الجمعة، 15 نوفمبر 2019

سفير للإسلام


الجمعة 15 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٣
(سفير للإسلام)

تقول إعلاميةٌ معروفةٌ: كنتُ في زيارةٍ للولايات المتحدة الأمريكية وذهبتُ إلى أحد المحلات الكبرى لشراء بعض الأغراض، وأثناء انتظاري لدفع قيمة مشترياتي، دخلتْ سيدةٌ مسلمةٌ ترتدي حجاباً محتشماً، وتبدو عليها علامات التعب من دفع صندوقٍ ثقيلٍ أمامها، يبدو أنه لماكينة قص الحشائش، ذهبَتْ السيدة المسلمة إلى الموظفة التي تجلس على ماكينة الحساب، وقالت لها بأدبٍ جم: "سيدتي، لقد اشتريتُ منك هذه الماكينة بالأمس ب ٥٠٠ دولار مع عدة أشياء أخرى"، سألتها الموظفة وهي منشغلةٌ: "وتريدين إرجاعها؟"، قالت السيدة المسلمة: "لا، بل أريد أن أدفع ثمنها!"، ردت الموظفة، وهي ما تزال منشغلةً: "لا أفهم! ألم تقولي إنك اشتريتها بالأمس؟ إذا كنتِ تعنين أنك وجدتيها أرخص في محلٍ آخر، فنحن لدينا سياسةٌ لرد الفرق؛ ولكن بشرط أن يكون معك ما يثبت سعرها في المحل الآخر، فهل معك ما يثبت ذلك؟"،قالت السيّدة المسلمة: "يا سيدتي، لا هذا ولا ذاك، لقد اشتريتُ منك هذه الماكينة بالأمس مع مشترياتٍ أخرى ببطاقة الائتمان، وحملتُها لمنزلي في ضاحية كذا - وهي ضاحيةٌ تبعد عن المحل مسافة ساعتين تقريباً - وعندما عدتُ إلى البيت أخذتُ أراجع الفاتورة، فوجدتُ أنك لم تحسبي قيمة هذه الماكينة ضمن المشتريات، فحاولتُ الاتصال بالمحل، حتى لا تتعرضي للأذى بسبب ذلك، ولكن ساعات العمل كانت قد انتهت، فقررتُ أن آخذ اليوم إجازةً من العمل وأحمل لك الماكينة، كي تُسَجِّليها وأدفع ثمنها، فلا تتضرري بسببي، ولا أستخدم شيئاً لم أدفع ثمنه". هنا وقفتْ الموظفة فجأةً، في ذهولٍ شديدٍ، وهي تحدق النظر في السيدة المسلمة، امتلأت عيناها بالدموع، وأخذتْ تحضنها وتقبلها وتقول لها: "أنا لا أفهم، كيف قررتِ الرجوع لدفع مبلغٍ هو بالأساس خطأٌ مني، وحملتِ هذا الصندوق الثقيل، وأخذتِ اليوم إجازة من عملك، ثم قدتِ السيارة كل هذه المسافة! لماذا فعلتِ كل هذا سيدتي؟"، ردت السيدة المسلمة ببراءة ٍشديدةٍ تشي بأنها قد تصرفتْ تصرفاً بديهياً: "إنها الأمانة It is AMANA"، وأخذتْ تشرح للموظفة معنى الأمانة في الإسلام. ذهبتْ الموظفة لمديرتها في مكتبها، وكنا نراها من خلف زجاج المكتب ولا نسمعها، ولكن كان يبدو عليها التأثر الشديد وهي تحكي لمديرتها ماذا فعلت السيدة المسلمة، وبعد دقائق، جمعت المديرة الموظفين بالمحل، وأوقفتهم صفاً واحداً، وأخذتْ تحدثهم عن موقف السيدة المسلمة، التي بدتْ عليها علامات الحياء الشديد والإحساس أنها لم تفعل غير واجبها الذي تعلمته من دينها. ثم أخذ الجميع يسألونها في تلهفٍ شديدٍ عن الإسلام وتعاليمه، وهي تجيبهم بمزيجٍ من الثقة بالنفس والتواضع والإخلاص. بعد أن انتهوا، أصرت المديرة بشدةٍ أن تعطيها الماكينة هديةً من العاملين بالمحل، لكن السيدة اعتذرت بأدبٍ عن قبول الهدية قائلةً إنها تبتغي فقط الثواب؛ فلا تريد للماكينة أن تفسد هذا الثواب الذي هو أفضل بكثيرٍ لها. وطبعاً زاد هذا الرد من إعجاب الناس بها. رحلتْ السيدة في هدوءٍ وأنا أشعر بفخرٍ شديدٍ في داخلي، فقد ظل حديث الإعجاب بها بعد أن رحلتْ ليس فقط بين الموظفين، ولكن أيضاً بين الزبائن الذين ظل أغلبهم يتابعون الموقف في انبهارٍ شديدٍ بتلك السيدة.

أحبائي في الله .. كانت هذه المرأة - من حيث لم تتوقع - سفيرةً للإسلام بغير أوراق اعتمادٍ وبدون صفةٍ رسمية. وضعتها الظروف في هذا الموقف؛ ففتح الله عليها وألهمها التصرف الصحيح بالعودة إلى المحل، ثم ألهمها القول السديد الذي ردت به على أسئلة الموظفين بالمحل.
كلنا سفراء لديننا، منا من يجيد السفارة؛ فينبهر الناس بسلوكه وأقواله فيكون ذلك سبباً لإقبالهم على التعرف على الإسلام واعتناق بعضهم له؛ فالناس يحكمون على الإسلام من خلال أخلاق المسلمين وتعاملاتهم.
يقول العلماء إن المسلم (سفير للإسلام) مسؤولٌ عن هذا الدِّين، وتزدادُ المسؤولية إذا كان يعيش في بلاد الغُرْبة، في عالَمٍ غريبٍ في اعتقاده ومبادئِه وأخلاقه وسلوكياته، فلا ينبغي له أن ينجرِف مع الناس الذين يعيش معهم في عقائدِهم وتصرفاتهم، بل واجبُه أن يكون سفيراً للإسلام بسلوكه وأخلاقه ومعاملاته؛ فيفتح الله له القلوبَ لتتمكَّن من التوحيد الذي حُرِمت منه؛ فيكون المسلم سفيراً عن الله وعن رسوله في البلاد التي يسَّر الله تعالى له الوصول إليها، والعيش فيها. وإذا كان مِن المعلوم أنَّ فاقدَ الشيء لا يُعطيه، فإن على المسلم في بلاد الغربة أن يَعرِف ما هو الإسلام، وأن يحاول بِنِيَّةٍ خالصةٍ وصادقةٍ أن يُطبِّق هذا الدِّين في كلِّ أمور حياته، في معايشِه وعباداته وصداقاتِه، وحبِّه وبُغضِه، وأخْذِه وعطائه، وكلِّ شؤون الحياة، فإذا رأى الأجانبُ هذه الصورة أحبُّوها، وأحبُّوه، وسألوه: لماذا يفعل كذا ولا يفعل كذا؟ فيجيبهم: لأنَّه مسلمٌ يتقي الله، فتكون فرصةً له للتعريف بالإسلام والتأثير في الناس بأبلغ بكثيرٍ من الوعْظ والكلام، وتكون هذه الفرصة بمثابة دعوةٍ إلى دين الله الحق؛ يقول جلَّ وعَلا: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، ويقول تبارك شأنه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾. وهذه فرصةٌ لا تتوفر لغيره ممن يقيمون في بلاد الإسلام، يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فينوي بينه وبين نفسه، مخلصاً نيته لله، أن يكون سفيراً لدينه ومثالاً يُحتذى وقدوةً لغير المسلمين، فيُحَسِّن من سلوكه وأخلاقه ويتمسك بعباداته ويقيم شرع الله - ما استطاع - في نفسه وأسرته، فربما كان سبباً في هداية ولو شخصٍ واحدٍ إلى دين الحق؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [ ... فَوَاللَّهِ لَئِنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ اَلْنَّعَمِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا ...]. وقال كذلك: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلهُ مثلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ].
وورد في الأثر: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الإِسْلامِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلا يُؤْتَى الإِسْلامُ مِنْ ثَغْرَتِهِ فَلْيَفْعَلْ". والمسلم المغترب في بلادٍ يجاوره فيها في السكن أو العمل غير مسلمين هو على ثغرٍ خطير؛ فجيرانه وزملاؤه وكثيرٌ من الناس يطالعونه وينظرون إليه، يشاهدون تصرفاته، ويرصدون أفعاله وأقواله، ثم هُم يحكمون على الإسلام من خلال ما يرونه ويشاهدونه ويسمعونه، فليكن خير (سفير للإسلام).
وللأسف يوجد من المسلمين المقيمين في مجتمعاتٍ غير مسلمةٍ من يتخذ الغربة عذراً للتخفف من أعباء الدين - كما يزعمون - فلا صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، وإذا فعلوا فربما في السر أو في المناسبات أو مراءاةً لمسلمين آخرين! بل ويذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك فيشرب الخمر - والعياذ بالله - فإذا راجعته في ذلك يقول لك إنه مجرد مشروبٍ اجتماعيٍ؛ يقصد أنه يشرب للمجاملة فقط! والبعض يتخلى عن اسمه الإسلامي الجميل ويقبل أن يُنادى باسمٍ لا يتوافق مع دينه بحجة تسهيل نطق اسمه على الآخرين! كيف يكون هؤلاء وأمثالهم سفراء لدينهم؟

أحبتي .. ليكن شعار كلٍ منا: أنا (سفير للإسلام)، ولنحرص على أن تكون أخلاقنا ومعاملاتنا دليلاً ومرشداً على ديننا. إن صلاحنا واستقامة أحوالنا على منهج ديننا الحنيف هو في الأصل واجبٌ علينا، كما أن فيه مصلحةً لنا؛ يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾، فإذا اجتمع مع ذلك أن نكون قدوةً لغيرنا ومثالاً لهم يحذون حذوه فيكون هذا ﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾.

اللهم أعنا ولا تُعن علينا، ووفقنا للوفاء بأحكام شريعتك ودينك الذي ارتضيت لنا، ولا تَفْتِّنا، ولا تستبدلنا، وكن لنا سنداً ونصيراً وآتنا من فضلك الذي تؤتيه من تشاء.

http://bit.ly/2QnE5EW