الجمعة، 21 يونيو 2024

فضيلة الإيثار

 

خاطرة الجمعة /452

الجمعة 21 يونيو 2024م

(فضيلة الإيثار)

 

كتب على صفحته على فيس بوك في أحد أيام العشر من ذي الحجة يقول:

موقفٌ هزني ولم يُفارق عينيّ منذ حدوثه بالأمس. قبل عودتي إلى منزلي قبل موعد الإفطار بقليلٍ لفت انتباهي عامل نظافةٍ، مِن الذين يُنظفون الشوارع، جاوز الأربعين من عُمره، يجلس على الرصيف ويبكي بِحُرقةٍ، هزني منظره فاقتربتُ منه وأخرجتُ ما جاد به الله عليّ من مالٍ ووضعته في يده؛ ردني شاكراً وقال: "هل ترى هذا الرجل الذي يُنظف الجانب الآخر من الطريق؟ هو أحوج مني بهذا المال؛ فإن لديه عدداً من الأطفال وزوجته مريضةٌ، ولا يملك قُوت يومه"، قلتُ له وقد بهرني الرجل بدرسٍ عن (فضيلة الإيثار) الذي كاد أن يختفي من حياتنا هذه الأيام: "خُذ هذا، وسأمنحه من مال الله مثلك"، فقال: "أعطهِ نصيبي ونصيبه"، استحلفته بالله أن يُفسّر لي سبب بكائه عسى أن أستطيع مُساعدته، قال لي: "أشكرك، كنتُ أشكو همي وغمي إلى الله؛ ومَن اشتكى لله لا يشتكي لعباده". انتقلتُ إلى الجانب الآخر من الشارع مُتوجهاً إلى العامل الذي أشار إليه زميله، وكان أكبر منه سِناً وأشد بؤساً، سلمتُ عليه وأعطيته ما تيسر من مال الله فأخذه وشكرني، ودعا لي كثيراً؛ فقلتُ له: "الأحق بالشكر زميلك الذي يجلس هناك فقد آثرك على نفسه"، وقصصتُ عليه ما حدث؛ فإذا بالرجل تدمع عيناه وينطلق جرياً نحو زميله وكأن ثعباناً قد لدغه، وظل يُقبِّل رأس وأيدي زميله في منظرٍ مُؤثرٍ، ظننتُ في نفسي أنه تأثر بموقف زميله منه، وتركتهما وانصرفت.

إلا أنني فوجئتُ بهذا العامل وقد انطلق يجري نحوي متوسلاً أن أُكمل جميلي وأذهب معه لرئيس العمال -الذي يقف على بُعد خُطواتٍ منه بجوار سيارة النظافة- نستسمحه بإعادة زميله للعمل بعد أن استغنى عن خدماته. وقصَّ لي حكايةً عجيبةً؛ قال لي إنه قبل عدة دقائق اشتبك بالكلام مع زميله هذا لتقصيره في العمل، ووصل الأمر إلى أنه ذهب إلى رئيس العمال واشتكى على زميله واتهمه بأكثر مما فيه؛ فما كان من رئيس العمال إلا أن استغنى عن خدمات زميله، أما هو فقد شعر وقتها بنشوة الانتصار، وأنه عندما قصصتُ عليه ما حدث من إيثار زميله له شعر بحقارة نفسه وسوء فعله وأنه نذلٌ -هكذا وصف نفسه- وأنه لا يستحق كرم زميله معه. ذهبتُ معه لرئيس العمال وعرفته بنفسي، وقصصتُ عليه ما حدث، وقلتُ له: "لك أن تفخر بأن بين عمالك مثل هذا الرجل"؛ فقال لي إن هذا الرجل تسلّم العمل قبل عدة أيامٍ، ولثقته في زميله الآخر الذي يعمل معه منذ سنواتٍ تعجّل واتخذ هذا القرار. وكان رئيس العمال رجلاً مُحترماً فذهب إلى الرجل الجالس على الرصيف وقبَّل رأسه، وعاتب زميله أمامه، وقال له: "قُم أكمِل عملك"، شكره الرجل وقال له: "والله ما جعلني أبدو مُقصّراً في عملي اليوم هو جُرحٌ بقدمي"، وكشف عن قدمه لنرى جرحاً بطول القدم، أخبرنا أنه خاف أن يشكو منه فيتم الاستغناء عنه، وتحامل على نفسه، حتى لا يفقد عمله، الذي هو في أشد الحاجة إليه.

تركتهم بعد أن منَّ الله عليّ وساقني لأكون وسيلةً لتحقيق استجابة دعوة رجلٍ اشتكى همه وحاجته إلى الله، فسخَّر الله له -من حيث لا يحتسب- من كفَّ عنه الأذى وخفَّف كربته وأزال همه وغمه.

لم تُفارق أحداث هذه القصة مُخيلتي طوال يوم أمسٍ، حتى أنني عندما خلدتُ إلى النوم استرجعتُ كل أحداثها، وما بها من دروسٍ وعِبرٍ، ومن لحظاتٍ وجدتُ نفسي مدفوعاً دفعاً لتسجيل أحداثها على صفحتي؛ لتتشرف الصفحة وصاحبها بقصة رجلٍ بسيطٍ أعطاني درساً في (فضيلة الإيثار)، ودرساً في يقينه بأن ربه هو القادر -دون أحدٍ من عباده- على تفريج همه وغمه.

 

أحبتي في الله.. إنّ الإيثار أعلى مراتب العطاء والبذل، ونوعٌ من أنواع الصدقات، بل هو أفضل وأعظم أنواع الصدقات؛ يقول الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. وقد أثنى الله سبحانه على أهل الإيثار، وجعلهم في عِداد الأخيار ووصفهم بأنهم هُم المُفلحون؛ يقول تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وورد في سبب نزول هذه الآية أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [مَن يَضُمُّ -أوْ يُضِيفُ- هذا؟] فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: [ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أوْ عَجِبَ- مِن فَعَالِكُما]. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وقيل عن سبب نزول هذه الآية أنه أُهْدِيَت لرجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحدٌ إلى آخر حتى تداولها سبعةُ أهلِ أبياتٍ حتى رجعت إلى الأول! فنزلت: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ إلى آخر الآية.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

 

يقول أهل العلم إن الإيثار هو تقديم الغيرِ على النفس، وتقديم مصلحته على المصلحة الذاتية، وهو أعلى درجات السخاء، وأكمل أنواع الجُود والكرم، ومنزلةٌ عظيمةٌ من منازل العطاء. والإيثار علامة الإيمان، والمظهر الخارجي للحُب الصادق تجاه الغير، حيث التفاني والتضحية من أجل الآخرين لوجه الله، والمؤمن الصادق هو الذي يُقدّم نفسه للخَطَر ليَسلَم الآخرون، ويؤخّرها عند المكاسب ليغنموا، والمؤمن الصادق هو الذي يُتعِب نفسه من أجل راحة الآخرين، ويسهر ليله حتى ينام إخوانه، وهو لا يُقيم وزناً لحُطام الدنيا حتى يُقاتِل عليه أو ينفرد به.

وفي قصص إيثار الأنصار للمهاجرين من العجب ما فيها؛ من ذلك أنه لَمَّا قَدِم المهاجرون إلى المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وسَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، قالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصَارِ مَالًا، فأقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، ولِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أعْجَبَهُما إلَيْكَ فَسَمِّهَا لي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا، قالَ: بَارَكَ اللَّهُ لكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، أيْنَ سُوقُكُمْ؟ فَدَلُّوهُ علَى السُوقِ، فتوجه إليه ثم ما انْقَلَبَ منه إلَّا ومعهُ فَضْلٌ كبيرٌ من الله سُبحانه وتعالى. ووصل الإيثار سَنَامَه حينما تنازل الأنصار لإخوانهم المُهاجرين عن حظّوظهم من الغنائم رغم حاجتهم الشديدة؛ فلم يجعلوا عَوَزَهُم وحاجتهم الشديدة مُبرراً لترك الإيثار.

 

ومما قيل عن (فضيلة الإيثار):

"ليس الإيثار أن تُعطيني ما أنا أشدّ منك حاجةً إليه، وإنّما الإيثار أن تُعطيني ما أنت أشدّ إليه حاجةً مني".

"إنْ قيل: ما الذي يُسهِّل على النَّفس هذا الإيثَار؛ فإنَّ النَّفس مجبولةٌ على الأَثَرَة لا على الإيثَار؟ قيل: يسهِّله أمورٌ منها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، والنُّفرة مِن الشُح وأخلاق اللئام، وتعظيم الحقوق التي جعلها الله سُبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعضٍ فهو يرعاها حقَّ رعايتها".

"إن المُؤْثر يجني ثمار إيثاره في الدنيا قبل الآخرة؛ وذلك بمحبة الناس له وثناؤهم عليه، كما أنه يجني ثمار إيثاره بعد موته بجمال الذِكر؛ فيكون بذلك قد أضاف عُمُراً إلى عُمُره".

"الإيثار يقود المرء إلى غيره من الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة؛ كالرحمة وحُب الخير، والسعي لنفع الناس، كما أنه يقوده إلى ترك جملةٍ من الأخلاق السيئة والخلال الذميمة؛ كالبُخل وحُب النفس والأثرة والطمع وغير ذلك".

 

قال الشاعر يصف إيثاره:

أَجودُ بِمَوجودٍ وَلَو بِتُ طاوِياً

عَلى الجوعِ كَشحاً وَالحَشا يَتَأَلَّمُ

وَأُظهِرُ أَسبابَ الغِنى بَينَ رِفقَتي

لَيَخفاهُمُ حالي وَإِنّي لَمُعدَمُ

وَبَيني وَبَينَ اللَهِ أَشكو فاقَتي

حَقيقاً فَإِنَّ اللَهَ بِالحالِ أَعلَمُ

 

وقال غيره يصف أحد المُؤْثرين:

ما قالَ "لا" قَطُّ إلا في تَشهّدِهِ

لولا التشهّدُ كانت لاؤُهُ نَعَمُ

 

أحبتي.. أعجبني قول أحد الأفاضل: لا يغيب عنا أن الإيثار هو قمة الفضيلة، وأن بلوغها بحاجةٍ إلى عمليةٍ تربويةٍ مُتواصلةٍ، وذلك بالاستعاذة بالله عزَّ وجلَّ من البُخل وشُحّ النفس. إن المجتمع الذي يوجد فيه من يُؤْثِر غيره على نفسه، كما يوجد فيه من يزهد فيما عند غيره، ويقنع بما يؤتيه الله، جديرٌ بأن يعيش في أمنٍ واستقرارٍ، يُظله الحُب والتعاون والوئام.

فلنحرص أحبتي على أن تنتشر (فضيلة الإيثار) بيننا؛ فنبدأ بأنفسنا ونُؤْثر غيرنا على أنفسنا، بغير نفاقٍ أو رياءٍ أو رغبةٍ في التباهي أو بحثٍ عن سُمعة، وإنما لوجه الله سُبحانه وتعالى، طمعاً في رضاه ورضوانه. ولنُعَّلِم أبناءنا هذه الفضيلة وهذا الخُلُق النبيل حتى يشبّوا مُتمسكين به، ساعين إليه، حريصين على ألا يُفوِّتوا على أنفسهم ثواب فضيلةٍ يُحبها الله عزَّ وجلَّ ويمدح المُتصفين بها.

اللهم اجعلنا مُؤْثرين على أنفسنا، ولو كانت بنا حاجةٌ شديدةٌ، وقِنا شُح أنفسنا، واجعلنا اللهم من المُفلحين.

https://bit.ly/4eALZTO