الجمعة، 10 مايو 2024

حُب القرآن

 

خاطرة الجمعة /446

الجمعة 10 مايو 2024م

(حُب القرآن)

يقول راوي القصة: ذهبتُ إلى المسجد ذات يومٍ لأصلي العصر، صليتُ خلف الإمام، وعندما انتهت الصلاة ذهبتُ إلى ركنٍ في المسجد لأُردد أذكار المساء.. وضعتُ هاتفي أمامي وأخذتُ أقرأ منه، وقعت عيناي على طفلٍ في عُمر العشر سنواتٍ يدخل من باب المسجد ويتلفت يميناً ويساراً، ثم جاء إليّ وقال بصوتٍ يرتعد: "هل جاء الشيخ؟"، سألته: "أي شيخ؟"، ردّ: "الشيخ الذي يُحفِّظ الأطفال"، لم أكن أعلم أن هناك مُحفِّظاً هنا، فهمستُ له، وأنا أبتسم لأنزع الخوف الذي يسكن وجهه: "لا، لم يأتِ بعد، اجلس بجانبي"، جلس الطفل، وفتح مُصحفه وأخذ يُقلب في صفحاته، فهممتُ أن أسأله "في أي سورةٍ تحفظ یا فتی؟" فقطع ذلك صوته الذي كان يرتعد من الخوف وهو يقول: "یا عمي، هل لك أن تقرأ لي مرةً أو أكثر حتى أحفظ السورة جيداً؟ فوالدي يئس من قلة ترکیزي وضعف حيلتي.. ويشتكي دائماً من ذلك حتى أصبحتُ أستحي أن أطلب منه أن يُحفِّظني القرآن.. وعندما أذهب إلى شيخي وأُخطئ في التلاوة يغضب مني.. وأنا لا أجيد القراءة جيداً؛ فبعض الكلمات تشق عليّ"، ابتسمتُ للطفل وأخذتُ منه المصحف وهمستُ له: "اقترب یا حبيب عمك"، وبدأتُ أُرتل وهو يُرتل خلفي، وبعد ربع ساعةٍ طلبتُ منه أن يُسمِّع ذلك بمفرده فلم يستطع، تذكرتُ شيخي عندما قال لي ذات يومٍ: "إذا وجدتَ صعوبةً في الحفظ فافهم الآيات أولاً ثم حاول الحفظ ثانيةً؛ فحفظ الآيات بمثابة قفلٍ لبابٍ ضخمٍ يفصل بينك وبين الجنة حاول فتح هذا القفل بأي مفتاحٍ على قدر استطاعتك وسيُفتح الباب". نظرتُ إلى الطفل ثانيةً وهو يضغط على إصبعه من الخجل فتبسمتُ وهمستُ له: "دعك من الحفظ یا فتی، هل تعرف ماذا تعني هذه الآيات وماذا يقصد بها الله سُبحانه وتعالى؟".

وأخذتُ أشرح للفتى الآيات حتى انتهيتُ من الشرح ورددتُ السورة مرتين وهو يُردد خلفي، ثم طلبتُ منه أن يقولها بمفرده؛ فقال بعض الآيات، وعندما يشق عليه قول آيةٍ أو لا يتذكرها يبتسم ويقول لي: "هل أُخبرك بمعناها؟"، وبعد عدة محاولاتٍ حفظ الطفل السورة، كحفظه سورة الإخلاص! حضر الشيخ وجاء الأطفال فاستأذن الطفل مني ليذهب إليه، فقلتُ له: "يا فتى هل أُخبرك بشيءٍ تضعه نُصب عينيك؟"، ابتسم وقال: "أجل"، أمسكتُ يده وقبلتها ثم قلتُ: "سيأتي يومٌ يُقال لك: يا فلان هلم.. فتذهب، فتسمع ضجيج حفظة القرآن، ويُطلب منك أن تُرتل، والله وملائكته يستمعون إليك.. ألا تشتاق لتُرتل أمام الله ويقول لك رتِل وارتقِ؟"، ثم ربتُّ على كتفه وهمستُ له بعباراتٍ وددتُ لو قالها أحدٌ لي في صغري: "أنت الآن تُعَدّ وتُجهَز لتُرتل أمام الله عزَّ وجلَّ؛ فلا تمل ولا تكل ولا تيأس ولا تشتكِ من ضعف حيلتك.. ستكبر وتكون حاملاً لكتاب الله، وستكون مُميزاً في الدنيا عندما تكون إماماً للناس.. يرتعد صوتك خشوعاً أثناء تلاوتك.. وستجد نفسك في الآخرة مُميزاً ومُكرّماً أمام السَفرة الكرام البررة، فالله يُكرم أهل القرآن، وما أحب الله أحداً كحُبه لأهل القرآن؛ فالقرآن كلامه.. والله لن يُعذب بالنار لساناً تلا القرآن، ولا قلباً وعاه، ولا أُذناً سمعته، ولا عيناً نظرت إلى آياته.. هنيئاً لك زهرة شبابك التي نشأت في ظل آيات الله"، وقبلتُ رأسه ثم قلتُ له: "الآن اذهب إلى شيخك ورتِل وكأنك تُرتل في ظل عرش الرحمن والله يستمع إليك.. أنا أثق أنك تستطيع". ذهب الطفل إلى شيخه. وكنتُ أراه كل يومٍ وأُحفِّظه في المسجد حتى يأتي شيخه، وبعد شهرين ودعته لأنني انتقلتُ إلى سكنٍ آخر، ولم أره منذ ذلك اليوم، وعلمتُ بعدها أن شيخه أيضاً انتقل ليُحفِّظ في مسجدٍ آخر. وبعد سبع سنواتٍ خرجتُ من عملي وركبتُ السيارة فوقف السائق أمام مسجدٍ لنُصلي المغرب.. دخلتُ المسجد وذهبتُ لأصلي فرأيتُ شاباً وجهه كقطعةٍ من القمر يُردد: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ.. كانت ملامح الشاب ملامح أعرفها جيداً لكنني لا أتذكر أين رأيته.. كان صوته كصوت الكروان، لو كُنا خارج الصلاة لطلبتُ منه أن يُكثِر في التلاوة لأسمعه؛ فتلاوته كانت بمثابة الدواء لقلبي، فاكتفيتُ أن أدعو له في سجودي وقلت: اللهم زِدهُ. انتهت الصلاة وجلستُ لأُردد أذكار ما بعد الصلاة فإذا بالشاب يجلس أمامي ويُقبِّل رأسي ويقول: أشهد لك يوم القيامة أمام الله أنك كنتَ سبباً لما أنا عليه الآن.. فهممتُ أن أقول له مَن أنت یا فتی؟! فقطع ذلك صوته وهو يبتسم من شدة الفرحة ويقول: یا عمي، هل لك أن تقرأ لي مرةً أو أكثر حتى أحفظ السورة جیداً؟ فوالدي يئس من قلة تركيزي وضعف حيلتي.. وابتسم وعيناه تذرفان الدمع، ثم قال: هل تذكرتني الآن! ثم قام واحتضنني، وقال: لقد ختمتُ القرآن وأخذتُ الإجازة والآن أصبحتُ أنا المُحفِّظ.. هنيئاً لك يا عمي تاج الكرامة.. عاملتني بحُبٍ، واحتضنتَ قلبي بلطف قلبك، وجعلتَ القرآن أحب الأشياء إليّ دون أن تشعر بذلك، كنتُ آتي إليك ضعيفاً فتُرمم ضعف حيلتي.. فهنيئاً لك الجنان بأجر ما حفظتُ وأجر مَن أُحفِّظ.. يا عمي.. شكراً لأنك وثقتَ بي عندما أقرَّ الجميع بأنني لا أستطيع".

وقبَّل الشاب رأسي وذهب إلى الأطفال ليُحفّظهم.

 

أحبتي في الله.. لا أدري من كان منهم أكثر حُباً للقرآن الكريم: هذا الفتى الصغير الحريص على حفظ كتاب الله، أم والديه اللذان وجَّهاه إلى ذلك الطريق، أم راوي القصة الذي لم يبخل على الفتى الصغير بجهده ووقته وعِلمه، أم مُحفِّظ الفتى الذي جدَّ واجتهد حتى صار الفتى الصغير بعد سنواتٍ قليلةٍ حافظاً للقرآن الكريم، مُجوِّداً له، مُعلماً ومُحفِّظاً لغيره؟

الذي يبدو لي جلياً من هذه القصة أن من خطا خطوةً واحدةً في سبيل التقرب إلى الله سُبحانه وتعالى يسَّر الله له أمره كله، وجعل كل صعبٍ أمامه سهلاً، وسخّر له من يُعينه ويُساعده، فما بالنا بمن تملك (حُب القرآن) شِغاف قلبه، فوجَّه جوارحه كلها نحو هدفٍ عظيمٍ هو حفظ كتاب الله؛ ألا يكون هو الأولى بكل هذا التيسير الرباني وكل تلك الإعانة الإلهية؟

 

عن (حُب القرآن) قال أهل العلم إن القرآن الكريم كلامُ الله تعالى، أنزله على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم وحياً، نُقِلَ إلينا بالتواتر، وكُتِبَ في المصاحف، وتَعَبَّدَنا اللهُ بتلاوته، وأَعْجَزَ خلقَهُ ولو بسورةٍ منه. ولما كان القرآنُ الكريم كلامَ الله؛ فمحبتُهُ أصلٌ من أصول الإيمان، وسببٌ من أسباب محبة الرحمن، اختار الله سُبحانه وتعالى صفوةَ خلقِهِ ليرثوا القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، ولن يكون ذلك إلا من خلال (حُب القرآن).

في هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من أحبَّ أن يحبَّهُ الله ورسولُهُ فلينظر: فإن كان يحبُّ القرآنَ، فهو يحبُّ اللهَ ورسولَه]. وحَفَظَة كتاب الله هُم الصفوة، وهُم أهل القرآن؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِن النَّاسِ]، قالوا: يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ؟ قال: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ]. وأهل القرآن هُم أصحاب المنازل العالية الرفيعة عند الله، يرتفعون بقدْرِ ما يحفظون، فيكونون مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئكَ رَفِيقاً؛ يقول تعالى في وصف منازلهم وحليهم وزينتهم ومقامهم: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾.

وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ]، وقَالَ عليه الصلاة والسلام: [يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ]؛ فيُحَلَّوْنَ بتاج الوقارِ، ويُكسى آباؤهم الحُلل، ويرتقون في درجات الجنة. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ، فَتَعَلَّمُوا مِن مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ، وَلا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ...]. وعندما سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قال: [الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ]، قِيلَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: [صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ، وَمِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ، كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ]. وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من إهمال المسلم وتقصيره في حفظ شيءٍ من القرآن ليتلوه في صلاته، ويُناجي به مولاه، فقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِن الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ].

 

وعن (حُب القرآن) قال الشاعر:

أَكْرِمْ بقومٍ أَكْرَمُوا القُرآنا

وَهَبُوا لَهُ الأرواحَ والأَبْدَانا

قومٌ قد اختارَ الإلهُ قلوبَهُمْ

لِتَصِيرَ مِنْ غَرْسِ الهُدى بُسْتَانا

زُرِعَتْ حُروفُ النورِ بينَ شِفَاهِهِمْ

فَتَضَوَّعَتْ مِسْكاً يَفِيضُ بَيَانَا

رَفَعُوا كِتابَ اللهِ فوقَ رُؤوسِهِمْ

لِيَكُونَ نُوراً في الظلامِ فَكَانا

وقال آخر:

فالله يسّرَ حفظَ كتابه

وأعدّ للتّالين حُسنَ منالِ

قد فاز مَن جعل الكتابَ قرينه

ودليله أبداً إلى الأفضالِ

 

أحبتي.. ليسأل كل واحدٍ منا نفسه: إلى أي مدى أُحب القرآن؟ هل لي وردٌ يوميٌ منه؟ هل أشتاق إليه فأُقبل عليه بلهفة؟ هل أحرص على إجادة تلاوته؟ هل أقرأ تفسيره؟ هل أعمل على فهمه وتدبر معانيه؟ هل أسعى إلى حفظه؟ هل ألتزم بأحكامه؟ هل أتجنب نواهيه؟ هل آخذ بيد أقرب الناس إليّ: زوجتي وأبنائي، ليكون القرآن الكريم حبيبهم وصاحبهم ورفيقهم؟

إذا كانت الإجابة بنعم عن هذه الأسئلة أو معظمها فأنت في نعمةٍ حافظ عليها وزِد منها، ولو كانت الإجابة العكس؛ فتدارك أمرك، وأصلِح شأنك، لا تندم على ما فاتك، بل اعقد العزم على تصحيح مسارك وتعديل أولوياتك والإحسان إلى نفسك بأن ترعى بذرة (حُب القرآن) التي في نفسك وتتعهدها كي تنمو وتُزهر وتُثمر.. وتأكد بأنك ما زلتَ في سعةٍ من أمرك ما لم تُسوِّف أو تؤجل أو تتكاسل. لا تُعطي للشيطان فرصةً ليُثنيك عن هدفك.. توكل على الله تجده خير مُعين.

اللهم اجعلنا ممن أحب كتابك، واهتم بتلاوته، واجتهد في حفظه، وسعى إلى فهم معانيه وتدبر أحكامه، والعمل بما ورد فيه. اللهم اجعل القرآن الكريم خُلُقنا، وقائدنا ومُرشدنا، ونبراساً يُضيء لنا طريقنا، واجعله اللهم منهج حياتنا في الدنيا، وشفيعاً لنا في الآخرة.

https://bit.ly/4aak7m5