الجمعة، 8 يوليو 2022

دعاء يوم عرفة

 

خاطرة الجمعة /351


الجمعة 8 يوليو 2022م

(دعاء يوم عرفة)

 

يقول أحد الأخوة: من سنةٍ بالضبط، شبّ حريقٌ في السوبر ماركت الذي أملكه نتيجة ماسٍ كهربائيٍ، واشتعلت النار في أكثر من ثلاثة أرباع البضاعة. وقعت هذه الحادثة قبل يوم عرفة بيومين، ولكم أن تتخيلوا الحال التي كنتُ عليها؛ فقد كُنا نستعد لموسم عيد الأضحى، وهو من مواسم البيع التي يحرص كل تاجرٍ على أن يُحقق فيها ما يستطيع من أرباح. لكن بعد هذا الحريق صار عملي شبه مُتوقفٍ وحالي أصبح صعباً، وهذا يعني أنه بدلاً من فرحة العيد، سيكون هناك حزنٌ ونكدٌ وديون. كنتُ وقتها عريساً جديداً مُتزوجاً من شهرين، والبضاعة التي احترقت تُقدر بحوالي 15 ألف جنيه. بدأتُ أسأل نفسي: "ماذا أفعل؟ كيف أتصرف؟ هل أطلب من زوجتي أن تبيع ذهبها وهي ما زالت عروسةً جديدة؟ ماذا أفعل؟"، رأيتُ أن أفضل حلٍ هو أن أقترض من أحد أصدقائي؛ فكنتُ كلما أدخل على واحدٍ منهم وأطلب منه قرضاً يقول لي: "داخلين على عيد، اعذرني لا أستطيع أن أساعدك!". بقيتُ يومين على هذه الحال، أقصى ما استطعت أن أقترضه من أصحابي ومعارفي مبلغ 800 جنيه فقط، وهذا المبلغ بالنسبة للبضاعة التالفة لا يعدو كونه نقطةً في بحرٍ!

ليلتها رجعتُ إلى بيتي فالتقيتُ بجاري وأنا عائدٌ إلى البيت فقال لي: "كل سنةٍ وأنت طيبٌ يا أستاذ، لا تنسَ الصيام غداً"، فقلتُ بيني وبين نفسي: "أي صيامٍ هذا وأنا في هذه الحال؟! دعني وشأني". أرادت زوجتي أن تواسيني؛ فطلبت مني أن نخرج ونتمشى قليلاً، فخرجنا فعلاً، والمشوار لم يكن جميلاً أبداً وأنا حزينٌ ومُكتئبٌ وأفكر بوضعي طوال الوقت، فلما عُدنا إلى البيت قالت لي: "هيا للسحور؛ فقد اقترب موعد أذان الفجر!"، فقلت لها: "أي سحورٍ هذا؟"، لم أكن أتذكر حتى أن يوم عرفة سيدخل بعد قليلٍ؛ فقلتُ لها: "أنا في وادٍ وأنتِ في وادٍ آخر، أي سحورٍ، وأي عرفة؟ ألا ترين وضعنا الذي نحن فيه؟"، فقالت: "قدّر الله وما شاء فعل، لكنه لن ينسانا. أما الصيام فلابد منه!". أصرّت زوجتي أن أصوم، وفعلاً نوينا الصيام، وحين اقتربت ساعة الإفطار قالت لي: "ادعُ ربّك، (دعاء يوم عرفة) مُستجابٌ بإذن الله"، فقلت: "بماذا أدعو؟"، قالت: "ادعُ بأي شيءٍ تريده"، قلت لها: "يعني أدعو بـ 15 ألف جنيه فتنزل من السماء الآن، هل هذا معقول؟!"، قالت: "الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على كل شيءٍ"، وتركتني وقامت تُصلي وتدعو الله، أما أنا فتكبّرتُ عن الدعاء، وانتهى اليوم، وفطرنا ولم أدعُ الله بحرف. بصراحةٍ لم يكن في بالي شيءٌ أصلاً غير مبلغ ال 15 ألف جنيه لأستعيد به عملي وسعادتي!!

بعد المغرب بساعةٍ اتصل عليّ أحد أصدقائي وقال لي: "انزل إلى المقهى أريدك؟"، نزلتُ من بيتي إلى القهوة لأقابله، فقال لي: "يا أخي، لن أجد أحداً أفضل منك لهذا الأمر"، قلتُ: "خيرٌ إن شاء الله؟"، قال: "أحد أصدقائي استلم مبلغ جمعيةٍ كان مُشاركاً فيها، ويُريد مشروعاً يُشغِّل هذا المبلغ فيه، فما رأيك أن نكلمه ويستثمر ماله معك؟!"، فرحتُ جداً بهذا العرض؛ فقد جاء في وقته تماماً، وكلمنا الرجل ونزل إلينا على القهوة، قال لي: "أنا معي 30 ألف جنيه، ومُحتاجٌ أن أستثمرهم"، قلتُ له: "السوبر ماركت الذي عندي يحتاج 15 ألف لأشتري بهم بضاعةً جديدةً، ما رأيك أن تضع نصف المبلغ في البضاعة، والنصف الثاني في تجديد المحل، ولك 50 بالمئة من الأرباح بعد أن تسترد ال 30 ألف جنيه؟!"، وافق على ذلك، واتفقنا وتسلمتُ المبلغ منه، وجددتُ السوبر ماركت، واشتغل بعد العيد، وكدتُ يومها أطير من شدة الفرح.

قبل حادثة السوبر ماركت بأسبوعٍ، أجرينا لأُمي المُصابة بالسرطان التحاليل الدورية، وظهرت نتيجتها يوم عرفة، وإذا هي بالسالب، يعني أمي شُفيت بمعجزة! حين عرفت أُمي بالخبر وأنها سليمةٌ بكت طوال اليوم من كرم ربنا. عاد السوبر ماركت للعمل، وأُمي شُفيت من مرضها، وخُتم اليوم بأن اتصلت زوجتي بي وبشرتني -وهي تطير من الفرحة- بأنها حاملٌ، وقالت لي: "هل رأيت فضل الصوم وفضل (دعاء يوم عرفة)؟"، قلتُ في نفسي: "سبحان الله، الدنيا كلها اسودت في وجهي وقتها، في حين أن الموضوع سهلٌ ويُحل بدعوةٍ". تعلمتُ يومها درساً في الأدب مع الله عزّ وجلَّ، لن أنساه في حياتي؛ الله معنا ونحن نعبده، يبتلينا أحياناً بالهموم لنعود إليه ونتوب.

وبعد أن انتهى العيد والسوبر ماركت اشتغل، ومرّت الأيام، واكتمل مبلغ 30 ألف جنيه، أردتُ أن أرجعهم لصديقي ليردهم لصاحبه، كانت الحكاية مُختلفةً تماماً؛ قال لي: "بصراحةٍ، هذا المبلغ لم يكن لصاحبي! بل كان لشخصٍ تبرع به لوجه الله؛ لأن زوجته شُفيت من مرض عضال، فأحببنا أن نُساعدك بطريقةٍ غير مُباشرةٍ، ونقف معك في أزمتك! يعني هذا المبلغ كله لك، ولا يوجد أحدٌ ليطالبك به". ذهبتُ يومها إلى البيت، ودخلتُ غرفتي وبقيتُ ساعةً كاملةً أبكي بكاء الأطفال بأنينٍ؛ من كرم ورحمة ربنا.

كلما أتخيل كرم المولى عزّ وجلّ في حياتي رغم أني لم أكن مُلتزماً تماماً، أبكي بدل الدموع دماً. أبكي حسرةً على الوقت الذي فات من عمري وأنا بعيدٌ عنه سبحانه.

علمني هذا الموقف ماذا يعني يوم عرفة، وماذا يعني (دعاء يوم عرفة)، وماذا يعني صومه! لقد كان هذا الموقف سبباً في التزامي وتوبتي ورجوعي إلى الله. وفقنا الله وإياكم لما يُحب ويرضى دائماً أبداً، وجعلنا من المُحسنين الفائزين بكل خير.

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأُخرى تحكيها إحدى السيدات فتقول:

مر على زواجنا سنتان ولم نُنجب؛ فصرنا -أنا وزوجي- نذهب للأطباء ونفحص أنفسنا، وسبحان الله لم تكن هناك أية مشكلةٍ لا عندي ولا عند زوجي، ولا يوجد أي عائقٍ للإنجاب، توجهنا بعدها للطب الشعبي والحجامة والكثير من الأمور التي لا يُمكن تخيل بعضها، حتى كدنا نفقد الأمل؛ فقد استمر هذا الوضع لمدة ثماني سنواتٍ من زواجنا. في يوم عرفة من ثلاث سنواتٍ، ولم أكن صائمةً فيه لعُذرٍ شرعيٍ، أتذكر ذلك اليوم كما لو كان بالأمس؛ كانت الساعة الثالثة والنصف وقت صلاة العصر، حين جلستُ أمام التلفاز، فشاهدتُ الحُجاج على عرفة يدعون الله سبحانه وتعالى ويُصلون، لا أعرف ماذا أصابني، وجدتُ نفسي وقد جلستُ على الأرض وبدأتُ في البكاء كما لو أني طفلةٌ صغيرة. بدأتُ أُردد: "يا ربِ في مثل هذا اليوم تجعلني لا أصلي ولا أصوم ولا تستجيب لدعائي في الإنجاب، يا ربِ ماذا فعلتُ؟". وبقيتُ على هذه الحال ساعتين كاملتين لم أنقطع عن الدعاء والتذلل لله سبحانه وتعالى، وأطلب منه أن يُرضي قلبي، وأن يرحمني في الدنيا والآخرة. دعوته أن يرزقني راحة البال، وأن يوسع لي رزقي، ويجعلني أنا وزوجي من الصالحين، وأن يمن علينا بالذُرية الصالحة. لم يكن كلامي مُرتباً؛ فقد كنتُ أدعو بما يخطر على بالي دون أي مُقدماتٍ، بل وكنتُ أدعو باللغة العامية وليس بالعربية الفُصحى، لكن دعائي كان صادراً من القلب. لم تمر ثلاثة أشهر بعد ذلك اليوم إلا وأنا حاملٌ في طفلي الأول. أتذكر عندما اقترب موعد الولادة شعرتُ وقتها بالمعجزة الحقيقية، وباستجابة الله عزَّ وجلَّ لدعائي يوم عرفة، وجلستُ أبكي حمداً لله على ما رزقني؛ فالحمد لله دائماً وأبداً على كل شيء.

 

يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟] فهو يومٌ يعتق الله من النار كل من أخذ بأسباب العتق، سواءً من وقف بعرفاتٍ أو من لم يقف بها، ولهذا صار اليوم الذي يليه عيداً للمسلمين في جميع بقاع الأرض، لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، ولاجتهادهم في عشر ذي الحجة بأنواع الصلاة والصيام والذِكر والدعاء، وتعرضهم للنفحات والرحمات في هذه الأيام المباركات.

 

وصوم يوم عرفة أفضل الصيام؛ جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ]؛ فصوم يوم عرفة رفعةٌ في الدرجات، وتكثيرٌ للحسنات، وتكفيرٌ للسيئات.

 

و(دعاء يوم عرفة) هو خير الدعاء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]. ويُستدل من هذا الحديث الشريف على أن هناك تفضيلاً لبعض الدعاء على بعض؛ فبيّن الحديث أن الدعاء يوم عرفة خيرٌ من الدعاء في غيره من الأيام، وأوضح لنا أفضل صيغةٍ للدعاء فيه؛ وهي قول «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، فهذا أكثَرُ الذِّكرِ، وأكثَرُ الدُّعاءِ بركةً، وأعظَمُه ثواباً، وأقْرَبُه إجابةً؛ لوقوعِه من أفضَلِ الناس؛ وهم الأنبياء، ووقوعِه في أفضَلِ أيَّام السَّنة؛ وهو يومُ عرفة.

 

ويأتي يوم عرفة هذا العام مُصادفاً ليوم الجُمعة، ويجتمع بذلك الفضلان: فضل يوم عرفة، وفضل يوم الجُمعة، فقد ثبت فضل الدعاء في يوم الجمعة، وفي يوم عرفة؛ ففي كلا اليومين يكون الدعاء مُستجاباً بإذن الله؛ ففي الحديث: [خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ]، وفي لفظٍ: [أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ]. وفي حديثٍ آخر: [إِنَّ مِنْ أَفضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْم الجُمُعَةِ]، وحديث: [إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً، لا يُوافِقُها مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ فيها خَيْرًا، إلَّا أعْطاهُ إيَّاهُ]. ومغبونٌ -بل محرومٌ- من فوّت هذا اليوم باللهو، وبما لا يعود عليه بالنّفع.

والدعاء في ذاته عبادةٌ يُثاب عليها المرء، وقد يُعجِّل الله ثمرة هذه العبادة؛ وقد يكتب لنا خيراً مما ندعو به فيكون الدعاء سبباً لحصول نِعَمٍ أُخَرَ أو دفع مصائب، وقد يؤخر الله ثمرة الدعاء إلى الآخرة فيكفر به السيئات، ويرفع به الدرجات، وفي كل ذلك خيرٌ وفيرٌ، لا يُضيعه إلا جاهلٌ أو غافلٌ أو مُتكبر.

قال أحد العارفين: عندما تدعون الله -سبحانه وتعالى- اطلبوا المستحيل منه؛ فإنه ليستحيى من عبده إذا رفع يديه بالدعاء أن يردها صفراً. ليس من الزُهد التواضع في الدعاء؛ بل عليكم أن ترفعوا سقف دعائكم بكل ما تحتاجونه في الدنيا، وترفعوا سقف دعائكم بكل ما تتمنوه في الآخرة؛ بسؤالكم الفردوس الأعلى من الجنة، لا تترددوا، حتى لو رأيتم أنكم لا تستحقون ما تطلبون؛ فأنتم تتعاملون مع الله الوهاب الرزاق الكريم، العزيز العليم، السميع البصير، القوي المتين، القادر الذي لا يُعجزه شيءٌ، وفي ذلك عبادةٌ أخرى هي إحسان الظن بالله، وعلى قدر حُسن ظنك بالله تكون استجابته لدعائك.

 

أحبتي.. يُستحب الإكثار من ذِكر الله تعالى و(دعاء يوم عرفة) تُرجى إجابته؛ فهو أفضل أيام السنة للدعاء، والدعاء فيه أفضل من الدعاء في غيره، فما بالنا وهو يُصادف هذا العام يوم عيدنا الأسبوعي؛ يوم الجمعة، الذي فيه ساعة إجابة؟ حريٌ بنا أن نُفرِّغ أنفسنا في هذا اليوم للدعاء؛ فندعو لأنفسنا ووالدينا وزوجاتنا وأبنائنا وأقاربنا وجيراننا وأحبابنا وكل من أحسن إلينا وكل من له فضلٌ علينا ولجميع المسلمين، ولنحذر كل الحذر من التقصير في ذلك، فإن الدعاء في هذا اليوم إذا فات لا يُمكن تداركه، وليس في الإمكان تعويضه.

وأقول لمَّن أُغلِقت في وجهه الأبواب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، اطرق باب الله مُسبب الأسباب، وألحّ عليه في الدعاء، وارفع إليه الشكوى، وابكِ بين يديه، إنه ربٌ رحيمٌ، يستجيب لك، ويفتح لك الأبواب، ويفرِّج عنك ما بك من غمٍ وهمٍ وشِدّةٍ وكربٍ وضيق، فقط عليك أن تدْعُوهُ بِإِلْحَاحٍ وذلٍ وانكسارٍ وحُسنِ ظنٍ ويقينٍ وخشوعٍ، ادعوه برجاء؛ فكَمْ مِنْ أمرٍ بعدَ الرَّجَاءِ جَاء!

أعدِّوا أحبتي قلوبكم، وجهزوا دعواتكم، وتفرغوا يوم عرفة للدعاء والذِكر والعبادة، وكونوا من الصائمين. جعلنا الله وإياكم من المقبولين.

 

https://bit.ly/3PbXPqe