الجمعة، 25 أغسطس 2017

أيام العشر

الجمعة 25 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٨
(أيام العشر)

لسنواتٍ عديدةٍ كنا نجلس يومياً بالمسجد بعد صلاة الفجر في "مجلس علم" نستمع إلى درسٍ قصيرٍ يشرح فيه إمامنا، جزاه الله خيراً، بعض ما ورد بالآيات الكريمة التي صلى بها. بمرور الزمن تحول "مجلس العلم" إلى "موقف علم" حيث نقف خارج المسجد نتدارس ما صلينا به من آياتٍ كريمة. ثم تطور "موقف العلم" فأصبح "ممشى علم" جمعنا فيه بين حُسْنَيَيْن: تحصيل العلم، والحفاظ على الصحة واللياقة بالمشي وبتنفس الهواء النقي الذي لم يتلوث بعد بأنفاس المنافقين!
في أحد "مماشي" العلم هذه، وكانت (أيام العشر) الأولى لشهر ذي الحجة قد اقتربت ونستعد لاستقبالها باعتبارها أفضل أيام الدنيا، عرض كل واحدٍ منا ما يعتزم الالتزام به من أعمال الخير التي يتضاعف ثوابها خلال هذه الأيام المباركة، وتوصلنا إلى نتيجةٍ طيبةٍ ألا وهي إعطاء الأولوية للأعمال التي يستفيد منها غيرنا كما نستفيد نحن منها، فقدمنا الصدقات والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم القرآن وما شابه ذلك، على الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن، فهذه الأخيرة تعود فائدتها علينا نحن فقط أما تلك فإلى جانب أن لنا فيها ثواباً بإذن الله فإن غيرنا يستفيد منها فنكون قد ضربنا عصفورين، أو ربما عدداً من العصافير، بحجرٍ واحد.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم عن (أيام العشر) أنه من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمر عليه مروراً عابراً. ومن هذه المواسم الفاضلة عشر ذي الحجة، وهي أيامٌ شهد لها الرسول بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها؛ بل إن الله تعالى أقسم بها، وهذا وحده يكفيها شرفاً وفضلاً. وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد فيها، ويكثر من الأعمال الصالحة، وأن يحسن استقبالها واغتنامها.
من فضائل عشر ذي الحجة أنّ الله تعالى أقسم بها؛ فإذا أقسم الله بشيءٍ دلّ هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: "هو الصحيح". وهي الأيام المعلومات التي شرع الله فيها ذكره؛ قال الله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا؛ فعنه أنه قال: [أفضل أيام الدنيا أيام العشر] ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: [ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجلٌ عفر وجهه بالتراب]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ]، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ].
وفيها يوم عرفة وهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صوم هذا اليوم فقال: [صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ]. وفيها يوم النحر وهو أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرِّ].
وفيها اجتماع أمهات العبادة، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتّى ذلك في غيرها.

ويقول أهل العلم أن من الأعمال المستحبة في (أيام العشر) أداء مناسك الحج والعمرة؛ وهما أفضل ما يُعمل في عشر ذي الحجة، ومن يسّر الله له حج بيته أو أداء العمرة على الوجه المطلوب فجزاؤه الجنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنة]. ومن الأعمال المستحبة، بل هو من أفضلها، الصيام؛ فقد أضافه الله إلى نفسه لعظم شأنه وعلو قدره، فقال سبحانه في الحديث القدسي: {كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به}. وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية، وبيّن فضل صيامه فقال: [صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده]. وعليه فيُسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة. ومن الأعمال المستحبة الصلاة، وهي من أجَّل الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً، ولهذا يجب على المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وعليه أن يكثر من النوافل في هذه الأيام، فإنها من أفضل القربات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه: {وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه}. ومنها التكبير والتحميد والتهليل والذكر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد]. ويُستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به. ومن الأعمال المستحبة الصدقة؛ حث الله عليها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وهناك أعمالٌ أخرى يُستحب الإكثار منها في هذه الأيام منها: تلاوة القرآن وتعلمه، الاستغفار، بر الوالدين، صلة الأرحام والأقارب، إفشاء السلام وإطعام الطعام، الإصلاح بين الناس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حفظ اللسان والفرج، الإحسان إلى الجيران، إكرام الضيف، الإنفاق في سبيل الله، إماطة الأذى عن الطريق، كفالة الأيتام، زيارة المرضى، قضاء حوائج الناس، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الرفق بالضعفاء، الدعاء للآخرين بظهر الغيب، أداء الأمانات والوفاء بالعهد، إغاثة الملهوف، غض البصر، إسباغ الوضوء، الدعاء بين الأذان والإقامة، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، الذهاب إلى المساجد والمحافظة على صلاة الجماعة، المحافظة على السنن الراتبة، ذكر الله عقب الصلوات، إدخال السرور على المسلمين، والتعاون مع المسلمين في كل ما فيه خير.
ومن لم يستطع أن يعمل شيئاً من هذه الأعمال الصالحة والمستحبة، فعلى الأقل عليه ألا يظلم نفسه بفعل السيئات والمنكرات؛ قال أحد الصالحين: ليتذكر كلٌ منا أن أيام العشر تقع في شهر ذي الحجة، وهو أحد الأشهر الأربعة الحرم؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ]؛ ألا فاحذروا أحبتي أشدَّ الحذر أن تظلموا أنفسكم في هذه الأيام المباركة (أيام العشر) وفي هذا الشهر الحرام بالسيئات والخطايا، والبدع والضلالات، والظلم والعدوان، والغِش والكذب، والغيبة والبهتان والنميمة، والحسد والغِلِّ والحقد، والفجور في الخصومة، والسَّب واللعن والقذف، فهي كلها من ظلم الإنسان لنفسه، وهو ما نهانا عنه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ فإن الظلم محرمٌ في كل وقت وهو أشد تحريماً وأعظم خطيئةً ووزراً في الأشهر الحرم، فما بالنا إن كانت، والعياذ بالله، في أحب أيام الدنيا؟.
قال الشاعر عن (أيام العشر):
ألا يا باغي الخيرات أقْبِل
إلى ذي الحجَّة الشهر الحرام
به العشر الأوائل حين هلت
أحــب الـلـــه خـــيـــراً للأنام
بها النفحات من فيضٍ ونورٍ
وعــــــــــرفاتٍ فَشَمِّرْ للصيام
بها النحر الذي قد قال فيه
إلــــــــــه العرش ذكراً للأنام
بها الميلاد يبدأ من جديدٍ
إذا ما القلب طُهر من سقام
وبالحسنات فرج كل ذنب
إذا شئت الوصول إلى المرام
ألا يا باغيَ الخيرات أقبل
فــــــــإن الشهر شهرٌ للكرام
إذا استهواك شيطانٌ فأدبر
ولا تركنْ إلى الفعل الحرام

أحبتي ... إن لربكم في أيام دهركم نفحات،
و(أيام العشر) من مواسم الخير التي ينبغي على المسلم أن يتعرض فيها لنفحات رحمة الله عز وجل.
إلى من فاتهم أن تُعتق رقابهم من النار في رمضان فعادوا من بعدها تائهين، ومن لذات الطاعات محرومين، ما زالت أمامكم فرصٌ أدركوها؛ فأبواب المغفرة واسعةٌ والأمل في الفوز يتجدد.
فلنحرص على مواسم الخير فإنها سريعة الانقضاء، ولنقدم لأنفسنا عملاً صالحاً نجد ثوابه وقت أن نكون في أشد الحاجة إليه؛
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، التي إن مرت لا ندري هل يمتد أجلنا لنشهدها في أعوامٍ مقبلةٍ أم لا؟
هذه أيام العفو والمغفرة، أيام العتق من النيران، إنها فرصةٌ عظيمةٌ غاليةٌ من ربٍ غفورٍ ودودٍ حليمٍ عظيمٍ، هذه أيام القيام والصيام وذكر الرحمن والصدقات والدعوة إلى الله، والسعيد من اغتنمها.
جعلنا الله وإياكم من المحبين لله عز وجل، ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/fzQAk7