الجمعة، 4 مارس 2016

كفى به واعظاً

4 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة /٢١

(كفى به واعظاً)

كتب صديقي على الفيس بوك مطلع الأسبوع الحالي يوم أن تُوفيت والدته: "عام الحزن والفراق .. وداعاً مثلث الرحمة والأمان: الأب، ثم الأخ الأكبر، ثم الأم". علقت على ما كتب بقولي: (رحمهم الله جميعاً، وجعل مثواهم الجنة، وصبَّركم على فراقهم، وجعل رحيلهم تنبيهاً لنا جميعاً أن الموت علينا حق وعلينا الاستعداد له بكل ما يمكن أن نقوم به من أعمال صالحة). قبل ذلك تكررت الوفيات لأقارب وأصدقاء، وكان مما لاحظته أن الكثير من الناس يتجنبون الحديث عن الموت، لا أدري لماذا، رغم أن الموت حق علينا جميعاً؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، وخاطب خير البشر نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. لماذا إذن يهرب الناس من الحديث عن الموت؟ ولماذا لا يحبون أن يستمعوا إلى ما يذكرهم به؟ هل هو الخوف من قدومه قبل موعده إذا ذكرناه؟! مستحيل؛ فما ﴿كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ و﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، هل هو الفرار من الموت؟! مستحيل أيضاً؛ فكلنا يعلم ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، أم هو الخوف من التقصير وعدم الاستعداد لهذا المصير المحتوم؟ أعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي وراء نفور الكثيرين من ذِكر الموت، رغم أن لذكر الموت فوائد جلية؛ قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة)، وفي رواية (ترق القلوب وتدمع العين)، وفي أخرى (فإن لكم فيها عبرة).
حتى نفهم حقيقة الموت علينا أن نفهم حقيقة الحياة. بدايةً لابد من التسليم بأن حياتنا الدنيا ما هي إلا ﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، وهي ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ﴾ وهي ﴿تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ والأولاد﴾، وأن الحياة الحقيقية هي التي يقول عنها سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الدَّار الْآخِرَة لَهِيَ الْحَيَوَان﴾، ويقول:﴿إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾، ويقول: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، فالدار الآخرة إذن هي الحياة الحقيقية، هي الدائمة، وهي الباقية، وهي دار القرار، هي المستقر الذي فيه خيرٌ لنا، يُنادَىَ فيها: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت"، يومها يقول الإنسان: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ لأنها هي بالفعل الحياة الحقيقية للإنسان، وما الموت إلا المعبر الوحيد للوصول إليها. فإذا كان الموت هو مصيرنا جميعاً فلماذا خلقنا الله؟ يقول عز من قائل: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، إذن فحكمة الله سبحانه وتعالى من خلق الموت والحياة تكمن في الابتلاء أي الاختبار، والأساس في ذلك العمل، والمنافسة تكون على من يكون أحسن عملاً، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾. قال عليه الصلاة والسلام: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ..). يقول أحد الصالحين: (نحن لسنا السكان الأصليين لهذا الكوكب "الأرض"، بل نحن ننتمي إلى "الجنّة"، حيث كان أبونا آدم يسكن في البداية، لكننا نزلنا هنا مؤقتاً لكي نؤدّي اختباراً قصيراً ثم نرجع بسرعة؛ فحاول أن تعمل ما بوسعك للحاق بقافلة الصالحين التي ستعود إلى وطننا الجميل الواسع ولا تُضَيِّع وقتك في هذا الكوكب الصغير)، ويقول آخر: (الخاسر والمحروم حقاً من لا يجد موضع قدم في جنةٍ عرضها السماوات والأرض)، ويقول ثالث: (الدنيا مزرعة الآخرة)؛ ما تزرعه فيها تحصده في الآخرة، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾، فليس من الحكمة أن نركن إلى الهوى والأماني، وإنما الحكمة أن نعمل لآخرتنا ونحسن العمل استعداداً ليوم الرحيل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمحافظة على أداء العبادات، وبالإكثار من النوافل لنضاعف أعمالنا الصالحة. فلنحافظ على: قيام الليل ولو بركعتين يومياً، صلاة الضحى، تلاوة القرآن وتدبر معانيه، ذكر الله كثيراً وحمده وشكره، الصدقات للفقراء والمساكين، صلة الرحم، الإحسان إلى الجار، صوم التطوع، قضاء حوائج الآخرين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق، إفشاء السلام، وغير ذلك من أشكال البر والعمل الصالح .. هذا هو رصيدنا وزادنا، هذا هو ما ينفعنا ويشفع لنا. ومع عقد النية وبقدر الإخلاص في العمل وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى يكون الثواب .. فلنسارع ولا نُسَّوِف ..
أحبتي في الله .. لنتذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (أولُ ما يُسأل عنه العبدُ يومَ القيامةِ صلاتُه، فإن صَلُحت صَلُح سائرُ عملِه، وإن فَسَدت فَسَد سائرُ عملِه)؛ فلنعطي الصلاة الأهمية المطلقة في حياتنا، ولنحرص على أدائها في أوقاتها مع الجماعة بالمسجد .. ربما يكون الأمر صعباً في البداية لمن لم يتعود على ذلك، لكننا سنشعر بالتأكيد بتيسير الله للأمر وجعله سهلاً عندما تتوفر النية الصادقة في الالتزام، ليتحول الأمر بعدها إلى لذة لا يشعر بها إلا من يجاهد نفسه ولا يتبع هواه.
نفعني الله وإياكم بعظةٍ نتعظها من الموت و(كفى به واعظاً).
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.