الجمعة، 28 أغسطس 2020

حُسن الخُلُق

 

الجمعة 28 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة / ٢٥٤

(حُسن الخُلُق)

 

يقول الراوي وهو مسلمٌ يسكن بإحدى القرى في أرض البلقان بإحدى دول أوروبا الشرقية:

يوجد بالقرية مسجدٌ به حلقات تحفيظ القرآن الكريم يومي السبت والأحد من كل أسبوع. صليتُ المغرب بالمسجد في يوم سبتٍ، وهممتُ بالانصراف، فإذا بالأطفال الذين صلوا معنا ينشطون عقب انتهاء الصلاة والأذكار، يحولون الصالة الأمامية للمسجد إلى ساحة لعب! أحضروا طاولةً للعب تنس الطاولة، جهزوها وأمسكوا بالمضارب، فتحولت الصالة إلى ساحة بهجةٍ وسرور. أما إمام المسجد -الذي كان الأطفال يقبلون يده وهو يؤمهم في الصلاة منذ قليل- فقد وجدته وسط الأطفال في تلك الصالة، يشاركهم لعبهم! هل هذا هو الإمام الذي صلينا خلفه؟ نعم هو!

وقفتُ ألاحظهم وأتعجب، فاقترب مني الإمام -وقد لاحظ تعجبي- وقال لي: "أعتقد أنه لو رأى المسئولون عن المساجد في بلادكم العربية ما نفعل في مساجدنا لاعتبروا ما نفعل بدعة". وفرتُ عليه كلاماً كثيراً، وقلتُ له: "أعلم كل ما تريد قوله، لكن أريدك أن تخبرني لماذا تفعلون ذلك؟"، رد عليّ قائلاً: "لقتل النفاق". إجابةٌ لم أكن أتوقعها، وأنا مَن ظنّ بنفسه أنه يعرف أساليب التربية وأهدافها كلها، بحكم طبيعة تخصصي وعملي كاختصاصي اجتماعي على مدى عشرين عاماً. سألته: "كيف هذا؟"، قال: "الطفل عندكم يلتحق بحلقات التحفيظ ليتعلم القرآن الكريم فيعيش في بيئةٍ إيمانيةٍ عمادها (حُسن الخُلُق)، ثم يخرج إلى الشارع يريد أن يُشبع رغباته كطفلٍ يريد اللعب واللهو مع الأصدقاء، فيشبعها في بيئةٍ غير منضبطةٍ؛ شتائم وألفاظ هابطة ومعارك وأخلاق سيئة، ولابد أن يتأقلم معهم في هذه البيئة حتى يستطيع أن يُشبع رغباته من خلالهم، فإن عاد إلى حلقة التحفيظ التزم سلوك التدين وسلوك الطفل المتأدب بآداب القرآن كما هو مطلوبٌ منه؛ فيعيش الطفل حالةً من التقلب تؤدي به في النهاية إلى طريق النفاق، أمانحن فقد اخترنا طريقاً آخر نربي به أولادنا: نصلي بهم ونحفظهم القرآن الكريم ونلعب ونلهو معهم في المسجد متمسكين بقيمنا الإسلامية؛ فيعيش الطفل في بيئةٍ إيمانيةٍ خارج المسجد كما هي داخله، لا فرق ولا تباين ولا اختلاف"، ". ثم أردف قائلاً: "نزل الإسلام ببلادكم؛ بلاد العرب، وكان النبي عليه الصلاة والسلام، يجعل المسجد قلب المجتمع، ومقراً لحياةٍ كاملة. وكانت حياته كلها -صلى الله عليه وسلم- نسقاً متكاملاً حتى أنه كان يسابق زوجته أم المؤمنين السيدة/ عائشة، رضي الله عنها، وهو في طريقه للقتال. أنتم أخذتم من الإسلام جسده وتركتم روحه".

هنا أوشكت دموعي على السقوط، وتذكرتُ قصة المرأة التي بعثت بابنها -صاحب الأربعة عشر عاماً- إلي أحد المراكز الإسلامية بأوروبا لكي يُسْلِم، وحين دخل على الإمام وطلب منه ذلك، سأله الإمام: "من أتى بك إلى هنا؟"، قال الطفل: "أمي، وهي تقف خارج المركز"، قال له الإمام: "لماذا لم تدخل معك؟"، قال الطفل: "لأنها غير مسلمة"، تعجب الإمام، وطلب من الطفل أن يدعو أمه لتدخل. دخلت الأم فسألها الإمام: "أنتِ لستِ مسلمةً، كما أخبرني ابنك، إذن لماذا تطلبين من ابنك أن يُسْلِم؟"، امتلأت عيون الأم بالدموع وقالت: "لي جارةٌ مسلمةٌ ابنها في عمر ابني، ما دخل البيت ولا خرج إلا قَبَّل يدها وسَلَّم عليها؛ فتمنيتُ أن يكون ابني مثله".

 

أحبتي في الله .. إنه (حُسن الخُلُق)؛ فالمعاملة الطيبة هي روح الدين، هذه هي التي علينا أن نوليها فائق العناية وعظيم الاهتمام.

يقول أحد الدعاة: عدد آيات القرآن الكريم 6236 آية، آيات العبادات منها لا تزيد عن 130 آيةً، أي 2٪؜ تقريباً، في حين يصل عدد آيات الخُلُق إلى 1504 آية، أي قرابة ربع آيات كتاب الله، ومع ذلك ركز عددٌ كبيرٌ من المسلمين على العبادات، وترك الجزء الأكبر من المعاملات وهو (حُسن الخُلُق)، رغم أن الإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا، فالدنيا مزرعةٌ للآخرة، والدين عباداتٌ ومعاملاتٌ، ولا يصح فصل العبادة عن حُسن معاملة الناس، بل لا يصح أن يتعبد المسلم ويسيء معاملة الناس، كما لا يصح أن يحسن معاملة الناس ولا يصلي ولا يصوم. ومن عظمة الإسلام أنه ليس فيه أعمالٌ خاصةٌ للدنيا وأعمالٌ خاصةٌ للآخرة؛ فكل عملٍ حلالٍ يؤديه المسلم في دنياه يبتغي به مرضاة الله ينال عليه الأجر والثواب في الدنيا والآخرة؛ فينبغي على المسلم أن يحرص على الصدق، وعفة اللسان، وطهارة اليد، ونقاء النفس، والبعد عن أذى الآخرين بالغيبة والنميمة والغش والسرقة والكذب والقتل، حرصه على أداء الصلاة في وقتها، وإخراج الزكاة في موعدها، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام إذا استطاع إليه سبيلا. ويجب أن يعلم المسلم أن الأخلاق في الإسلام فرائض لا فضائل؛ فذو الخُلُق القويم لا يتفضل على أخيه بطيب خُلُقه وحُسن معاملته، بل ذلك فرضٌ في شريعة الإسلام.

وعن (حُسن الخُلُق) يقول تعالى عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. ويقول تعالى آمراً عباده بالقول الحسن: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. ويقول تعالى مبيناً ثمرة المعاملة الطيبة والسلوك الحسن: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ]. وقال -عليه الصلاة والسلام-: [اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: [أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا]، وقال كذلك: [إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ]، وقال أيضاً: [أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ]، كما قال: [إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا].

وفي بشرى منه صلوات ربي وسلامه عليه قال: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ، عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ]، وفي بشرى أعظم قال صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عَنْ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ: [تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ].

 

وتأتي أهمية (حُسن الخُلُق) وتربية أبنائنا عليه قبل أهمية العلم والتعليم؛ فلا خير في أمةٍ قدمت العلم والتعليم على الأخلاق؛ يتخرج من أبنائها مهندسون وأطباءٌ وضباطٌ ومحامون وقضاةٌ ومهندسون ومعلمون وإعلاميون، على أعلى مستوى من العلم والتعليم، لكن منظومة القيم لديهم ضعيفةٌ أو مهزوزةٌ فيكون الفساد بأشكاله: رشوةً وغشاً وتدليساً وكذباً وافتراءً ونكثاً بالوعود وعدم وفاءٍ بأغلظ الأيمان وخيانةً للأوطان، إلا من رحم ربي. ويا ويل أمةٍ لا هي اهتمت بالعلم والتعليم، ولا هي اهتمت بالأخلاق!

لتكن لنا في رسول الله قدوةٌ حسنةٌ؛ يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، فإنه كما اهتم بالعلم وحث عليه، فإنه حضَّ على مكارم الأخلاق، بل كانت حياته كلها -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً يُحتذى به، وقدوةً يُتأسى بها في (حُسن الخُلُق)؛ فلننظر كيف كان يعامل أهله وزوجاته -رضوان الله عليهم- يلاعبهم ويلاطفهم ويقوم على خدمتهم؛ فقد كان خير الناس بأهله، ولننظر كيف كانت معاملته لصحابته -رضوان الله عليهم- بالحب والحِلم والرأفة والرحمة ولين الجانب، ولننظر كيف كان أرحم الناس وألطفهم في معاملة الأطفال؛ يقول عنه سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وقال هو عن نفسه: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ]، وقالت عنه السيدة عائشة -رضي الله عنها- لما سُئلت عن أخلاقه: "فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَ القُرآنَ"، وفي روايةٍ: "خُلُقُ مُحَمَّدٍ القُرآنُ".

قَالَ الشَّاعرُ:

وإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بَقِيت

فإِن هُمُ ذَهَبَت أَخلاقُهم ذَهَبُوا

وقال آخر:

صلاَحُ أمرِكَ للأَخلاَق مَرجعُهُ

فَقوِّمِ النَّفسَ بالأَخلاَقِ تَستَقِمِ

 

أحبتي .. ليسعى كلٌ منا إلى تحسين خُلُقه، وترقيق طباعه، وتلطيف علاقاته، وتليين معاملاته، ليكمل إيمانه، ويثقل ميزانه، ويدخل الجنة برحمة الله. قال أحد العارفين: "الدين كله خُلُق، فمن فاقَك في الخُلُق، فاقَك في الدّين"؛ فلنجتهد ألا يفوقنا أحدٌ فيديننا بأن نسعى -مع التزامنا بأداء الفروض وما استطعنا من نوافل- إلى اكتساب المزيد من (حُسن الخُلُق) وإحسان معاملة الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والزملاء والناس أجمعين. ولنربي أبناءنا على مكارم الأخلاق، يتمسكون بها في كل وقتٍ وفي كل مكان. فإذا ضعف دور المدارس في هذا المجال، وقصَّرت وسائل الإعلام في أداء دورها في هذا الشأن، فإن مسئولية الأسرة المسلمة تكون مضاعفةً في تربية النشء على القيم الإسلامية، وتعويده وتدريبه من صغره عملياً على ممارسة (حُسن الخُلُق) في جميع الحالات.

اللهم اجعلنا، وأهلنا وأبناءنا وجميع المسلمين، من أصحاب الخُلُق القويم، وكما أحسنتَ ربنا خَلْقنا أحسِن اللهم خُلُقنا يا عزيز يا حكيم.

 

https://tinyurl.com/y29pl6hw