الجمعة، 30 سبتمبر 2022

إرادة التغيير

 

خاطرة الجمعة /363


الجمعة 30 سبتمبر 2022م

(إرادة التغيير)

 

"البط يشكو والنسور تحلق فوق الجميع" هذا عنوان قصةٍ باللغة الإنجليزية، تمت ترجمتها إلى اللغة العربية واختصارها؛ للتركيز على الفكرة الأصلية دون ذكر التفاصيل الجانبية.

يقول كاتب القصة: كنتُ في خط الانتظار لركوب سيارة أجرة من المطار إلى الفُندق، فكان من نصيبي سيارةٌ في غاية النظافة، يلبس سائقُها ملابسَ غايةً في الأناقة. نزل السائق من السيارة وفتح لي الباب الخلفي للجلوس، وقال: "اسمي «أحمد»، وأنا سائقك هذا الصباح. ريثما أضع حقائبك في صندوق السيارة تستطيع أن تقرأ مهامي المُدونة في هذه البطاقة"، سلمني بطاقةً فقرأتُ فيها ما يلي: «أسعد الله أوقاتك: مُهمتي أن أوصلك إلى هدفك: بأسرع طريقةٍ، وأكثرها أماناً، وأقلها كُلفةً، وبجوٍ وديٍ مُريح».

جلس «أحمد» خلف عجلة القيادة بهدوءٍ، وقبل أن يتحرك بالسيارة نظر إليّ في المرآة وسألني: "هل ترغب في فنجان قهوة؟ لدي ثيرموس لقهوةٍ عاديةٍ وآخر لقهوةٍ بدون كافيين"، فقلتُ مازحاً: "شكراً أنا أُفضّل المشروبات الباردة"، فقال: "مرحباً، لدي مياهٌ غازيةٌ عاديةٌ، وأخرى بدون سكرٍ، وعصير برتقال"، فقلتُ: "أُفضّل عصير البرتقال"؛ فناولني كأس العصير، ثم قال: "بسم الله"، وبدأ المسير، وبعد دقيقةٍ، ناولني بطاقةً عليها قائمة المحطات الإذاعية، وقال: "تستطيع أن تختار ما تريد أن تستمع إليه من هذه المحطات، أو الدردشة حول ما تراه في الطريق، أو عما يُمكنك أن تزوره في المدينة، أو أتركك مع أفكارك"، فاخترتُ الدردشة. بعد دقيقتين سألني عما إذا كانت درجة التبريد في السيارة مُناسبةً، ثم قال: "إن لدينا حوالي أربعين دقيقةً، فإن شئتَ القراءة فلدي جريدة هذا الصباح، ومجلتا هذا الأسبوع"، قلتُ له يا سيد «أحمد»: "هل تخدم جميع الزبائن بهذه الطريقة دائماً؟!"، فقال: "للأسف بدأت هذه الطريقة قبل سنتين فقط، وكنتُ قبلها مثل سائر السائقين لمدة خمس سنواتٍ، مُعظم السائقين سياراتهم غير نظيفةٍ، ومنظرهم غير أنيقٍ، ويصرفون كل وقتهم بالشكوى والتشاؤم وندب الحظ. وجاء التغيير الذي قمتُ به عندما سمعتُ عن فكرةٍ أعجبتني اسمها «قوة الاختيار» مُلخصها إنه بإمكانك أن تختار أن تكون بطةً أو نسراً: البطة تشكو بؤسها، والنسر يُرفرف مُبتهجاً، ويُحلق عالياً، فقررتُ أن أمارس التغيير شيئاً فشيئاً حتى وصلتُ إلى ما ترى. أشعر بالسعادة، وأنشر السعادة على الزبائن، وتضاعف دخلي في السنة الأولى، ويُبّشر دخلي هذا العام بأربعة أضعاف. والزبائن يتصلون بي لمواعيدهم، أو يتركون لي رسالةً على الهاتف، وأنا أستجيب".

يقول ناشر القصة: الدرس والعبرة من هذه القصة هو أن تتوقف عن أن تكون بطةً تندب حظها وتُكثر الشكوى، وابدأ مسيرك لتكون نسراً سعيداً تُحلق فوق الجميع، لن تُحقق ذلك مرةً واحدةً، ابدأ الخُطوة الأولى، ثم واصل المسير، خُطوةً خُطوةً، ولو خُطوةً واحدةً كل أسبوعٍ، وسترى ما يحدث لك من تغييرٍ إيجابي؛ فالتغيير يبدأ من عندك.

 

أحبتي في الله.. نعم التغيير يبدأ من الشخص نفسه، لابد وأن تكون له الرغبة في التميز، والعزيمة على التنفيذ، والقدرة على الاستمرارية؛ لابد أن يمتلك (إرادة التغيير).

 

إنّ قضية التغيير قد أصبحت من القضايا الأساسية في عالَم اليوم، عالَم التطورات السريعة، عالَمٍ لا تتوقف مسيرته، وتزداد فيه المنافسة، ويتأخر من لا تكون لديه (إرادة التغيير) فلا يكون على استعدادٍ لأن يُغيّر من نفسه إلى الأحسن دائماً.

فما هي الإرادة؟ يرى علماء النفس أن الإرادة هي “تصميمٌ واعٍ على أداء فعلٍ مُعينٍ، لتحقيق هدفٍ ما"، وأنّ التفكير الواعي يُحسِّن من أداء الإرادة ويُقويها، ويزيد من صلابتها وتماسكها واستمرارها، ولا يتم ذلك إلا بحوارٍ مُقنعٍ وواعٍ مع النفس، وليس قراراً عشوائياً سريعاً، أو نتيجة إكراه، مع التسليم بأنّ الافتقار إلى قوة الإرادة عائقٌ أمام التغيير.

 

أما علماء الشريعة فيقولون إن الشريعة الإسلامية لم تترك جانباً من جوانب الحياة إلا وغطته، ولم تَدَعْ أي سلوكٍ إنسانيٍ إلا وقننته وهذبته؛ لذلك اهتمت شريعتنا الغراء بمفهوم إدارة التغيير وتناولته من كافة جوانبه، فها هُم العلماء يرون أنَّ البداية الصحيحة للتغيير الفعَّال تكمن في (إرادة التغيير) التي تنبع من الشخص نفسه؛ لذا كانت الإرادة فريضةً واجبةً في العبادات لا تُقبل العبادة بغيرها، وهذه الإرادة هي النية؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]. ويُقال إنّ النية، التي هي الإرادة، هي "رأسُ الأمر وعمودُه وأساسه، وأصله الذي يُبنى عليه، فإنَّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابعٌ لها، يُبنى عليها، ويصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يُستجلب التوفيق".

 

ويقول أهل العلم إنّ الإنسان لكي يُحقق أهدافه في الحياة، يجب أن يكون ذا إرادةٍ وتصميمٍ وعزيمةٍ لا تلين لمواجهة الصِّعاب وتَحَمُل الإخفاقات؛ فإن (إرادة التغيير) والعزم عليها هو الذي يُحدث التغيير المطلوب. وقد وصف الله سُبحانه إرادة المُصلحين والمُغيِّرين بالعزيمة؛ فوصف صفوة الأنبياء بأنّهم ﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، لأنّهم أصحاب إرادةٍ قويّةٍ لا تلين ولا تتراجع. كما خاطب المولى عزَّ وجلَّ سيد المُرسلين مُحمّداً صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾.

إنَّ (إرادة التغيير) لدى الإنسان هي بداية التغيير الحقيقي، وهذا ما أكَّد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

 

ولا يوجد تعارضٌ بين (إرادة التغيير) لدى الإنسان وبين قضاء الله وقدره؛ يوضح المفسرون ذلك بقولهم إن الله سُبحانه أعطى الناس عقولاً وأدواتٍ وأسباباً يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يُريدون؛ من جلب خيرٍ أو دفع شرٍ، وهُم بهذا لا يخرجون عن مشيئته؛ يقول تعالى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

وقد سأل الصحابةُ النبيَ صلى الله عليه وسلم عن هذا؛ قالوا: يا رسول الله؛ إن كان ما نفعله قد كُتب علينا وفُرغ منه، ففيمَ العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: [اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾].

فأمرُ الله نافذٌ، لكنه جلّ وعلا يُغيّر ما بالناس إذا غيروا، فإذا كانوا على طاعةٍ واستقامةٍ ثم غيروا إلى المعاصي، غيَّر الله حالهم من الطُمأنينة والسعادة واليُسر والرخاء إلى عكس ذلك؛ فيأخذهم على غِرةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾، أو قد يُملي لهم ويتركهم على حالهم استدراجاً؛ يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾.

وهكذا العكس؛ إذا كانوا في معاصٍ وشرورٍ وانحرافٍ، ثم توجهوا إلى الحق، وتابوا إلى الله ورجعوا إليه واستقاموا على دينه، فإن الله يُغيّر ما بهم سُبحانه من خوفٍ وفقرٍ واختلافٍ وتشاحنٍ، إلى أمنٍ وعافيةٍ واستقامةٍ ورخاءٍ ومحبةٍ وتعاونٍ وتقاربٍ؛ فضلاً منه ونعمة.

فالعبد مع ما عنده من (إرادة التغيير)، وما يقوم به من عملٍ أخذاً بالأسباب، لن يخرج أبداً عن قدر الله ومشيئته.

 

أحبتي.. كلنا مُقصرون في حق الله سُبحانه وتعالى، وفي حق ديننا، مهما فعلنا نظل مُقصرين، حتى المجتهد منا لا ينفك يلوم نفسه ويتمنى المزيد من العمل والجد والاجتهاد؛ حتى يرفع درجته عند المولى عزَّ وجلَّ. كلنا يرجو لنفسه أن يكون من أصحاب الجنة، وأن يكون في الفردوس الأعلى منها، فإذا خاف ألا يوصله عمله إلى هذه المنزلة فليتذكر وصية نبينا الكريم ويعمل بها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ] {"مَنْ خاف أَدْلَجَ"، أي: مَنْ خاف ألَّا يَصِلَ إلى غايتِهِ سار أَثْناءَ الليلَ؛ ليَكونَ ذلك أَرْجى له في الوُصولِ إلى غايتِهِ، "ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ"، أي: ومَنْ سار بالليلِ وَصَلَ إلى غايتِهِ ونال مُبْتغاهُ، ويعني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا أَمْرَ الآخرةِ}؛ فالجنة لا تُنال بالأماني، وإنما بأخلص العمل؛ وهو ما يكون لله وحده بغير شركٍ ولا رياء، وبأصوب العمل؛ وهو ما يكون موافقاً لسُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام.

هنيئاً لمن امتلك (إرادة التغيير) فعمل بجدٍ واجتهادٍ، أما من ترك نفسه للهوى، واستسلم للراحة والكسل والدَعَة، وأجَّلَ وسوَّف، فإنه يعيش في حلم يقظةٍ يكاد لا يفيق منه؛ فإلى متى الغفلة؟ لماذا لا يأخذ بأسباب «قوة الاختيار» كما فعل السائق «أحمد»؟ اختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه، وحرص على إرضاء العباد، وأخذ بالأسباب فتضاعف دخله عدة مراتٍ، فما بالنا بمن يختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه وأخراه، ويحرص على مرضاة رب العباد، كم يُضاعف الله له الجزاء ويجزل له في الثواب ويُدهشه بالكرم والعطاء؟

لجميع المُقصرين -وأنا أولهم- أقول: دعونا لا نبكي على اللبن المسكوب، ولنبادر فوراً، في سعينا إلى الجنة، إلى أن نكون نسوراً تُحلق فوق الجميع، ولا نكون بطاً يشكو بؤسه، ولنُشمِّر عن سواعد الجد، ونُعلي الهمة، ومع صدق النية ومُجاهدة النفس يهدينا ربنا سُبحانه وتعالى إلى السُبل التي تجعلنا من المُحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فيتحقق لنا أملنا وغاية رجائنا ومُنانا في أن يكون مثوانا الأخير -بإذن الله وبرحمته- الجنة، مع من أطاع الله والرسول ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

اللهم ها نحن المُذنبين المُقصرين قد عقدنا العزم على التوبة من الذنوب والسيئات، والعودة إلى ما فيه مرضاتك، فأعنّا ربنا، ويسِّر لنا سُبلنا، واكتبنا من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/3CmOEj2