الجمعة، 18 سبتمبر 2020

المظاهر قد تكون خادعة

                                                                الجمعة 18 سبتمبر 2020م


خاطرة الجمعة /257

(المظاهر قد تكون خادعة)

 

هذه قصةٌ حقيقيةٌ كتبها صديقٌ عزيزٌ يرسل لي يومياً بترويقةٍ صباحيةٍ بنكهةٍ سعوديةٍ تحث على التفاؤل، كتب يقول: عشتُ أحداث هذه القصة بنفسي؛ يومها كنتُ أراجع إحدى مستشفيات «جدة»، وبينما أنا أدفع رسوم الفحوصات، أتى رجلٌ في الأربعين من العمر وهو في حالةٍ يُرثى لها من الهم والحزن والعجز، يقول لموظف الاستقبال: "زوجتي تتوجع من ألم المخاض"، فقال له: "ادفع خمسة آلاف ريال مقدماً تحت الحساب"؛ فظل زوج المريضة يتوسل للموظف ليعفيه من ذلك، لكن دون جدوى. حاولتُ المساعدة والشفاعة قدر استطاعتي، إلا أن موظف الاستقبال لم يستجب لجميع محاولاتي، وقال بحزم: "لابد من دفع هذا المبلغ قبل الدخول؛ هذا نظام المستشفى". ومع سماعي توجع المريضة وتوسلات زوجها، أدخلتُ يدي في جيبي وأخرجتُ بطاقة الصراف الآلي لعلي أجد فيها بعضاً من المال لمساعدة الرجل، لكن للأسف الشديد لم يكن فيها إلا ألف وسبعمائة ريال فقط، وأبىَ الموظف إلا أن يُدفع المبلغ كاملاً، قلتُ له: "سأتكفل بباقي المبلغ، فقط أدخل المرأة المريضة"، لكنه أصر على الرفض. وبينما أنا وزوج المريضة نتوسل موظف الاستقبال لإدخال الزوجة المريضة، دخل علينا فجأةً شابٌ "كول" كما يسمونه، صاحب قَصة شَعرٍ عجيبةٍ، يلبس بنطال "برمودا" وحذاءً من غير شراب، لم ألمح عليه أية علامةٍ من علامات الصلاح، فيما كنتُ أظن حينها، قال الشاب: "ما الخطب"؟! شرح له الموظف الموضوع، بدون تردد أخرج الشاب بطاقة الصراف الآلي وقال للموظف: "اخصم الخمسة آلاف ريال، وأدخل المرأة فوراً"، تملكتنا جميعاً حالةٌ من الذهول، لم نَفُق منها إلا ونحن نشاهد ذلك الشاب يغادرنا ويذهب في حال سبيله دون أن يتفوه بكلمةٍ!

ذهب الشاب، ولم يذهب لَوْمي لنفسي لسوء ظني به، وتفكيري السلبي تجاهه، فقط لأني تسرعتُ وحكمتُ عليه من مظهره، ظللتُ أستغفر الله وأتوب إليه لما ظننته فيه.

 

أحبتي في الله .. (المظاهر قد تكون خادعة) ولا تعبر عن الحقيقة، وذكرني هذا بالقصة المشهورة لإنشاء واحدةٍ من أفضل الجامعات في العالم، جامعة «ستانفورد»، حين دخلت سيّدةٌ ترتدي لباساً رمادياًَ باهتاً تمشي إلى جانب زوجها الذي يرتدي بزةً مهترئةً، وتوجها إلى مكتب رئيس جامعة «هارفرد» طالبين مقابلته، نظر السكرتير إلى مظهرهما وأراد أن يُثنيهما عن طلبهما فأجابهما بأن رئيس الجامعة سيكون مشغولاً طوال اليوم، قالت الزوجة: "سننتظر حتى يفرغ من شؤونه"، حاول السكرتير أن يتجاهل الزوجين، على أمل أن ييأسا من طلبهما ويرحلا، لكن ذلك لم يحدث؛ فقرر أخيراً أن يخبر رئيس الجامعة بوجودهما، لعلهما ينصرفان بعد أن يقابلاه، خرج الرئيس بوجهٍ وقورٍ عابسٍ يتبختر أمام الزوجين، بدأت الزوجة بالتحدث أمامه: "كان لنا ابنٌ يدرس في جامعة «هارفرد» لمدة عامٍ كاملٍ، لقد أحب الدراسة هنا، وكان سعيداً للغاية، لكن منذ نحو عامٍ قُتل بحادثٍ، نود أنا وزوجي أن نقيم له نُصُباً تذكارياً في الحرم الجامعي"، لم يتأثر الرئيس على الإطلاق، وقال للزّوجة: "سيدتي، لا نستطيع إقامة نُصُبٍ تذكاريٍّ لكل طالبٍ درس في «هارفرد» وتُوفي، إن قُمنا بذلك، فسيبدو هذا المكان كالمقبرة"، قالت السيدة: "لم يكن هذا ما أردنا، نحن نريد إقامة مبنى بالجامعة"، ذُهل الرئيس مما سمع، ألقى نظرةً على هندام السيدة وزوجها، وتعجب: "مبنى! هل لديكما أدنى فكرةٍ عما قد يكلفكما بناء مبنىً كاملٍ وتجهيزه في جامعتنا؟ إن بناء مبنى هذه الجامعة كلفنا سبعةً ونصف مليون دولار!"، للحظةٍ ساد الصّمت، شعر الرّئيس حينها بنوعٍ من الفخر والغرور، فقد آن لهما بعد أن أخبرهما بذلك أن ينصرفا. استدارت السيدة إلى زوجها وقالت بصوتٍ خافتٍ: "هل هذا فقط ما يُكلف إقامة مبنى جامعة؟! لِمَ إذاً لا نقيم جامعةً خاصةً تخليداً لابننا؟"، أومأ الزوج برأسه موافقاً، فنهضا وخرجا من المكان، ثم سافرا إلى «كاليفورنيا» حيث أقاما جامعةً تحمل اسمهما، جامعة «ستانفورد»، تخليداً لذكرى رحيل ابنهما الذي لم تهتم جامعة «هارفارد» لذكراه، وأصبحت هذه الجامعة الشهيرة تحتل مراكز متقدمةً جداً في ترتيب الجامعات حول العالم.

 

ولأنّ (المظاهر قد تكون خادعة) فقد نهانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم عن الحكم على الناس بظاهرهم؛ فقد مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: [مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟]، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟]، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا].

يقول أحد العلماء شارحاً هذا الحديث: إن الله سبحانه وتعالى ليس ينظر إلى الشرف، والجاه، والنسب، والمال، والصورة، واللباس، والمركوب، والمسكون، وإنما ينظر إلى القلب والعمل، فإذا صلح القلب فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، وأناب إلى الله، وصار ذاكراً لله تعالى، خائفاً منه، مخبتاً إليه، عاملاً بما يرضيه، فهذا هو الكريم عند الله، وهذا هو الوجيه عنده، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره؛ قال صلى الله عليه وسلم: [رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ].

ويؤخذ من هذا أن الرجل قد يكون ذا منزلةٍ عاليةٍ في الدنيا، ولكنه ليس له قدرٌ عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبةٍ منحطةٍ، وليس له قيمةٌ عند الناس، وهو عند الله خيرٌ من كثيرٍ ممن سواه. ولا يدل الحديث على أن المسلم الفقير أفضل وأحب إلى الله من المسلم الغني بإطلاق، فإن الصواب في هذه المسألة: أن أفضلهما أتقاهما؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ].

 

وفي مقابل من يكون جوهرهم طيباً لكنهم لا يهتمون بحُسن المظهر، نجد من الناس من يجعلون من مظهرهم الملتزم وسيلةً للنصب وأداةً من أدوات الاحتيال؛ يُرَّبون لحاهم ويُقَصِّرون أثوابهم لا لشيءٍ إلا لكسب ثقة الناس فيسهل خداعهم، كما نجد بعضاً آخر يحرصون على مظهرهم الملتزم مراءاةً وسمعةً وكسباً لرضا الناس ولا يفعلون الخير إلا قليلاً؛ لذلك يقول المختصون إنه في بعض الأوقات قد يكون الانطباع الأول الذي نأخذه عن الناس -من خلال مظاهرهم الخارجية- خاطئاً بدرجةٍ كبيرة، فعلى أساس هذا الانطباع، قد نُعامِل الناس معاملةً سيئةً يستحقون عكسها، أو نعاملهم معاملةً طيبةً هم آخر من يستحقونها.

 

إن حُسن المظهر من الدِين؛ يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: [إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ]، ويقول أيضاً: [إنّ الله يُحِبُّ أن يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِه علَى عَبْدِهِ]، وعلى المسلم صحيح الإيمان أن يجمع بين الحسنيين: طهارة الجوهر، وجمال المظهر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اللباس الطيب؛ فقد وصفه أحد الصحابة رضي الله عنهم فقال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ". وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يرى مسلماً بثيابٍ متَّسخة؛ قَالَ صحابيٌ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ: [أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ]، وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ غير نظيفةٍ، فَقَالَ: [أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ]. على المسلم إذن أن يُحَسِّن مظهره، ويُصِلح هيئته، ويكون هذا اتباعاً للسُّنَّة، وإكمالاً للدين.

 

أحبتي .. سرعة الحكم على الناس بغير تَثَبُّت عادةٌ ذميمةٌ سيئةٌ، نُهينا عنها، فلنلتزم هذا النهي، ولتكن لنا في تجارب غيرنا عبرةٌ، ولتكن أخطاؤهم موعظةً لنا.

إنّ (المظاهر قد تكون خادعة) فلا تجعلوا مظاهر الناس معياراً للتفاضل بينهم، فالجوهر أهم من المظهر، والتصرف والسلوك العملي أهم من الشكل الخارجي، هذا مع غيرنا. أما مع أنفسنا؛ فالجمع بين الجوهر والمظهر واجبٌ نحرص عليه، ولا ننسى أن حُسن المظهر من الدِين، فلنحرص على أن يكون مظهرنا مرتباً ومقبولاً، بل وجميلاً، ليكون عنواناً صادقاً يدل على سلامة جوهرنا ومتانة إيماننا وسمو أخلاقنا ونُبل أعمالنا، وليكن ذلك بنية اتباع سُنة نبينا الكريم فنُثاب على ذلك.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://tinyurl.com/y2ohvtq7