الجمعة، 10 نوفمبر 2023

الدعوة الصامتة

 خاطرة الجمعة /420

الجمعة 10 نوفمبر 2023م

(الدعوة الصامتة)

 

 

كتب لصديقه يقول: سأروي لكَ قصةً ماتعةً يا صديقي، فاسمع! منذ أربع سنواتٍ استقدمتُ عاملةً منزليةً من «إثيوبيا» اسمها «بورتيكان»، كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وعلى دين النصارى، ولما لاحظتُ فيها شيئاً من التَّدين قلتُ لها: "إن كنتِ تريدين الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد فأنا مستعدٌ أن أوصلكِ ثم أعود لاصطحابكِ بعد أن تنتهي من صلاتك"، فقالت لي: "لا، ولكن هل يمكن أن أصوم؟"، قلتُ لها: "بالطبع"، وطلبتُ من زوجتي أن تُعِدَّ لها طعاماً لائقاً بصائمٍ يُفطر في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، فهكذا هو صومهم! كانت طيبةً جداً، وكنا لها أهلاً؛ نُعاملها كأنها ابنتنا من لحمنا ودمنا، حتى أنها كانت تناديني "بابا"، وتنادي زوجتي "ماما"، وكان أولادي يُعاملونها كأنها أختهم؛ إذا ذهبنا إلى المطعم تجلس معنا على الطاولة كأنها ابنتي فعلاً، وإذا اشترينا ثياباً للأولاد اشترينا لها ثياباً بنفس السعر، حتى حينما كنتُ أعطي أولادي مصروفهم كنتُ أعطيها مثلهم! لم أُحدِّثها أن دينها خطأ، ولم أدعها إلى الإسلام حتى! وكنتُ كل يوم ٍأُعطي أولادي درساً من كتاب «رياض الصالحين» ولم أطلب منها ولو مرةً واحدةً أن تجلس معنا، ولكنها في الليل كانت تسأل ابنتي «فاطمة» عن ديننا؛ فقد كانت تنام مع البنات في غرفتهم.

مضى عامان والأمر كذلك، وفي العام الثالث، وقبل رمضان بأسبوعٍ، قالت لي: "بابا، أريد أن أقول لك شيئاً"، قلتُ لها: "تفضلي"، فقالت لي: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، وصامت معنا رمضان كله، وكانت تُصلي معنا التراويح في البيت؛ بحكم أننا كنا في الحجر الصحي بسبب أزمة «كورونا» والمساجد مغلقة. كانت تُحافظ على الصلاة بشكلٍ عجيبٍ، حتى أنها كانت تُذكِّر أولادي بها.

ثم انتهى وقت عملها عندنا وأرادت أن تُغادر إلى بلدها إلى غير رجعة، كنتُ أعرفُ أنها ستلقى هناك معارضةً شديدةً؛ فما تفعلُ فتاةٌ في مواجهة عائلةٍ كاملةٍ والأمر يتعلقُ بالدين؟! لهذا أعددتُها مسبقاً لهذه المواجهة! أخبرتها أن بر الأبوين، وصلة الرحم، لا يعنيان أن يُملي أحدهم علينا دينه، وأن كل إنسانٍ يموتُ وحده، ويُدفن وحده، ويُبعثُ وحده ويُحاسب وحده! وقصصتُ عليها قصصاً كثيرةً؛ عن مواجهة «إبراهيم» عليه السلام مع أبيه، وكيف أنه حافظ على البِّر ولم يتخلَّ عن دينه، وعن مواجهة «سعد بن أبي وقاص» مع أُمه التي أقسمت ألا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه فقال لها: "يا أماه لو أن لكِ مئة نفسٍ خرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني"، وعن «بلال» وندائه الخالد: "أحدٌ أحدٌ"، وعن «ماشطة ابنة فرعون» وجوابها الواثق: "ربي وربك الله"، وعن «صهيبٍ الرومي» وأنه "ربح البيعُ أبا يحيى!".

وحدث الذي توقعته؛ كانت هناك وحيدةً، ولكنها لم تكن ضعيفةً؛ شيءٌ من عزم «بلال»، وثقة «الماشطة»، وقوة «سعد»، وزُهد «صُهيب»، طلبوا منها أن تترك الإسلام فلم تقبل، حاولوا معها بكل الوسائل فثبتت، ولمّا فكروا أن يزوجوها علَّ هذا يكون حلاً لترجع عن دينها قالت لهم: "المسلمة لا تتزوج بغير المسلم!". كانت تُحدثني باستمرارٍ، وكنتُ أُثبتها وآمرها أن تبرَّ أهلها وتتمسك بدينها؛ فكانت عند حُسن ظني بها.

اتصلت بي اليوم وقالت: "بابا، عندما يبدأ رمضان أخبرني كي أصوم!". صدق من قال: "ما المرءُ إلا بقلبه!"؛ جاءتنا نصرانيةً اسمها «بورتيكان»، وعادت مسلمةً اسمها «نور». علمتنا أكثر مما علمناها؛ علمتنا أن الإيمان يصنعُ المعجزات!

 

أحبتي في الله.. إنها قصةٌ واقعيةٌ عن (الدعوة الصامتة) لدين الله؛ يقول تعالى مُبيناً أفضل سُبل الدعوة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، ويقول مُقدماً القول الحسن على الصلاة والزكاة: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، ويوضح عزَّ وجلَّ لنا أهمية المعاملة الطيبة؛ فيقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، ومؤكداً على ضرورة الالتزام بالعدل حتى مع ظلم الأعداء وتجاوزهم؛ يقول تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ويوصينا تبارك وتعالى بحُسن مصاحبة الوالديْن حتى ولو كانا مشركَيْن، وحتى لو جاهدانا للشرك به؛ يقول سبحانه: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، ومع المشركين أنفسهم بيَّن لنا سبيل التعامل معهم؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وتصل سماحة الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يأمرنا سبحانه وتعالى بالبر إلى الكفار والإقساط إليهم ما لم يقاتلونا أو يخرجونا من ديارنا؛ يقول تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾.

 

وما فعله راوي القصة هو مثالٌ واضحٌ لما يُسمى (الدعوة الصامتة)؛ فهو لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ يدعو بها الشغالة الإثيوبية لاعتناق الإسلام، لكنها شاهدت بأُم عينيها نموذجاً لأسرةٍ مسلمةٍ ملتزمةٍ متمسكةٍ بمبادئ دينها، معبرةٍ عنه في جميع تصرفاتها ومعاملاتها، فكانت معايشة الشغالة لهذه الأسرة سبباً مباشراً لاقتناعها بالإسلام ومن ثَمّ اعتناقه.

و(الدعوة الصامتة) تحدث نتيجةً لمواقف تتسم دائماً بالتلقائية وعدم التكلف، تحدث بغير تحضيرٍ مسبقٍ أو استعدادٍ خاص، لكنها كلها تشترك في أمرٍ واحدٍ هو: عدم النطق بكلمةٍ واحدةٍ للدعوة لدين الله، وإنما يكون ذلك بحُسن المعاملة والالتزام بالسلوكيات التي يأمرنا بها الإسلام.

ومن تلك المواقف ما يلي:

أستاذ رياضياتٍ ملحدٌ في مدينةٍ أمريكيةٍ، يسخَر من كل الأديان، رأى فتاةً مسلمةً محجبةً حجاباً كاملاً تُحضِّر رسالة دكتوراه في الرياضيات، تساءل بينه وبين نفسه: "البنات هنا عرايا في الصيف، فما الذي في ذهن هذه الفتاة لتتحجب؟ ماذا عندها من قناعاتٍ حتى ترتدي هذه الثياب الكاملة؟!". ثيابها فقط دعته إلى دراسة الإسلام فأسلم، وهو الآن أكبر داعيةٍ هناك.

 

رجلٌ ألمانيٌ أسلم، كان سبب إسلامه أن طالباً مسلماً من «سوريا» سكن في بيته، وعند هذا الرجل فتاةٌ جميلةٌ جداً، لم يرَ والد هذه الفتاة هذا الشاب ينظر إلى ابنته ولا لمرةٍ واحدةٍ؛ فكان غض الشاب لبصره سبباً في إسلام الرجل.

 

وشابٌ تزوج فتاةً غير مسلمةٍ، ثم أسلمت، أُم هذه الفتاة حينما رأت إحسان صهرها، ورحمته، وعنايته بها وقد قعدت في فراشها في أواخر عمرها، أسلمت دون أن تسمع منه كلمةً واحدةً عن الإسلام، تأثرت بحُسن معاملته.

 

و(الدعوة الصامتة) لا تفيد فقط مع الأجانب وتكون سبباً في اعتناقهم للإسلام، بل إنها -وبفضل الله- تُنبه بعض المسلمين الغافلين فيفيقوا ويعودوا إلى الطريق المستقيم، ومن ذلك الموقف التالي:

شابٌ يعمل في دائرةٍ، قدَّم لرئيسه طلب إجازةٍ ستة أيام، قال له المدير: "لا توجد إجازات"، قال الشاب: "لا أريد الإجازة لأنقطع عن العمل، وإنما أقدم الطلب لتُخصم هذه الأيام من رصيدي من الإجازات؛ فهي تعادل الوقت الذي كنتُ أصلي فيه صلاة الظهر خلال آخر ثلاثين يوماً في جامعٍ جانب الدائرة؛ حيث كنتُ أستغرق في كل مرةٍ ربع ساعةٍ، جمعتُ هذا الوقت كله فبلغ ستة أيام"، أبدى المدير اندهاشه، ثم سأله: "في أي جامعٍ كنتَ تُصلي؟"، أجابه الشاب. المفاجأة أن هذا المدير -الذي كان بعيداً عن الدين- صار ومن الأسبوع التالي من الملتزمين بصلاة الظهر يومياً في المسجد المذكور.

 

وليست (الدعوة الصامتة) حِكراً على العلماء والأئمة وحدهم أو خريجي كليات الشريعة وطلاب العلم الشرعي أو غيرهم ممن يعملون في مجال الدعوة؛ فهذا صاحب محل بقالةٍ دخل رجلٌ إلى محله وسأله: "أعندك بيضٌ طازج؟"، قال له: "الذي عندي جئتُ به قبل عدة أيامٍ، أما المحل المجاور لي فجاءه البيض الآن، اشترِ من جاري". مثل هذا البقَّال الأمين إن تكلم كلمةً في الدين يُسمع له.

 

يقول أهل العلم إنه كان من أسباب انتشار الإسلام المعاملة الحسنة التي يتميز بها المسلمون، الذين تربوا على تعاليم القرآن الكريم، وعلى سُنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث وصل الدين الإسلامي إلى مناطق كثيرةٍ، في الشرق والغرب؛ نتيجة المعاملة الحسنة، عن طريق التجار المسلمين، الذين كانوا دعاة خيرٍ وسلامٍ، كما يذكر لنا المؤرخون أن التجار كانوا هم الدُعاة، وما كانت التجارة لديهم إلا وسيلةً للسفر والاتصال بالناس؛ كي يدعوهم إلى عبادة الله، وكم من داعيةٍ صامتٍ دخل الناس في الإسلام بسببه؛ فالدعاة الصامتون أولئك الذين يدعون إلى الله عزَّ وجلَّ بأحوالهم، الذين تُبلِّغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسِيَرَهُم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم كانت ناطقةً بما يدعون إليه؛ بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أية كلمةٍ وأي بيان.

 

وها هو أحد الخبراء في (الدعوة الصامتة) يقول إن هناك سببين للتأثير فيمن حولك ـ بعد الاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه ـ وهما: اعتزازك بالإسلام والانتماء إليه ورفع الرأس به، والدعوة بالقدوة الحسنة؛ فاستقامتك الشخصية وتمسكك بالدين ظاهراً وباطناً من أعظم أسباب إقبال الناس عليه، واحرص على ألا تكون أفعالك ومعاملاتك مخالفةً لأقوالك.

 

وقيل عن (الدعوة الصامتة): "من وعظ أخاه بفعله كان هادياً". وقيل: "يُقدِّم الداعية الدعوة بالقدوة واللحظ، على الدعوة بالكلمة واللفظ". كما قيل: "يحرص الداعية على أن يدعو الناس بالصمت والسمت، قبل أن يدعوهم باللفظ والوعظ". وقيل أيضاً: "الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالأقوال". وقيل كذلك: "الناس يتعلمون بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم".

 

أحبتي.. الدعوة إلى الله واجبٌ شرعيٌ، وفرضٌ على كل مسلمٍ بحسب استطاعته وقدر علمه؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بلِّغوا عنِّي ولو آيةً]. ومن أهم أساليب الدعوة إلى دين الله (الدعوة الصامتة) التي هي في استطاعة كل واحدٍ منا؛ فمهما تفاوتت إمكاناتنا العلمية والثقافية، ومكاناتنا الاجتماعية، وقدراتنا المادية، ومستوياتنا الوظيفية، فما يزال بإمكان كل فردٍ منا أن يكون من المفلحين الذين يقول الله عنهم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، والذين بشَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالثواب الجاري والمستمر: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعَمِ]؛ فلنُحْسن أقوالنا، ونُحسِّن أخلاقنا، ونصدق في معاملاتنا، ونُخلص في أعمالنا، ونجعل القرآن هادينا ومرشدنا، ونتمسك بسُنة نبينا، ونكون خير سفراء لديننا الذي ارتضاه الله لنا، بسلوكنا وأفعالنا؛ فندعو إلى الهدى بكلامنا وصمتنا، وننوي بذلك أن نكون دعاةً لإسلامنا، حتى لو كانت (الدعوة الصامتة) هي سبيلنا.

يمكن لك أخي -بصدقك وأمانتك، باستقامتك وعفافك، بإتقان عملك، بحلمك وعفوك وصبرك- أن تكون أكبر داعيةٍ وأنت صامت؛ اجعل من يراك يتمنى أن يكون مثلك؛ اجعله يستشعر الإيمان في معاملاتك، ودعه يرى أثر العبادات في سلوكك، واحرص على أن يشاهد قيم الإسلام وأخلاق المسلم في أفعالك.

أعاننا الله، ووفقنا لخدمة دينه، وهدانا لأن يكون كل واحدٍ منا مثالاً كاملاً للمسلم الصالح، ونموذجاً طيباً يُحتذى به، وقدوةً حسنةً يُتأسى بها.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/47qXdGh