الجمعة، 20 أغسطس 2021

أليس منكم رجلٌ رشيد؟

 

خاطرة الجمعة /305


الجمعة 20 أغسطس 2021م

(أليس منكم رجلٌ رشيد؟)

 

قرأتُ مقالاً نُشر قبل حوالي أسبوعين عن حال شريحةٍ من الشباب في بلدٍ عربيٍ الغالبية العُظمى من مواطنيه مسلمون. هزني المقال هزاً عنيفاً؛ فالمقال يتضمن معلوماتٍ مُروعةً تُدلي بها شاهدة عيانٍ -هي ذاتها الصحفية التي كتبت المقال ونشرته في واحدةٍ من أهم صُحف ذلك البلد- كتبت تقول:

ما يفعله الشباب في الساحل الشمالي شيءٌ يُثير الخوف والحزن والاشمئزاز والذهول! أيّامٌ قليلةٌ أمضيتها في قريةٍ سياحيةٍ حرصتُ خلالها على التجول في مختلف القرى الأخرى الممتدة على طول الساحل فرأيتُ العجب العُجاب! شيءٌ لا يصدقه عقل! انحرافٌ لا مثيل له في العالم! شبابٌ ضائعٌ، صايعٌ، غير مسؤولٍ، فهل هؤلاء الشباب هُم مَن نُعَوِّل عليه لحمل راية الوطن والدفاع عنه؟!

ساقتني الصدفة لحضور حفلٍ -لمطربٍ شعبيٍ- لم أستطع البقاء فيه لأكثر من خمس عشرة دقيقة، لم تكن المفاجأة من حضور هذا العدد الضخم من الشباب، ولكن من سلوك هؤلاء الشباب؛ الكل -بلا استثناء- يرفع يده حاملاً كؤوس الخمر وفي حالة سُكرٍ غير عاديةٍ، ويتمايل يميناً وشمالاً، ويرقص بلا وعيٍ على إيقاع موسيقى تصم الآذان. هذا بخلاف مَنْ تلمحه عن بُعدٍ يختلس قبلةً ساخنةً دون اكتراثٍ بمن حوله، وكأننا في ماخور! ناهيك عن المظهر غير اللائق والعُري المُستباح، والتزاحم والتدافع وسط زحامٍ هائلٍ وكأننا في يوم الحشر! شيءٌ حقاً لا يُحتمل! لقد تفوقنا على المجتمعات الأجنبية في الانحلال والتمزق الاجتماعي؛ ما هذه العادات الغريبة الوافدة إلينا من الشيطان!؟ تُرى إلى أي طبقةٍ ينتمي هذا الشباب غير المسؤول، خاصةً بعد أن تعرف أن تذكرة الدخول للحفل كانت بألف جنيه، هذا إضافةً إلى المشروبات الكحولية والمزات والطعام والذي منه! أما إذا نزلتَ في الصباح أو ساعة العصاري على شواطئ بعض القرى السياحية على الساحل، فترى صورةً قبيحةً من الفتيات اللاتي يتجولن بالمايوهات البكيني والتكيني دون حياءٍ ولا كسوف! شيءٌ حقاً يُثير الذهول والقرف. هل هذا هو شباب الطبقة الأرستقراطية في بلدنا؟! هل هؤلاء الشباب -الذي من المفترض أنه ينتمي إلى عائلاتٍ راقيةٍ- هُم مَن سيتحمل المسؤولية؟! أين ذهبت أعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا؟! أين ذهبت الأسرة المتماسكة المترابطة؟! أين الآباء والأمهات الذين يُلقنون أبناءهم الأدب والأصول والأخلاق؟! حقاً، حزنتُ كثيراً على هؤلاء!

 

أحبتي في الله .. نقلتُ لكم المقال بتصرفٍ يسير؛ لنرى معاً صورةً واقعيةً لحال بعض الشباب في بلدنا المسلمة، ونسأل هؤلاء (أليس منكم رجلٌ رشيد؟).

لقد ذكرني هذا المقال بمقالٍ آخر نشره أحدهم منذ فترةٍ قال فيه:

كان الموقف مؤثراً ومثيراً للشفقة في ذات الوقت، مع احتراق القلب لما آل إليه حال الشباب محط آمال المستقبل، وذخيرة الغد، وعدة الأمة لملاقاة الأعادي، لقد كان المشهد لصبيٍ في مقتبل شبابه يبكي من كل قلبه، وبمنتهى الأسى والأسف لأن الفريق الذي يُشجعه خسر إحدى مبارياته، حتى لقد انعقد لسانه عن الرد على المذيع الذي لفت انتباهه شدة بكاء الصبي فأسرع ليعرف سبب هذا البكاء المرير، ويُحاول ترضيته بأنها ليست النهاية، ولكن الصبي لم يستطع أن يُتم الحديث وترك المُحاور وذهب وهو يبكي بكاءً مُراً.

يُذكرنا كاتب المقال بواقعةٍ حدثت عندما كان الصليبيون يخططون لإخراج المسلمين من الأندلس؛ إذ بعث الصليبيون أحد جواسيسهم إلى أرض الأندلس المسلمة ليعرف ما إذا كان الوقت مناسباً لإخراج المسلمين منها أم لا، وبينما الجاسوس يتجول في أراضي المسلمين إذا به يرى غلاماً يبكي وبجواره شابٌ يُطيِّب خاطره، فسأل الجاسوس الشاب: "ما الذي يُبكي صاحبك؟"، فقال: "يبكي لأنه كان يُصيب عشرة أسهمٍ من عشرةٍ في الرمي، لكنه اليوم أصاب تسعةً من عشرة"؛ فأرسل الجاسوس إلى الصليبيين يُخبرهم: «لن تستطيعوا هزيمة هؤلاء القوم فلا تغزوهم». ومرت الأعوام وتغيرت الأحوال وتبدلت معها الهمم والهموم، وجاء الجاسوس الصليبي إلى أرض المسلمين مرةً أخرى، فرأى شابين أحدهما يبكي والآخر يُطيِّب خاطره، فسأله الجاسوس: "ما الذي يُبكي صاحبك؟"، فأجابه: "إنه يبكي لأن فتاته التي يُحبها قد هجرته إلى غيره"؛ فأرسل الجاسوس إلى قومه: «أن اغزوهم الآن فإنهم مهزومون».

 

وإذا كان للأمر علاقةٌ بالتطور، فالتطور أمرٌ لا اعتراض عليه، إنه سُنة الحياة، وهو مقبولٌ من الجميع، لكن لا يستقيم أن يكون التطور بغير ضوابط ولا مرجعية، وإلا نكون قد فقدنا بوصلتنا، وفقدنا الاتجاه الصحيح.

إنّ ضوابطنا ومرجعيتنا في جميع مجالات الحياة -نحن المسلمين- هي الشريعة التي ارتضاها الله لنا؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة من فوق جبل الرحمة: [... تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ ...]. فأين نحن من كتاب الله؟ وهل التطور والحداثة يعنيان البُعد عن الدين وعن شرع الله؟ هل يجب على المسلمين أن يتخلوا عن عقيدتهم وأحكام دينهم حتى لا يوصفوا بأنهم متخلفون؟ لماذا نقبل الدنية في ديننا وقد أخبرنا المولى عزَّ وجلَّ بأننا الأعلون شرط أن نكون مؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾؟

هل من الحضارة والتقدم والمدنية والحداثة مجاراة أصحاب العقائد الباطلة فنكون كما وصفنا نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، حين قال: [لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ]؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: [فَمَن؟!].

هل اعتبرنا النهي عن المنكر من مخلفات الماضي؟ ألم نتعظ بما حدث لبني إسرائيل واستحقوا عليه لعنة الله؛ يقول تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

هل تاهت خطانا؟ هل أضعنا الطريق؟ أما آن لنا أن نستشعر مسئوليتنا عن حفظ الدين من الضياع؟ ثم ماذا نحن فاعلون إزاء كل ما نراه بأم أعيننا؟ هل نظل في حالة السلبية التي نحن عليها؟ أم يدفعنا الواقع المتردي -والذي يزداد كل يومٍ رداءةً وسوءاً- إلى أن نكون إيجابيين؟

هؤلاء الشباب -المشار إليهم في المقالين- أليس لهم أهل؟ ألا يوجد أبٌ يُوجه وأمٌ تُربي؟ أليس لهم إخوةٌ كبارٌ يرشدونهم؟ أليس لهم أخوالٌ وأعمامٌ يهتمون بأمرهم؟ أليس لهم أصدقاء صالحون يهدونهم إلى الهدى يقولون لهم: ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ﴾؟ أليس لهم ولي أمرٍ سمع بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، ...]. ألم يتعلم هؤلاء الشباب في مدارسهم شيئاً عن الحلال والحرام؟ ألم يسمعوا شيئاً عن المعلوم من الدين بالضرورة؟ ثم أين هو دور الجهات المسئولة لمواجهة مثل هذه التصرفات؟ هل هم راضون عن ذلك ويعتبرون كل هذه المخالفات الدينية الصارخة نوعاً من الحرية الشخصية؟ ألم تأخذهم الغيرة على دين الله؟ ألم يسمعوا بالأثر المعروف عن الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حين قال: «إنَّ اللهَ يَزَعُ بالسلطانِ ما لَا يَزَعُ بالقُرآن»؟

أسأل هؤلاء جميعاً: (أليس منكم رجلٌ رشيد؟).

 

أليس ما نراه منكراً؟ ألم يسمع البعض منا -أو أحدنا على الأقل- بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ]؟ وإذا كان قد سمع فماذا فعل؟

يقول أهل العلم إنه قد يكون الرجل صالحاً في نفسه، ويكون الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مُتعيناً عليه، ومع ذلك يُقصِّر فيه، فيقع ما ورد في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ، أَنْزَلَ اللهُ بَأسَهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَالِحُونَ؟ قَالَ: [نَعَمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِم صَالِحُونَ، يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسُ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ]، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بأن فيهم صالحين.

يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قال المفسرون: إذا كثُر المفسدون وقَلَّ الصالحون هلك المفسدون والصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف. واللهِ إني لأخشى إنْ قصَّرنا وتقاعسنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنْ يشملنا قول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.

 

أحبتي .. نقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، و«حسبنا الله ونعم الوكيل». ومع ذلك ينبغي علينا -ونحن نرى ما نرى- ألا نظل سلبيين كأن الأمر لا يخصنا أو يعنينا، إنه ديننا الذي أوشك أن يضيع منا، علينا أن نبدأ بأنفسنا، نُصلح أحوالنا وأحوال أبنائنا، ونُعلمهم ونُوجههم ونُرشدهم؛ نُعلمهم دينهم وسُنة نبيهم، ونُوجههم بأن نكون لهم قدوةً عمليةً يتمثلونها في حياتهم، ونُرشدهم إلى صحيح الدين في كل صغيرةٍ وكبيرة، وليكن ذلك باللين والحُسنى؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، ولنعلم جميعاً أننا محاسبون عن تقصيرنا.

علينا أحبتي أن نتحول جميعاً من مسلمين إلى مؤمنين، ومن صالحين إلى مُصلحين، وأن نفتح باب الحوار مع أبنائنا، ونرشدهم لاختيار أصدقائهم بعنايةٍ؛ فالصاحب ساحب.

كلمةٌ أخيرةٌ أوجهها إلى كل شابٍ غرته الحياة الدنيا فترك دينه، وإلى كل مسئولٍ عن هؤلاء الشباب، أقول كما قال لوطٌ عليه السلام لقومه الذين كانوا يعملون السيئات: ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾. لا خير فينا إن لم نقلها لهم، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها منا.

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم اهدنا إلى طريق الرشد لا نضل بعده أبداً. اللهم اهدنا سواء السبيل، ولا تؤاخذنا -ربنا- بما فعل السفهاء منا.

 

https://bit.ly/3AXNln3