الجمعة، 16 نوفمبر 2018

نبع الحنان


الجمعة 16 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦١
(نبع الحنان)

قصةٌ أبكتني ترويها طبيبةٌ؛ كتبت تقول: دخلت عليّ في العيادة امرأةٌ في الستينات من عمرها بصحبة ابنها الثلاثيني، لاحظت حرصه الزائد عليها، يُمسك يدها ويُصلح لها عباءتها ويُقدم لها الأكل والماء. بعد سؤالي عن المشكلة الصحية، طلبت بعض الفحوصات، ثم سألت الابن عن حالة أمه العقلية؛ لأنّ تصرفاتها لم تكن متزنةً ولا ردودها على أسئلتي، فقال: إنها متخلفةٌ عقلياً منذ الولادة. تملكني الفضول فسألته: فمن يرعاها؟ قال: أنا. قلت: والنعم! ولكن من يهتم بنظافة ملابسها وبدنها؟ قال: أنا؛ أدخلها الحمّام وأحضر ملابسها وأنتظرها إلى أن تنتهي، وأصفف ملابسها في الدولاب، وأضع المتسخ من الملابس في سلة الغسيل، وأشتري لها ما تحتاجه من ملابس! قلت: ولِمَ لا تحضر لها خادمة؟! قال: لأن أمي مسكينةٌ مثل طفلٍ صغيرٍ؛ لا تشتكي، وأخاف أن تؤذيها الشغالة. اندهشت من كلامه، ومقدار برّه بأمه، وسألته: هل أنت متزوج؟ قال: نعم، الحمد لله، ولدي أطفال. قلت: إذن زوجتك ترعى أمك؟ قال: هي لا تقصر؛ فهي تطهو الطعام وتقدمه لها، وقد أحضرت لزوجتي خادمةً حتى تعينها، لكني أحرص على أن آكل مع أمي حتى أطمئن عليها فهي مصابةٌ بمرض السكر. زاد إعجابي، وأمسكت دموعي أمنعها من أن تنهمر! اختلست نظرةً إلى أظافر الأم فرأيتها قصيرةً ونظيفةً، سألته: من يعتني بأظافرها؟ قال: أنا! نظرت الأم لولدها وقالت: متى تشتري لي "الشيبسي"؟! قال لها: أبشري، نذهب الآن لمحل البقالة! طارت الأم من الفرح، وقالت: الآن .. الآن! التفت الابن وقال لي: واللهِ إني لأفرح لفرحتها أكثر من فرحتي بفرحة عيالي الصغار. تقول الطبيبة: تظاهرت بأني أكتب في الملف الطبي حتى لا يظهر مدى تأثري، ومع ذلك ربما فضحتني دمعةٌ سالت ساخنةً على خدي، أتمنى لو أنه لم يلحظها! سألتُه: هل لها غيرك من الأبناء؟ قال: أنا وحيدها؛ لأن الوالد طلقها بعد شهرٍ واحدٍ من الزواج. قلت: إذن ربّاك أبوك؟ قال: لا، بل جدتي لأمي هي التي كانت ترعاني وترعاها، كانت (نبع الحنان) لنا، وتُوفيت إلى رحمة الله وعمري عشر سنوات! قلت: هل رعتك أمك يوماً إذا مرضت أو تذكر أنها اهتمت بك أو فرحت لفرحك أو حزنت لحزنك؟ قال: أمي مسكينةٌ، أنا الذي أحمل همها وأخاف عليها وأرعاها منذ كان عمري عشر سنوات. تقول الطبيبة: كتبت الوصفة الطبية، وشرحت له كيف يعطيها الدواء. أمسك بيد أمّه وقال لها: الآن نذهب إلى محل البقالة. قالت له: لا، نذهب إلى مكّة! استغربت! سأل أمه: لماذا تريدين الذهاب إلى مكة؟ قالت: لأركب الطائرة! سألتُه: أتذهب بها حقاً إلى مكّة؟! قال: نعم. قلت: هي ليس عليها حرجٌ لو لم تعتمر؛ لماذا تذهب بها وتضيّق على نفسك؟ قال: ربما كانت الفرحة التي تفرحها لزيارة مكة أعظم أجراً عند رب العالمين من عُمرتي بدونها! خرجا من العيادة، فأقفلت بابها وقلت للممرضة: أحتاج لبعض الرّاحة. بكيت بشدة، وقلت في نفسي: هذا وهي لم تكن له أماً في يومٍ من الأيام؛ لم تكن (نبع الحنان) له، فقط حملت وولدت ولم تتحمل معاناة تربيته؛ لم تسهر الليالي، لم تُدَرِّسه، لم تتألم لألمه، لم تبكِ لبكائه، لم يجافيها النوم خوفاً عليه، لم.. ولم..! ومع ذلك تنال كل هذا البر؟! فهل نفعل نحن بأمهاتنا الصحيحات مثلما فعل هذا الرجل بأمه المتخلفة عقلياً؟!

تذكرتُ، وأنا أطالع ما كتبَته هذه الطبيبة، قصة رجلٍ من التابعين سماه النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه "خير التابعين"، وكيف كان بره بوالدته سبباً في استجابة الله سبحانه وتعالى لدعائه؛ قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يَأْتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ] {"أمداد": جمع مدد وهو ما كان يأتي من الأجناد مدداً لجيوش المسلمين. "مُراد": اسم قبيلة. "قرن": فخذٌ أو بطنٌ من قبيلة مُراد}، وفي روايةٍ: [إنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ]. وبعد أن تولى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، خلافة المسلمين، كان كلما أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: "أفيكم أويس بن عامر"؟، حتى أتى على أويس، فقال: "أنت أويس بن عامر"؟، قال: نعم، قال: "مِن مراد ثم مِن قرن"؟، قال: نعم، قال: "فكان بك برصٌ فبرأتَ منه إلا موضع درهم"؟، قال: نعم، قال: "لك والدةٌ"؟، قال: نعم، قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ..." وروى له الحديث، ثم طلب منه أن يستغفر له، فاستغفر له. فلما انتشر الخبر بين الناس اختفى عنهم أويس وذهب حتى لا يصيبه العُجب أو الثناء فيحبط عمله عند الله عزَّ وجلَّ. ما نال أويس هذه المنزلة؛ أنه لو أقسم على الله لأبره وأنه يستغفر لخليفة المسلمين، إلا ببره بوالدته.

في المقابل يقول أحدهم: كنت على شاطئ البحر، فرأيت امرأةً كبيرةً في السن جالسةً على الشاطئ، تجاوزت الساعة منتصف الليل، فاقتربت منها ومعي أسرتي، نزلت من سيارتي، توجهت إلى هذه المرأة، سألتها: مَنْ تنتظرين؟ قالت: انتظر ابني، ذهب وسيأتي بعد قليل. يقول الراوي: شككت في أمر هذه المرأة، وأصابني ريبٌ في بقائها في هذا المكان، وفي هذا الوقت المتأخر من الليل، ولا أظن أحداً سيأتي بعد هذا الوقت. انتظرت ساعةً كاملةً ولم يأتِ أحد. فذهبت لها مرةً أخرى فقالت: ولدي سيأتي الآن. يقول الراوي: نظرت فإذا بورقةٍ بجانب هذه المرأة؛ طلبتُ منها أن اقرأها. قالت: إن هذه الورقة وضعها ابني بجانبي وقال لي: إذا تأخرت عليك اعطِ هذه الورقة لأي شخص. يقول الراوي: قرأتُ الورقة، فإذا المكتوب فيها: "إلى من يجد هذه المرأة، الرجاء أخذها إلى دار العجزة".
عجباً لحال هؤلاء الأبناء، يعقون من؟ يعقون أمهاتهم؟! يعقون (نبع الحنان) الصافي المخلص في حياتهم؟! أما آن أن تستفيق هذه القلوب العاقة؟!

أحبتي .. يقول أهل العلم أن ديننا قد حثنا على الاهتمام بالوالدين والبر بهما، وإلى جانب ما تناله الأم من اهتمامٍ باعتبارها أحد الوالدين، فإن الشرع قد  أعطى للأم مكانةً خاصةً؛ فلا يعرف التاريخ ديناً ولا نظاماً كرَّم المرأة باعتبارها أماً وأعلى من مكانتها مثل الإسلام، لما للأم من شأنٍ جليلٍ وفضلٍ عظيمٍ ووظيفةٍ ساميةٍ ورسالةٍ خطيرةٍ؛ فهي المدرسة الأولى، والقدوة المباشرة، وهي للأسرة مثال القلب للجسم، وهي (نبع الحنان) لأبنائها. تتمثل رسالتها الخطيرة في رعاية الأطفال وتنشئة الأبناء تنشئةً صالحةً وتعويدهم على أحسن العادات والتقاليد. وهي شريكة الرجل في رعاية الأبناء ورعاية شئون بيتها وأسرتها. لقد أوجب الشرع الوصية بالأم، وجعل بِرها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أوكد من حق الأب، لما تتحمله من مشاق الحمل والوضع والإرضاع والتربية، وهذا ما يقرره القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى برَّ رسول الله عيسى عليه السلام بوالدته السيدة مريم، فقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام حينما تكلَّم في المهد صبياً: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾.
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم جلس إلى قبرٍ، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطِب، ثم بكى، فلما سُئل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: [هَذَا قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الاسْتِغْفَارِ لَهَا فَأَبَى عَلَيَّ، وَأَدْرَكَتْنِي رِقَّتُهَا فَبَكَيْتُ]، يتذكر رقة أمه وحنانها فيبكيها وهي التي لم تدرك الإسلام قبل موتها.
وحين سأل أحدهم النبي عليه الصلاة والسلام: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: [أُمّك]، قال: ثم من؟ قال: [أُمّك]، قال: ثم من؟ قال: [أُمّك]، قال: ثم من؟ قال: [أَبُوك].
وهذا ابن عمر رضي اللهُ عنهُما، شهدَ رجلاً يمانياً يطوفُ بالبيتِ، حَمَلَ أُمَهُ وراءَ ظَهرِهِ يَقُولُ: إني لها بعيِرُها المذَلَّلُ، إن أُذْعِرَتْ رِكَابُها لمْ أُذْعَرْ، اللهُ ربي ذُو الجلالِ الأكبرِ، حمْلتُها أكثرَ مما حَمَلتْنِي، فهل تُرى جازيتُها يا ابنَ عمر؟ قالَ ابنُ عمرَ: "لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ". والزفرة هي الطلقة الواحدة وقت الولادة.

أحبتي .. هذه هي الأم، وتلك هي مكانتها في الإسلام. إنها هي بحقٍ (نبع الحنان)؛ فعلى مَن تُوفيت أمه أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لها، ويدعو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم شفيعاً لها، وأن تكون من أهل الجنة. ومَن كانت أمه ما تزال على قيد الحياة فليدعُ الله سبحانه وتعالى أن يحفظها، وليبادر إلى الوفاء بحقوقها بحبه واحترامه وتقديره لها، والتعامل معها بكلّ لطفٍ ولينٍ، وتوفير جميع احتياجاتها ومتطلباتها، وطاعتها في غير معصيةٍ لله سبحانه وتعالى، وتجنّب مقاطعتها أو إيذائها أو القسوة في التعامل معها، أو الإساءة إليها أو جرح مشاعرها.

اللّهم اجعل الرحمة تملأ قلوبنا على أمهاتنا، وأعِّنا على البر بهن ورعايتهن والإحسان إليهن. وارحمهن سبحانك أحياءً وأمواتاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/iWgSRn