الجمعة، 14 أبريل 2017

حق تلاوته

الجمعة 14 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٧٩
(حق تلاوته)

اتصل بي من يومين يسأل عني، ثم حكى لي موقفاً طريفاً حدث له؛ قال: "قرأت عنوان خاطرتك يوم الجمعة الماضي  {المشاؤون في الظُلَم} دون أن أنتبه إلى التشكيل؛ ففهمت من العنوان أن الخاطرة سيكون محورها {الظُلْم} بمعنى ظُلْم الإنسان لنفسه ولغيره، فإذا بي أفاجَئ بعد عدة أسطر بالمعنى المقصود من {الظُلَم} أنه جمع ظُلْمة أي الظلمات، واكتشفت أن الفرق يكمن في تشكيل الكلمة"، قلت له مصححاً: "بل تشكيل حرفٍ واحدٍ فقط منها!"، قال: "معك حق، لقد التبس علي معنى الكلمة حينما لم أنتبه للفرق بين الفتحة والسكون على حرف الظاء". أردفت قائلاً: "عنوان الخاطرة مستوحى من قول النبي عليه الصلاة والسلام: [بشر المشائين في الظُلْم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة]".
 قبل ذلك بحوالي شهرين كنتُ قد قابلت جاراً لنا، سرنا سوياً لصلاة العصر، وقبل أن ندلف إلى مسجد {رحمة الله} الذي تعودنا أن نصلي فيه، إذا به يخبرني أنه سيصلي في مسجد {البر الرحيم}، وهو مسجدٌ مجاورٌ لمسجدنا. لكن ما لفت انتباهي هو نُطقه للفظ {البر} بكسر الباء وليس بفتحها كما ينبغي أن ينطق! رغم أن {البَر} من أسماء الله الحسنى، ورغم أنه ورد في إحدى آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾.

أحبتي في الله .. هل لتشكيل الحروف في لغتنا العربية الجميلة أهميةٌ إلى هذه الدرجة؟ سؤال يجيب عنه البعض بأن أهمية التشكيل تبدو محدودة وأن الأمر شكليٌ يتعلق بالمظهر أكثر منه بالمضمون والجوهر، ويرى آخرون، وأنا منهم، أن حركات تشكيل الحروف ما وُجدت إلا لضبط الكلمات نُطقاً ومعنىً، وأنها تساعدنا على أن نتلو القرآن الكريم (حق تلاوته) وأن الإخلال بتشكيل الحروف يمكن أن يؤثر على المعنى بشكلٍ كبير. ومن أشهر الأمثلة التي تُساق للدلالة على ذلك الآية الكريمة في القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، بضبط آخر لفظ الجلالة {اللَّهَ} بالفتحة وآخر كلمة {الْعُلَمَاءُ} بالضمة؛ فيكون المعنى أن العلماء هم أكثر عباد الله خشيةً منه، ولو بدلنا الفتحة مكان الضمة والضمة مكان الفتحة لانعكس معنى الآية تماماً وانقلب مضمونها وجوهرها.
وعلى ذكر القرآن الكريم، يقول علماؤنا الأفاضل أن القرآن الكريم كتاب الله وكلامه أنزله على نبينا محمدٍ وكان من أهم معجزاته صلى الله عليه وسلم، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه الكريم من التحريف والتبديل ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وعن تلاوة القرآن قال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾، وقال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
والكتاب المأمورون نحن المسلمين بتلاوته هو القرآن الكريم كتاب الله العزيز وكلامه نزل بدون تغيير أو تبديل أو تحريف سواءً في لفظه أو معناه، لذا يجب علينا الحرص كل الحرص على قراءة القرآن بالطريقة الصحيحة وأن نوفيه (حق تلاوته) بمراعاة تشكيل كلماته والتي إن تغيرت بسبب خطأٍ في النطق لأدت إلى تبديلٍ في المعنى أو في الحكم الشرعي الذي جاء به النَص القرآني.
ومن أمثلة بعض الآيات التي إن لم يتم نطقها بالشكل الصحيح وعدم مراعاة تشكيلها فإنها تؤدي إلى تغييرٍ في المعنى والحكم الشرعي:
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ بنصب {إِبْرَاهِيمَ} ورفع {رَبُّهُ}، فيكون المعنى أن الله قد ابتلى إبراهيم بما أمره من التكاليف والأوامر فأتمهن أي أداهن حق التأدية. أما لو قام أحدنا بقراءة تلك الآية برفع {إِبْرَاهِيمُ} ونصب {رَبَّهُ} فإنه سوف يغير معنى الآية الكريمة تماماً ويعكس مفهومها الصحيح إلى معنىً آخر غير جائز.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾، فقد جاءت كلمة {وَأَرْجُلَكُمْ} منصوبةً لتدل على أنها معطوفةٌ على {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} ولو كانت معطوفةً على {بِرُءُوسِكُمْ} لجاءت مثلها مجرورةً بالكسرة، وبهذا تم الاستدلال على أن الصحيح في الوضوء هو غسل الرجلين وليس المسح، فإذا قمنا بقراءة الآية الكريمة بجر كلمة {وَأَرْجُلِكُمْ} فإن الحكم الشرعي في طريقة الوضوء سيتغير إلى العكس تماماً من الغسل للرجلين إلى المسح عليهما.
وهكذا كثيرٌ من الآيات، وكثيرٌ من كلمات القرآن الكريم، لها قراءةٌ خاصةٌ على غير ما تعود الناس عليه، فإذا لم ندقق في قراءتها فإن قراءتنا تكون غير صحيحة.
ولتشكيل حروف القرآن الكريم قصةٌ أنقلها عن أهل العلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تنزل عليه الآية يأمر أحد كتابه فيكتبها في موضع كذا من سورة كذا، ولم يكن في ذلك الوقت نقطٌ ولا شكلٌ للحروف. ثم بدأ جمع القرآن على يد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد استشهاد سبعين من حفاظ القرآن الكريم في معركة اليمامة، وكان ذلك بنقل القرآن وكتابته في مصحفٍ واحدٍ مرتب الآيات. ثم جُمع القرآن مرةً أخرى في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك بنسخ عدة نسخ من المصحف الذي جُمع في عهد أبي بكر لترسل إلى البلاد الإسلامية، بسبب اتساع الفتوحات الإسلامية واختلاف القراء في قراءة القرآن من بلد إلى آخر. إلى أن جاء الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وقت انتشر فيه الإسلام وكثر تابعوه من العجم وغيرهم وتفشى اللحن في لغة العرب، وكثر الخطأ في القرآن الكريم، فسمع أبو الأسود الدؤلي، التابعي الجليل، يوماً قارئاً يقرأ قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ فقال {ورسولِه} بكسر اللام بدلاً من {وَرَسُولُهُ} بضم اللام، فإذا بأعرابيٍ يقول: "إذا كان الله بريئاً من المشركين ومن رسولِه فأنا أبرأ منهم كذلك"، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: "عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله"، حيث أدرك أبو الأسود هول الخطأ وما أدى إليه من فهمٍ خاطئٍ تماماً يصل إلى حد الكفر لمجرد الخطأ في نطق حرفٍ واحدٍ فقط، فقال للأمير زياد بن أبيه، وكان والياً على البصرة (45-53هـ)، أعطني كاتباً فطناً، فأتى به، فقال له أبو الأسود: "إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فضع نقطةً أعلاه، وإذا رأيتني قد ضممت فمي فانقط نقطةً بين يدي الحرف، وإن كسرت فانقط نقطةً تحت الحرف، فإذا أتبعت شيئاً من ذلك غُنَّةً فاجعل مكان النقطة نقطتين"، فكان أبو الأسود هو أول من نقط حروف المصحف، تلك النقاط التي اُصطلح على تسميتها {نقاط الشكل} أي التشكيل الموصل إلى ضبط نطق الحروف القرآنية كما أنزلها الله على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
وحين تفشت العُجمة، وكثر التصحيف أمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق {75-95هـ} أن يضع علاجاً لها، فاختار كلاً من نصر بن عاصم، ويحيى بن يَعْمَر لهذه المهمة فقاما بوضع {نقاط الإعجام} التي حددت الفروق بين الحروف العربية المتشابهة كحروف الباء والتاء والثاء والياء، والجيم والحاء والخاء، والراء والزاي، والسين والشين، والعين والغين، والفاء والقاف، ونحوها مما يتفق في الرسم ويختلف في النطق. فأصبح هناك نوعان من النقاط. في بادئ الأمر كان نساخ المصاحف يلجأون إلى التمييز بين هذين النوعين من النقاط بإفراد كل نوع منهما بلونٍ خاص به، إلى أن أتى إمام اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي بفكرةٍ عبقريةٍ وضعت حداً فاصلاً بين نقاط الشكل ونقاط الإعجام، فأبقى على نقاط الإعجام كما هي، وغيَّر نظام نقاط الشكل واستبدل بها علامات الضبط {الفتحة، الضمة، الكسرة، والسكون}؛ فجعل الفتحة ألفاً صغيرةً مضطجعةً فوق الحرف، والكسرة ياءً صغيرةً تحته، والضمة واواً صغيرةً فوقه. وإن كان الحرف منوّناً كرر الحرف، وجعل ما فيه إدغامٌ من السكون الشديد رأس شينٍ بغير نقط {سـ}، وما ليس فيه إدغامٌ من السكون الخفيف رأس خاءٍ بلا نقط {حـ} والهمزة رأس عينٍ {عـ}، وفوق ألف الوصل رأس صادٍ {صـ}، وللمد الواجب ميماً صغيرةً مع جزءٍ من الدال {مد}.
وما زالت هذه العلامات هي المعتمدة والمستخدمة في المصاحف حتى الآن، وهي التي رَصَّعت حروف المصحف بما زاده وضوحاً، فكان ما وُضع على حروف المصحف الشريف من نقاطٍ وتشكيلٍ بمثابة علاماتٍ هاديةٍ، وأنوارٍ كاشفةٍ يستضئ بها كل قارئ للقرآن إلى يوم القيامة، فهي تحمي القارئ من اللحن، وتقي المصحف شبهة التحريف. إنه وعد الله تعالى بحفظ كتابه الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.

أحبتي .. لتشكيل كلمات القرآن الكريم فائدةٌ عظيمةٌ؛ فالقراءة الصحيحة لآياته الكريمة نتعرف من خلالها على المعنى الصحيح لكلام الله عز وجل فنتفهمه ونتدبره ونعمل به ونكسب ثواب أننا نتلوه (حق تلاوته). البعض منا يقرأ القرآن الكريم كما يقرأ كتاباً عادياً أو جريدةً أو مجلة، والصحيح أن على المسلم أن يقرأ القرآن ويتلوه كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾. قال عبدالله بن مسعود في تفسير هذه الآية: "والذي نفسي بيده إن (حق تلاوته) أن يُحِل حلالَه، ويُحَرِمَ حرامَه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يُحرفَ الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله".
أحبتي .. في عصرٍ تطورت فيه التقنيات، أصبح من السهل تنزيل نسخةٍ كاملةٍ من المصحف الكريم على جهاز الحاسب الآلي أو على الهاتف المحمول وتنزيل ملف صوت، فيكون من المفيد جداً الجمع بين قراءة القرآن الكريم والاستماع له في آنٍ واحد. أصارحكم القول أحبتي أنني عندما اتبعت هذه الطريقة منذ حوالي سنة اكتشفت أني كنت أخطئ في التلاوة الصحيحة لكثيرٍ من ألفاظ القرآن الكريم. إنها تجربةٌ شخصيةٌ استفدت منها فصححت لنفسي الكثير من أخطاء التلاوة، بل وصرتُ أتقن بالتدريج أحكام التجويد من غُنةٍ وإدغامٍ وتفخيمٍ وترقيقٍ ومُدودٍ وقلقلةٍ وغيرها كما ينبغي أن تكون، وكم ندمت على ما فاتني من عمر كنت أتلو فيه القرآن بشكلٍ غير صحيح، وما فوَّتُه على نفسي من أجرٍ وثواب.
أتمنى منكم أحبتي الاستفادة من هذه التجربة وألا تضيعوا على أنفسكم أجر وثواب تلاوة كتاب الله عز وجل (حق تلاوته)، وأن تُجنبوا أنفسكم الإحساس بالندم الذي أحسست به.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/4HCFxD