ!".

سمع الخليفة بهذه الحكاية، فأمر لكلِّ واحدٍ من الأصدقاء الثَّلاثة بألف دينار.

عندئذٍ دخل أبو عبد الله على زوجته وفي يده الدَّنانير الألف وقال في فرحٍ: "ما رأيك يا أمَّ عبد الله هل ضيَّعنا الله؟"، قالت المرأة: "لا واللهِ، ما ضيَّعنا، بل زادنا رزقاً!"، فقال الرَّجل: "عرفتِ الآن يا زوجتي أنَّ الإنفاق في سبيل الله تجارةٌ رابحةٌ لا تخسر أبداً؟!".

 

أحبتي في الله .. إنها (التجارة مع الله)؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾.

يقول أهل العلم إن الله تعالى ذكر في الآيات السابقة إن الذين يقرأون كتاب الله الذي أنزله على نبيه، وأقاموا الصلاة المفروضة في مواقيتها، وأنفقوا مما رزقهم الله في السر والعلن، وتصدقوا بما مَنّ عليهم من الأموال سراً وعلانيةً، وأدوا الزكاة المفروضة، وتطوعوا بالصدقة، فإن هؤلاء المؤمنين يرجون من وراء ذلك تجارةً رابحةً مع الله تعالى لن تبور، ولن تكسد ولن تهلك. وهذه الآية المباركة تعلمنا وترغبنا في عباداتٍ جليلةٍ، لتحقيق الفوز بهذه التجارة الرابحة، إنها (التجارة مع الله). وقد جاء في الآية لفظ «تجارة» مع وصفها بعدم البوار على سبيل الاستعارة التصريحية، فوصف أهلها بأنهم يرجونها، أي يتوقعون أرباحها. وتعتبر (التجارة مع الله) من أجَّل التجارات وأفضلها، وهي توصل إلى رضا الله، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه؛ فعبادة الله سبحانه وتعالى، واتباع أوامره وسُنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والبعد عما نهى عنه، تُعد من مقاصد الدين السليم للمؤمن؛ فسبحان الله الذي وهبَنا ما نتاجر به، ثم وفقنا إلى التجارة معه، وسبحان الله الذي يمنحنا أحسن الأجر مقابل التجارة معه، ويَزيدنا مِن فضله فوق أجورنا؛ فنعم (التجارة مع الله).

 

ويقولون إن من صور (التجارة مع الله)، المعاملة مع الناس، فلا تعاملهم لدنيا ولا لشهوةٍ، بل تعامِلهم لله وفي الله، فتعامُلك معهم حسب الشرع يجعلك تدخل في (التجارة مع الله)، ثم لا تسل عن الأرباح، ستجد أولاً الراحة النفسية فلا حزن على ما فات، ولا فرح بموجود، فالكل مِن الله وعلى مراد الله، ستجد نفسك تعفو عمن ظلمك؛ لأنك ترجو ما عند الله، وتصل من قطعك، لأنك ترجو ما عند الله، وتُعطي مَن حرمك لأنك ترجو ما عند الله، فهذه معاملةٌ وتجارةٌ مع الله، وسعادةٌ في الدنيا والآخرة، وهكذا كل مَن تعامل مع الله، فلا خسران عليه بل هو في ربحٍ دائمٍ، وعملٍ صالحٍ، وتوفيقٍ متواصلٍ، فهو في كنَف الله ورعايته. هذه هي الحياة الحقيقية التي يعيش فيها المسلم حياةً طيبةً، ولا يكون كالأنعام يأكل ويشرب وينكح بلا هدفٍ ولا نيةٍ، فالواجب على كل مكلفٍ أن يجعل له في كل عملٍ نيةً صالحةً، وأن يجلس مع نفسه جلسةَ محاسبةٍ، ويصلح نياتِ أعماله، ويجردها لله، ليكون من المتاجرين مع الله.

 

أحبتي .. ينصحنا أحد الصالحين فيقول: اتجر مع الله بمداومتك على ذِكره سبحانه وتعالى، فإن لك بكل تسبيحةٍ صدقةً، وبكل تحميدةٍ صدقةً، وبكل تكبيرةٍ صدقةً، وبكل تهليلةٍ صدقةً، وبكل كلمةٍ طيبةٍ صدقةً. اتجر مع الله بالتقرب إلى الله بالإحسان إلى خلق الله بأي أمرٍ يكون فيه الإحسان إلى الخلق، مهما قلّ، فإن في التسليم على الناس صدقةً، وإن في معاونتك للضعيف صدقةً، وإنك بأخذك بيد الأعمى ليجتاز الطريق صدقةً، وإن في كل معروفٍ صدقةً. لستَ تنفق على الله، وليس الله في حاجتك؛ ولكنك أنت المحتاج إليه سبحانه وتعالى، فاتجر مع الله تجد الخير بين يديك. فإذا خرجتَ تبتغي وجه الله، فتجارتك مع الله؛ يكتب لك بكل خطوةٍ إلى المسجد حسنةٌ، ويمحى لك بها سيئةً، ويرفع لك بها درجةً.

اللهم اجعلنا ممن يتاجرون معك تجارةً لا تبور، ولا تحرمنا ربنا عظيم ثوابك وأعلى الأجور، وتقبل منا إنك أنت سبحانك العزيز الحكيم، وأنت الرحيم الغفور.

 

https://tinyurl.com/y2bzdpkn