الجمعة، 28 يونيو 2019

ثق بربك ذي اللطف الخفي


الجمعة 28 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٣
(ثق بربك ذي اللطف الخفي)

تعطلت إحدى السفن التجارية وهي في البحر من كثرة الحمل الذي فيها فأصبحت مهددةً بالغرق، فاقترح ربانها أن يتم رمي بعض المتاع والبضاعة في البحر ليخفف الحمل عن السفينة؛ فأجمع ركابها - وكان جميعهم تجاراً -  على أن يتم رمي كامل بضاعة أحدهم بحجة أنها كثيرة، فاعترض التاجر على أن تُرمى بضاعته هو وحده، واقترح أن يُرمىَ قسمٌ من بضاعة كل تاجرٍ بالتساوي حتى تتوزع الخسارة على الكل ولا تصيب شخصاً واحداً فقط؛ فثار عليه باقي التجار، ولأنه كان تاجراً جديداً ومستضعفاً تآمروا عليه ورموه في البحر هو وبضاعته وأكملوا طريق سفرهم! أخذت الأمواج تتلاعب بالتاجر، وهو موقنٌ بالغرق وخائفٌ حتى أُغمي عليه، وعندما أفاق وجد أن الأمواج ألقت به على شاطئ جزيرةٍ مجهولةٍ ومهجورةٍ. ما كاد التاجر يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه حتى جثا على ركبتيه رافعاً يديه نحو السماء متضرعاً إلى الله طالباً منه المعونة والمساعدة، سائلاً الله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم. مرت عدة أيامٍ كان التاجر يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، ويشرب من جدول مياهٍ قريبٍ، وينام في كوخ ٍصغيرٍ بناه من أعواد الشجر ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار. وذات يومٍ وبينما كان يطهو طعامه هبت ريحٌ قويةٌ حملت معها بعض أعواد الخشب المشتعلة، وفي غفلةٍ منه اشتعل كوخه، حاول إطفاء النار لكنه لم يستطع فقد التهمت النار الكوخ كله بما فيه. أخذ التاجر يصرخ: "لماذا يا رب؟ لقد رُميتُ في البحر ظلماً وخسرتُ بضاعتي؟ والآن حتى هذا الكوخ الذي يؤويني احترق و لم يتبقَ لي شيءٌ في هذه الدنيا، وأنا غريبٌ في هذا المكان. لماذا يا ربِ كل هذه المصائب تأتي عليّ؟". نام ليلته وهو جائعٌ وحزين، لكن في الصباح كانت هناك مفاجأةٌ بانتظاره، إذ وجد سفينةً تقترب من الجزيرة، ويُنزل قبطانها قارباً صغيراً لإنقاذه. وعندما صعد التاجر على سطح السفينة لم يصدق عينيه - من شدة الفرح - وسأل القبطان كيف وجدوه؟ وكيف عرفوا مكانه؟ فأجابه: "لقد رأينا دخاناً فعرفنا أن شخصاً ما يطلب النجدة فجئنا لإنقاذه"، وعندما أخبر القبطانَ بقصته وكيف أنه رُميَ هو وبضاعته من سفينة التجار ظلماً أخبره القبطان بأن سفينة التجار قد أغار عليها القراصنة وقتلوا كل من كان فيها وسلبوا بضاعتهم؛ فسجد التاجر يبكي ويقول: "الحمد لله يا رب، أمرك كله خير".
سبحان الحكيم الذي أنجاه من القتل واختار له الخير. سبحان مدبر الأمور كلها من حيث لا ندري، ومن حيث لا نعلم.
إذا ساءت ظروفك فلا تخف؛ (ثق بربك ذي اللطف الخفي).



ويُحكى أن أرملةً كانت تعيش مع أبنائها الصغار وحيدةً في منزلٍ بسيطٍ آيلٍ للسقوط في إحدى القرى، لم يكن لديها مُعينٌ ولا مساعدٌ سوى الله عزَّ وجلَّ، وهو خير معين. كانت تهتم بأبنائها وتقدم لهم الرعاية والحنان والأمان والعطف، وكانت مؤمنةً صابرةً راضيةً بقضاء الله وقدره. ذات يومٍ شتويٍ شديد البرودة، وحينما حل الليل والأطفال نيامٌ، اشتدت الرياح وزادت الأمطار وكاد المنزل أن يسقط وينهار، ظلت الأم مستيقظةً طوال الليل خوفاً على أطفالها الصغار الذين اختبأوا في أحضانها للاحتماء من البرد القارس، في هذه اللحظة قامت الأم وأحضرت ورقةً صغيرةً كتبت فيها بعض الكلمات ثم وضعتَها في شق الحائط وأخفتها عن أنظار الأطفال. كان طفلها الأكبر مستيقظاً يراقب ما تفعله أمه دون أن تدري، فرآها وهي تضع شيئاً ما في شق الحائط. مرت السنوات وتغير حال الأسرة؛ كبر الأطفال وأصبحوا رجالاً أشداء أتقياء، وتركوا بيتهم القديم في القرية وانتقلوا إلى منزلٍ كبيرٍ في المدينة، تُوفيت بعد ذلك أمهم، وبعد انتهاء أيام العزاء، اجتمع الأبناء وأخذ كلٌ منهم يحكي ذكرياته الرائعة مع أمه الحنون، فجأةً تذكر أخوهم الأكبر أن أمه كانت قد وضعت شيئاً ما ذات ليلةٍ في شقٍ بحائط منزلهم القديم، أخبر إخوته بالأمر، وعلى الفور ذهبوا جميعاً إلى القرية باحثين عن الشيء الذي أخفته أمهم، نظر الابن إلى الحائط، والتقط الحجر الذي يغلق فتحة الشق، عندها وجد ورقةً بداخل الشق، سحبها فإذا بالمنزل يهتز بقوةٍ، خاف الأبناء أن يسقط البيت عليهم فخرجوا منه مسرعين، وبالفعل سقط المنزل بعد دقائق معدودة. حل الصمت بين الإخوة، ثم تحول إلى دهشةٍ وتعجبٍ علا وجوه الجميع حين فتح أحد الإخوة الورقة وقرأ ما بها بصوتٍ مرتفعٍ، لم تكن الورقة تحتوي إلا على بضع كلماتٍ بسيطةٍ هي: "اصمد بإذن رَبِك"!
ما أعظم تلك العبارة، وما أروع تلك المرأة، وما أصدق إيمانها. بكى الأبناء بحرارةٍ على أمهم التقية التي كانت شديدة الثقة بالله عزَّ وجلَّ وبلطفه الخفي.

أحبتي في الله .. يبين العلماء أن الثقة بالله سبحانه وتعالى تظهر واضحةً جليةً في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حَسبَكَ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ﴾. إن الثقة بالله تكون باليقين الكامل بأنه هو وحده سبحانه وتعالى القادر على تفريج المحن والكربات، فالحياة مليئةٌ بالهموم والمشاكل التي لا يعلمها إلّا الله جلَّ في علاه، فإن صفت الحياة يوماً كدرت أياماً وتنغصت، وإن أضحكتنا الحياة ساعةً فإنها تبكينا أياماً، وهكذا فالحياة متقلبةٌ، ولا تدوم على حالٍ واحدٍ، وكلنا يعلم أن هذه البلايا لا يزيلها إلّا الله، ولذلك فالمسلم على ثقةٍ دائمةٍ بربه أنه لا بد من أن يأتي يومٌ تنتهي فيه كل الكروب والمشاكل، وتُفرج الهموم بعد الضيق والشدة. كما أن الثقة بالله تكون من خلال قطع التعلق بالعباد، فهم لا يملكون لأنفسهم، ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً. والثقة بالله في كل الأوقات تُظهر حقيقة اليقين بالله عزَّ وجلَّ في أحلك المواقف وأشدها، وكذلك في أكثر المواقف ضيقاً واجتماعاً للكربات والمحن والبلايا؛ وهذا ينبع من كون المسلم على أملٍ ورجاءٍ كبيرٍ بربه، فهو على يقينٍ دائمٍ بأن الخير فيما يختاره الله له، ولو كان هذا الخير خافياً عليه أو حتى لو كان يرى فيه شراً له، وهو يقول لنفسه ولمن حوله في كل موقف شدةٍ أو كرب: (ثق بربك ذي اللطف الخفي).

وهذه ثقة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بالله سبحانه وتعالى حين أُلقي في النار فقال: "حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وحين ترك أهله بوادٍ غير ذي زرعٍ، وحين أمره الله بذبح ابنه إسماعيل.
وهذه أم سيدنا موسى - عليه السلام -لولا كمال ثقتها بالله ما ألقت برضيعها وفلذة كبدها في اليم.
وهذا نبي الله موسى - عليه السلام - عاش حياته كلها واثقاً بالله؛ حتى عندما فرَّ ومن معه من المؤمنين، وتبعهم فرعون وجنوده، وتَراءَى الجمعان ﴿قالَ أَصحابُ موسى إِنّا لَمُدرَكونَ﴾، رد عليهم واثقاً بالله قائلاً: ﴿كَلّا إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهدينِ﴾.
وهذه ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله، عندما خاف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أن يُصاب النبي بأذىً وهما في الغار؛ فرد عليه بلسان الواثق بالله: ﴿لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾.
وهذه ثقة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بالله حين قال لهم النّاسُ إِنَّ النّاسَ قد جمعوا لكُم فاخشوهم ﴿فَزادَهُم إيمانًا وَقالوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكيلُ﴾.

عن الثقة بالله يقول الشاعر:
للهِ في الخلقِ ما اختارت مشيئتُهُ
ما الخيرُ إلا الذي اختارهُ اللهُ
إذا قضى اللهُ فاستسلم لقدرتِه
ما لامريءٍ حيلةٌ فيما قَضىَ اللهُ
تجري الأمورُ بأسبابٍ لها عِلَلٌ
تجري الأمورُ على ما قَدَّرَ اللهُ
إنَّ الأمورَ وإنْ ضاقت لها فرَجٌ
كم مِن أمورٍ شِدادٍ فَرَّج اللهُ
إذا اُبتليتَ فثقْ باللهِ وارضَ به
إنَّ الذي يكشفُ البلوىَ هو اللهُ
يا صاحبَ الْهَمِ إنَّ الْهَمَ مُنفَرجٌ
أبشر بخيرٍ فإنَّ الفاتحَ اللهُ
واللهِ مَالَكَ غيرُ اللهِ مِن أحَدٍ
ولا يُصيبُك إلا ما قَضَىَ اللهُ
الْيأْسُ يقطعُ أحياناً بصاحبِه
لا تيْأَسَنَ فإن الصانعَ اللهُ
اللهُ لي عُدةٌ في كلِ نائبةٍ
أقولُ في كُل حَالٍ: حسبيَ اللهُ
ثُم الصلاةُ على المُختارِ ما تُليَتْ
في مُحْكَم الذِكْرِ قدْماً "قُل هُو اللهُ"
والآلُ والصحْبُ ما طَابت حياتُهُمُ
ثُم اسْتقَامُواْ فقالوا: رَبُنا اللهُ

أحبتي .. إنها الثقة بالله بغير حدودٍ؛ يقول أحد العارفين بالله أنه قد يظن البعض منا بشيءٍ شراً فإذا هو خيرٌ، لقصر النظر وعدم معرفة الغيب: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾، وقال تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وهذه سُنة الله التي لا تجد لها تبديلاً ولا تجد لها تغييراً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ لذلك أخي المسلم (ثق بربك وبلطفه الخفي)، وقوِ صلتك به، واعتمد عليه وتوكل عليه، واطلب منه القوة والمدد؛ فهو سبحانه وتعالى مالك القوة جميعاً، وهو الذي يمنح أسبابها من يشاء، ولا يجري في الكون إلا ما يريد، ولا يجري شيءٌ ولا يقع إلا لحكمةٍ يريدها سبحانه.

اللهم اهدنا، وقوِ إيماننا، واجعلنا نثق فيك وفي حكمتك أكثر من ثقتنا في أنفسنا، ودبر لنا أحوالنا، واكتب لنا الخير حيثما كان، وقَدِّره لنا، ورضِّنا به، وارزقنا القناعة به، وحُسن شكرك عليه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2X4fqow