الجمعة، 6 يناير 2017

ربك رب قلوب

الجمعة 6 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٥
(ربك رب قلوب)

حينما سألته بود: "لماذا لا تنتظم في صلاتك؟"، أجاب شاب من شباب العائلة قريب من قلبي ويرتاح إليّ: "أود ذلك لكن ظروف عملي لا تسمح"، قلت له: "تجري وراء الرزق وتنسى الرازق"، رد وهو يشعر بالخجل: "تعلم أني أخرج من البيت قبل شروق الشمس ولا أعود إلا مع مغيبها"، قلت: "هذا أدعى لأن أراك تصلي الفجر معنا في المسجد"، حاول أن يبرر موقفه بضيق الوقت، وتحضير الأبناء للمدرسة وتجهيز حقائبهم وإعداد فطورهم وغير ذلك من المبررات، سألته: "وهل يضمن لك ذلك أن تسير كل أمورك بانتظام؟"، سكت برهة فأضفت: "بصلاتك الفجر تكون في ذمة الله، أي في حماية الله وفي عهد الله وفي ضمان الله عز وجل، يسهل لك أمورك كلها، ويسخر لك جنوداً لا تعلمها؛ فينعم عليك بالسكينة والشعور بالرضا والراحة النفسية وتيسير الأعمال وحل المشاكل وإبعاد الشر والأذى وتحقيق الآمال والتوفيق والنجاح وغير ذلك من نِعمٍ لا تعلمها، الله وحده يقدرها لك"، وأنهيت كلامي معه قائلاً: "تشعر بثقة هائلة أثناء يومك إذا كنت مصلياً للصبح؛ تشعر بثبات أمام المحن وأمام المصاعب، أنت في حماية مالك الملك وخالق الأكوان، ماذا تريد أكثر من ذلك؟! وهكذا باقي الصلوات، تشعرك بأنك في معية الله سبحانه وتعالى؛ ومن يكن مع الله يكن الله معه فهو حسبه، إذا أخلصت النية لله أدهشك بعطائه". قال وهو يهم بالانصراف: "ربك رب قلوب، ادعُ الله أن يهديني".

أحبتي في الله .. تلك هي المشكلة .. عبارة (ربك رب قلوب) عبارةُ حقٍ يُقصد بها باطل في بعض الأحيان، عبارةٌ صحيحة يُراد بها التخفف من العبادات والتكاليف الشرعية وعلى رأسها الصلاة. إنها من تلبيس إبليس يوحي بها لنفوس الناس ليخدرهم بها، يعلم من يقولها، غالباً، أنه مقصر .. يكون ضمير الشخص في البداية حاضراً بقوة فإذا استمع لصوت ضميره استطاع أن يتغلب على تأثير هذه العبارة في نفسه، وإلا بدأت مقاومته تخف بالتدريج فيقع ضحيةً للأثر المخدر لهذه العبارة، ثم يصل به الأمر في نهاية المطاف إلى الاقتناع الكامل بها حتى أنه لا يترك مشاهدة مباراة رياضية إذا حان وقت الصلاة فإذا تعجب أحد من هذا السلوك تكون عبارة (ربك رب قلوب) جاهزة على لسانه!
الأمر إذن يبدأ بإقناع الشخص لنفسه بأن الأنسب لظروفه ألا يصلي مع جماعة المسلمين في المسجد فيصلي في بيته، ثم بعد أن يعتاد ذلك يبدأ في مرحلة أخرى هي تأخير صلاته في بيته عن موعدها فيصليها في آخر وقتها، ثم وفي مرحلة تالية يبدأ في تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها فيصليها قضاءً، وقد يقوم بالجمع بين فرضين دون مقتضى من الشرع، ليصل في النهاية إلى إهمال صلاة بعض الفروض بالكامل خاصةً صلاتي الفجر والعصر، فإذا تحرك ضميره وحدثته نفسه اللوامة في ذلك تكون عبارة (ربك رب قلوب) هي البلسم الشافي، من وجهة نظره، لما تسببه له نفسه اللوامة من آلام!
صحيحٌ أن الله سبحانه وتعالى رب قلوب، لكنه في ذات الوقت هو الإله الواحد الأحد الذي لا إله غيره المستحق للعبادة دون سواه، هو الله الذي خلقنا وأنعم علينا بكثير من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، ثم إنا جميعاً إليه راجعون واقفون بين يديه مسئولون .. هو الله الذي شرع لنا عبادته بالكيفية التي يريدها والتي بينها لنا رسوله الأمين. فهل نكتفي بأننا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن قلوبنا سليمة وأخلاقنا رفيعة، وأن معاملاتنا مع غيرنا طيبة، ونترك العبادة؟
الإسلام دين متكامل الأركان: عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات، لا يكمل إسلام أيٍ منا إلا بتوافر جميع هذه الأركان؛ فالعبادات إذن ركن أصيل من أركان الإسلام.
والعبادة لغةً هي التذلل، وهي الطاعة مع الخضوع. أما شرعاً فهي ما يجمع كمال الخضوع والمحبة، والخشية لله تعالى.
يقول ابن تيمية: "والعبادة: أصلٌ معناها الذل. يقال طريق معبد، إذا كان مذللاً، قد وطئته الأقدام. والعبادة المأمور بها المسلم تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له". ويقول ابن القيم: "العبادة: تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته، ولم تكن خاضعاً له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً".
ويرى أهل العلم أن مفهوم العبادة شاملٌ ومعناها واسع، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة، فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وحسن العشرة، والأخوة في الله، والصدق في الحديث، والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق، وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية تُعد من العبادات. لكن ذلك كله لا يغني أبداً عن أداء ما نحن مأمورون بأدائه كالصلاة والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه سبيلاً؛ فلا معنى للتحلل من هذه العبادات والتعلل بالقول (ربك رب قلوب)!
ومن بين كل العبادات فإن للصلاة كعبادة منزلةٌ خاصة، أنقل لكم أحبتي ما يبين هذه المنزلة الكبيرة التي تحظى بها الصلاة في الإسلام، منزلةٌ لا تصل إليها أية عبادة أخرى، يدل على ذلك أنها عماد الدين الذي لا يقوم إلا به؛ ففي الحديث الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذروة سنامه؟] قلت: بلى يا رسول الله، قال: [رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد ..]. كما أن منزلة الصلاة تأتي بعد الشهادتين لتكون دليلاً على صحة الاعتقاد وسلامته، وبرهاناً على صدق ما وقر في القلب، وتصديقاً له؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحجِّ البيت، وصوم رمضان]. وإقام الصلاة: أداؤها كاملة بأقوالها وأفعالها في أوقاتها المعينة، كما جاء في القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ أي ذات وقت محدد.
وللصلاة مكانةٌ خاصة من بين سائر العبادات لمكان فرضيتها؛ فلم ينزل بها ملكٌ إلى الأرض، ولكن شاء الله أن ينعم على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالعروج إلى السماء وخاطبه ربه بفرضية الصلاة مباشرةً، وهذا شيءٌ اختصت به الصلاة من بين سائر العبادات. فقد فرضت الصلاة ليلة المعراج قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. وفرضت خمسين صلاة ثم حصل التخفيف في عددها إلى خمس، وبقي ثواب الخمسين في الخمس، وهذا دليل على محبة الله لها وعظيم منزلتها.
كذلك فإن الصلاة يمحو الله بها الخطايا؛ فقد رُوى عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لأصحابه: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟]، قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: [فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا].
والصلاة هي آخر ما يُفقد من الدين، فإن ضاعت ضاع الدين كله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر].
لذا ينبغي للمسلم أن يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، وألا يتكاسل أو يسهو عنها، قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾، وتوعدَّ الله تعالى من ضيَّع الصلاة، فقال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، يقول ابن كثير عن هذه الآية: "وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد - وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غياً، أي: خساراً يوم القيامة". وقيل: غياً أي شراً، وقيل: هو وادٍ في جهنم.
ومن المعلوم أن الصلاة أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ].
يقول ابن القيم: "للعبد أمام ربه وقفتان: الأولى في الصلاة، والثانية يوم القيامة، وبقدر إحسانه للوقفة الأولى، تكون نجاته في الوقفة الثانية".
‏ويقول الحسن البصري: "يا بن آدم وماذا يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟".

فهل بعد ذلك نترك الصلاة ونتكاسل عن أدائها ثم نقول (ربك رب قلوب)!

أحبتي .. قيل عن الصلاة: مجلبةٌ للرزق، حافظةٌ للصحة، دافعةٌ للأذى، طاردةٌ للأدواء، مقويةٌ للقلب، مبيضةٌ للوجه، مفرحةٌ للنفس، مذهبةٌ للكسل، منشطةٌ للجوارح، ممدةٌ للقوى، شارحةٌ للصدر، مغذيةٌ للروح، منورةٌ للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدةٌ من الشيطان، مقربةٌ من الرحمن.
وقيل: لا تترك صلاتك أبداً فهناك الملايين تحت القبور يتمنون لو تعود بهم الحياة ليسجدوا ولو سجدة واحدة.
وقيل: الأقدام التي لا تقودك إلى الصلاة لن تقودك إلي الجنة.
وقيل: إذا أعطيت الصلاة المكانة الأولى في حياتك، كل الأمور الباقية ستأخذ أماكنها الصحيحة تلقائياً.
كما قيل: لا يحافظ أحدٌ على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين.
جعلنا الله وإياكم من مقيمي الصلاة على وجهها الأكمل ورزقنا الخشوع فيها، وأنعم علينا بألا نكون من الغافلين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وهب لنا قلوباً لا تتكاسل عن الصلاة ولا تؤخرها، فما أعذب السكينة التي تسكبها الصلاة في نفوسنا!

أما آن الأوان أحبتي لكل من يترك الصلاة ويتكاسل عنها ويقول: (ربك رب قلوب)، أن يقول بدلاً من ذلك: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾، أو يقول: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚرَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾؟

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/Bkh0Y9