الجمعة، 8 يناير 2016

ويحسبها الجاهل صدفة!

8 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٣

(ويحسبها الجاهل صدفة!)

في سنوات الغربة كان يطيب لنا أن نستمع إلى قصص بعضنا، وكيف جرت مع كلٍ منا المقادير إلى أن وطئت قدماه أرضاً ليست أرضه وبلاداً بعيدة عن بلاده وبات في غربة عن وطنه ودياره وأحبابه.
وكان من أغرب ما سمعت قصة مغترب أمضى معظم عمره في قريته في صعيد مصر، أتم دراسته الجامعية في إحدى المدن القريبة من قريته، وبعد تخرجه عمل بتلك المدينة، وأقسم لنا أنه لم ير القاهرة في حياته إلا يوم سفره من مطارها إلى بلاد الغربة!
لكن كانت هناك قصة أخرى تستحق أن تُروى؛ شاب من سكان القاهرة، قرأ إعلاناً منشوراً في صحيفة لدولة عربية خليجية تطلب عدداً من المتخصصين في مجاله، فأرسل طلبه بالبريد وأرفق به صوراً عن أوراقه الثبوتية .. مرت أيام وأيام ولم يصله شيء حتى ظن أنه لن يحدث إلا كما حدث في مرتين سابقتين في إعلانين مشابهين .. إلى أن قرع قارع جرس بيته صباح أحد أيام شهر أغسطس من عام ١٩٧٤م، فتح الباب فإذا بساعي البريد يحمل في يده برقية لا يريد أن يسلمها له إلا بعد استلام حلاوة التبشير بخبر جيد؛ فهو يعلم يقيناً مصدر البرقية ويستطيع بخبرته أن يخمن مضمونها. تسلم صاحبنا البرقية وأسرع بفضها فوجد أنها مرسلة من سفارة دولة الإمارات بالقاهرة، فتهلل وجهه فرحاً، وبدأ في قراءة محتواها: "نخطركم بقبول طلبكم وتحدد لكم موعد المقابلة الشخصية بمقر السفارة بالزمالك في الساعة الرابعة من عصر يوم ٢٦ أغسطس" .. يا الله ! .. أخيراً اقترب موعد تحقق الحلم، حلم السفر والعمل بالخارج، ما أكرمك يا الله .. لم تبق سوى المقابلة الشخصية .. اللهم يسر أمرها .. متى الموعد؟ عصر يوم ٢٦؟! .. كم تاريخ اليوم؟ .. انتفض يبحث عن النتيجة؛ تجمد في مكانه وهو ينظر إليها .. تاريخ اليوم ٢٧ ! .. فرك عينيه مراراً وأعاد النظر .. ما يزال تاريخ ٢٧ هو ما يراه .. يا إلهي ! هل يعقل هذا؟ .. لا بأس؛ ربما انتزعت والدته صباح اليوم بالخطأ ورقتين من أوراق النتيجة بدلاً من ورقة واحدة، فهي الوحيدة معه في البيت في ذلك الصباح .. وهَمَّ أن يسألها فإذا بها تسأله من غرفة مجاورة: "من كان بالباب؟". روى لها ما حدث، وسألها عما إذا كانت قد نزعت ورقتين من النتيجة صباح اليوم، أجابت بالنفي. أُسقط في يده، وكان واقفاً فانهار على أقرب مقعد ممسكاً بكلتا يديه رأسه كي لا يقع! .. وسؤالٌ لا يريد أن يغادر عقله: "لِمَ يا رب تقربني من الحُلم إلى هذا الحد ثم أفيق على واقع كنت قد سلمت به وتعايشت معه؟".. أحست أمه بما يفكر فيه وأرادت أن تخفف عنه، فقالت له: "اذهب إلى السفارة واحكِ لهم الموقف، ستجد بإذن الله من يتفهم وضعك، وفقك الله وكتب لك الخير يا بني". ضاقت عليه نفسه، وأحس بغصة وشيء من المرارة لم يخفف منها سوى كلمات أمه بصوتها الدافئ الحنون ودعائها له. "كم أنت طيبة يا أمي؛ من ذا الذي يمكن أن يستمع لي في السفارة؟" هذا ما كان يفكر فيه، وكاد أن يرفض اقتراح والدته لكنه تراجع ووافقها، وفي نفسه أن في ذلك براً بها، فهو لم يتعود أن يرفض لها طلباً .. ثم ماذا سوف يخسر؟ .. لا شيء .. فلتكن نزهة يُسَرِّي بها عن نفسه.
توجه إلى السفارة عصراً .. فإذا بعدد كبير من الناس واقفين على بابها .. سأل أحدهم: "هل كل هؤلاء الناس متجمعون لمقابلات اليوم؟!"، رد عليه قائلاً: "هؤلاء لديهم مقابلات اليوم ومعهم من كانت مقابلاتهم بالأمس" .. سأل متلهفاً: "ماذا قلت؟ مقابلات الأمس؟!" رد عليه: "حضرنا أمس للمقابلة لكن الكهرباء كانت مقطوعة عن السفارة فطلبوا منا الحضور اليوم، وهذا هو سبب الازدحام الذي تراه" .. يكاد لا يصدق ما يسمعه! .. سأل مرة أخرى: "هل سجلتم أسماءكم أمس؟ هل سلمتم أوراقكم؟ هل اطلع أحد بالسفارة على برقيات استدعائكم؟" .. وكانت الإجابة هي التي يتمنى أن يسمعها: "لا .. لم يحدث شيء من هذا، فقط قيل لنا تعالوا غداً في نفس الموعد" .. يا الصدفة العجيبة! كاد يطير فرحاً، ولولا الحياء لقبَّل هذا الذي بشره بهذه البشرى .. شكر الله كثيراً، ودعى لأمه كما لم يدعُ لها من قبل، ودخل إلى السفارة بثقة وأجرى المقابلة الشخصية كما لو كان قد حضر بالأمس!
أحبتي في الله .. هل كانت تلك صدفة؟ أم هو قدر الله يسيره كما يشاء؟
لا شك أنها مقادير الله يصرفها كيف شاء يحسبها الجاهل صدفة، اقرأوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، واقرأوا: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.
ثم هل يا ترى تتغير مقادير الناس بالدعاء أو ببر الوالدين؟ نعم؛ يمكن تغيير القدر بأمور كالدعاء وبر الوالدين وأعمال البر وصلة الرحم، وأقواها في رد القدر الدعاء كما في الحديث؛ قال عليه صلى الله عليه وسلم: [لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ...].
اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، وقدره لنا، ورضنا به، ويسر لنا سبيل الوصول إليه .. واجعلنا اللهم من البررة بوالديهما أحياءً وأمواتاً ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.