الجمعة، 20 مايو 2016

إياك وما يُعتذر منه/1

20 مايو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٢

(إياك وما يُعتذر منه)

تمر على الإنسان في حياته مواقف كثيرة، لكن بعضها لا يُنسَى مهما مر الزمن؛ ربما لأنها مواقف سارة أو مواقف صادمة أو مواقف محرجة، ومن تلك الأخيرة ما حدث لي عام ١٩٧٣م وأنا أعمل بإدارة العلاقات العامة ببنك ناصر الاجتماعي، وكنت مسئولاً وقتها عن إنتاج وبث إعلان تلفزيوني عن البنك وأنشطته، فتعاقدنا مع وكالة الأهرام للإعلان لإنتاج الفيلم، اتفقنا على فكرته، وضعنا له السيناريو المناسب، قمت بصياغة المادة الكلامية المصاحبة للمشاهد، واتفقنا مع المخرج على جميع التفاصيل. بدأ التنفيذ بتصوير المشاهد المختلفة ثم تسجيل الصوت وبعدها تمت عملية المونتاج ثم تركيب الصوت على الصورة. انتهينا من إنتاج الفيلم وصار قابلاً للعرض وكانت مدته دقيقة وعشر ثوانٍ .. حاسبنا الوكالة على تكلفة إنتاج الفيلم، ثم تعاقدنا معها على حملة إعلانية بإذاعة الفيلم في التلفزيون لمدة ثلاثين يوماً متصلة، اخترنا وقت بث الإعلان الذي يحقق أعلى نسبة مشاهدة، وحددنا عدد مرات إذاعته في اليوم الواحد بمرتين اثنتين، واتفقنا على أن ندفع للوكالة مبلغ مائة جنيه مصري مقابل كل دقيقة بث (بأسعار ذلك الزمان!).
بعد انتهاء الحملة الإعلانية، قمت بإعداد مذكرة لإدارة الشئون المالية لتجهيز شيك للوكالة، وحسبت مستحقاتها على الوجه التالي: مدة الفيلم دقيقة وعشر ثوان، سعر عرض الدقيقة الواحدة مائة جنيه، تكون تكلفة العرض لمرة واحدة مائة وعشر جنيهات، تم العرض ستين مرة، يكون المستحق للوكالة مبلغ ستة آلاف وستمائة جنيه مصري فقط لا غير. انتهت السنة المالية، واتصل بي مندوب الوكالة يسألني عن الشيك الخاص بمستحقاتهم عن الحملة، طلبت منه إمهالي بضع دقائق أراجع فيها إدارة الشئون المالية، ولما تأكدت من وجود الشيك جاهزاً للتسليم سارعت إلى الاتصال به وأخبرته بذلك فوعدني بالمرور في اليوم التالي لاستلام الشيك. حضر المندوب وتوجه لإدارة الشئون المالية لاستلام الشيك، إلا أن مفاجأة لم تكن في الحسبان، رفض المندوب استلام الشيك وقال إنه يختلف عن المبلغ المتفق عليه! .. حدثت مشكلة وكان لابد من استدعائي باعتباري المسئول عن إعداد مذكرة صرف المستحقات .. ووسط حشد من زملائنا العاملين بتلك الإدارة قلت للمندوب: "اتفقنا على إذاعة الإعلان لستين مرة"، قال: "صحيح"، استطردت قائلاً: "واتفقنا على مائة جنيه للدقيقة"، قال: "صحيح"، قلت له: "تكون تكلفة المرة الواحدة مائة وعشرة جنيهات"، قال: "غير صحيح، هنا تكمن المشكلة"، قلت له: "كيف؟"، قال: "الثوان العشر أنت حسبتها ١٠٪ من قيمة الدقيقة الواحدة"، قلت له: "صحيح"، قال لي: "الثوان العشر سُدس دقيقة وليست عُشر، وهي تساوي ١٦.٦٦٪ من الدقيقة وليس ١٠٪؛ لأن الدقيقة ٦٠ ثانية وليست ١٠٠ ثانية فتكون تكلفة عرض الإعلان للمرة الواحدة هي ١١٦.٦٦جنيه وليست ١١٠ جنيه، وعليه كنت أتوقع استلام شيك بقيمة ٧٠٠٠ جنيه وليس ٦٦٠٠ جنيه!". أُسقط في يدي، ووجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه، الكل ينظر إلي، تمنيت لو أن الأرض انشقت وبلعتني. لحظات قليلة عدت علي وكأنها دهر، استعدت بعدها زمام الأمور لينتهي الموقف بوعد مني لمندوب الوكالة بتصحيح الأمر بأسرع ما يمكن ومعاودة الاتصال به، فانصرف شاكراً.
كانت هناك مشكلة أخرى في انتظاري، فقد أخبرني مدير إدارة الشئون المالية أننا بدأنا للتو في سنة مالية جديدة، وحسابات السنة المالية التي انتهت قد أغلقت ولا يمكن إجراء أي تعديل فيها، سألته: "ما العمل إذن؟"، أجاب باقتضاب: "لا بديل عن عرض الأمر على رئيس مجلس إدارة البنك فهو الوحيد الذي يملك حق إجراء تعديلات على موازنة انتهت وتم التصديق عليها".
يا إلهي، ماذا لو رفض رئيس مجلس الإدارة أن يصدر قراراً بتعديل الموازنة المغلقة؟ هل أدفع أنا الفرق خصماً من مرتبي؟ وكيف يكون ذلك؟ الفرق٤٠٠ جنيه ومرتبي لم يكن يتجاوز وقتها ٢٠ جنيه (نعم عشرون) فقط؟ إنها كارثة بكل المقاييس .. استرها يا رب ..
عُرض الأمر على رئيس مجلس إدارة البنك (المرحوم بإذن الله الأستاذ/ صلاح عوض) فاستدعاني، وسألني عن الموضوع قلت باختصار: "لقد حسبت ١٠ ثوان على أنها عُشر دقيقة في حين أنها سُدس دقيقة، هذا هو سبب المشكلة"، فوجئت به يهون الأمر علي ويقول لي مبتسماً بحنية أب يطمئن ابنه: "يا ابني أنا لو مكانك كنت فكرت بنفس الطريقة"، أحسست لحظتها بأن جبلاً كان يجثم على صدري قد انزاح.
الحمد لله، انتهى الأمر تماماً، وقامت إدارة الشئون المالية بإصدار شيك جديد بالقيمة المستحقة استلمه مندوب الوكالة الإعلانية، لكن بالنسبة لي كان الأمر محرجاً ومخجلاً، كما كان درساً لي تعلمت منه الكثير.
أحبتي في الله .. لا يخطئ أبداً إلا من لا يعمل .. الخطأ وارد دائماً .. [ كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] .. لكن علينا أن نتعلم من أخطائنا .. ونستفيد من تجاربنا .. وإلا تكررت الأخطاء، وهذا ما حذرنا منه المصطفى عليه الصلاة والسلام حينما قال: [لا يُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين].
كما أنه من الواجب علينا أن نحسن العمل الموكول لنا أداؤه ونجيده ونتقنه لقوله صلى الله عليه وسلم: [إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه]، وعلينا أن نضع نصب أعيننا التوجيه النبوي الذي يضمن لنا الكرامة وعزة النفس: [إياك وما يعتذر منه].
أحبتي .. المؤمن عزيز النفس؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، لذلك على المؤمن ألا يضع نفسه في موقف يُضطر فيه إلى الاعتذار .. فلنتقن أعمالنا، ونحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الآخرون، وندقق ونراجع ونتأكد من صحة عملنا خاصةً عندما يتعلق الأمر بحقوق الآخرين .. وبشكل أعم ينبغي ألا نخطئ في علاقاتنا ومعاملاتنا مع الغير، ونتعامل مع الجميع بالحسنى حتى لا نصل إلى ما نضطر للاعتذار منه.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.