الجمعة، 19 نوفمبر 2021

البر بالأم

 خاطرة الجمعة /318


الجمعة 19 نوفمبر 2021م

(البر بالأم)

 

تقول راوية القصة: تقدّم أحدُهم لخطبتي وكان شرطه الوحيد للزواج هو الاعتناء بوالدته. أخبرني بأنه لن يطلب مني أكثر من ذلك، فقط أُراعي أمه وقت غيابه؛ فأُمه طريحة الفراش منذ عشرة أعوام، فبعد وفاة والده لم يبقَ له سواها من الحياة. قال لي: "فقط هذا شرطي: أمي، أعرف بأنكِ لستِ مُكّلفةً برعايتها أو خدمتها ولكن إذا وافقتِ فستعملين ذلك من باب إنسانيتك وطاعةً لي". كانت أمه قد تعرضت لحادث سيرٍ مُرعبٍ فقدت بعده التحكم في جسمها بالكامل وشُلت أطرافها، وكان هو القائم برعايتها، ولكن نظراً لدراسته وعمله، فإن هناك أوقاتاً يغيب عنها وهي بحاجةٍ إلى أدويةٍ واهتمام. فكّرتُ كثيراً وتحيّرتُ كثيراً؛ فهذا كأنه بحاجةٍ إلى خادمةٍ وليس زوجة. تكلّمتُ مع والدي الذي خفف من ضجيج تفكيري وقال لي: "اسمعي يا ابنتي، هذا مستقبلك، وليس لي حق التأثير عليكِ، ولكن طالما سألتيني رأيي فأنا أؤمن جيداً بأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وشخصٌ كهذا حريصٌ على والدته لن يُضيعك معه ولن يظلمك حقك؛ إن أحبك أكرمك، وإن كرهك لن يظلمك، فإذا كنتِ ستُراعين أمه ليس بشكلٍ يُرضيه ولكن ستضعيها في مقام أمك فاقبلي ابنتي، وإذا كان الشيطان سيجد بابه إلى قلبك فيحملك على ظُلمها فقولك "لا" أسلم لكِ".

تزّوجنا، وفي أول ليلةٍ لي معه أخذني إلى غُرفة والدته، صُعقت من منظر الغرفة كانت كقطعةٍ من الجنة؛ ألوانها، ترتيبها، وسائل التدفئة فيها، كانت الغرفة مُختلفةً تماماً عن باقي غرف البيت. تركني واقترب من سرير أمه، كانت نائمةً أخذ يهز كتفها برفقٍ قائلاً: "ماما، لقد أحضرتُ هديتي لكِ؛ هذه زوجتي ألا تريدين رؤيتها؟!" فتحت عينيها برفقٍ ونظرت له بابتسامةٍ وادعةٍ ثم حوّلت نظرها إليّ، لا أستطيع وصف تلك اللحظة، عيناها مليئتان بألمٍ، وثغرها مبتسمٌ بحُزنٍ، كان وجهها كالقمر في ليلة تمامه، هادئٌ جداً بالنسبة لامرأة في السبعين من عمرها. قالت: "مُباركٌ عليكِ بُنيتي زفافك، وأدعو الله أن يهدي لكِ صغيري هذا، وأن يرزُقك ولداً باراً مثله، وألا تكوني ثقيلةً عليه مثلي"، ثم ذرفت عيناها دموعاً أشبه بفيضانٍ سُمح له بالجريان. سارع لمسح دموعها بكم بذلته وقال: "هذا الكلام يُغضبني وأنتِ تعلمين ذلك، أرجوكِ ماما لا تُعيديها"، واقتربتُ أنا منها وقبّلتُ يدها ورأسها وقلتُ: "آمين، ماما". مرت أيامي في هذا البيت ودهشتي فيه تزداد يوماً بعد يومٍ، كان هو من يُغيّر لها الحفّاض، وكان يُحممها في مكانها بفرشاة الاستحمام، وكان يُبلل لها شعرها ويُسرحه لها، وعندما تألمت من المشط أحضر لها مشطاً غريباً كان من الورق المُقوى الناعم من أجل فروة رأسها، كان قد رآه في أحد الإعلانات التجارية، أحضره لها، سُرّت جداً بذلك المشط، كان يُضّفر لها شعرها في جديلتين صغيرتين؛ فكانت تخجل عندما يفعل لها ذلك وتبتسم بحياءٍ وتقول: "لستُ صغيرةً لتفعل هذا أيها الولد، فلتُنهِ ذلك"، كان يرد: "عندما يُعجب أحدهم بكِ فستشكُريني"، عندها تغرق في ضحكٍ عميقٍ، كنتُ أرى زوجي من خلف ذلك الضحك ينظر إليها كطفلٍ ما زال في السادسة من عمره، حقاً كان يُحبها، بل ويُحبها جداً. لا أعرف ماذا قصد عندما أخبرني بأنه يُريدني أن أعتني بها، هو يفعل كل شيءٍ! أخبرني بأن وقت خروجه وعمله يستثقله عليها بأن تكون فيه وحيدةً، كنتُ أستغرب كيف يجد وقتاً لكل ذلك؟ فقط كنتُ أنا أساعدها في تناول وجباتها وأخذ أدويتها، هذا كل دوري. أحببتُ علاقته بها جداً، كان مُتعلقاً بها، وهي متعلقةٌ به أكثر؛ كان يستيقظ في الليل على الأقل ثلاث مراتٍ لينقلها من جانبٍ لآخر حتى لا تُصاب بقُرح الفراش وليطمئن عليها. كان مع كل مُناسبةٍ يُحضر لها ملابس جديدةً ويُشعرها بجو تلك المناسبة. وفي إحدى المرات كان قد نسي إحضار حفاضٍ لها، وعندما استيقظ ليلاً للاطمئنان عليها شم رائحة قذارةٍ فعرف أنها قد أطلقتها على نفسها، كانت تبكي بشدةٍ وتقول: "آسفة، حدث ذلك رغماً عني"، كان مُنهمكاً في تنظيفها وهي تبكي وتقول: "أنت لا تستحق مني ذلك، هذا ليس لائقاً بك، أدعو الله أن يُعجّل ما بقي لي من أيامٍ"، يرد قائلاً: "أفعل ذلك أمي بنفس درجة الرضا التي كنتِ تفعلينها بها في صغري". بكيتُ وتيقنتُ أن هذا الرجل فعلاً رِزْق. أنجبتُ منه ولداً تمنيتُ أن يكون مثله في كل شيءٍ؛ فحملته وذهبتُ به عند جدته ووضعته في حضنها وقلتُ لها: "أريده مثل ابنك"، فابتسمت وقالت: "صغيري هذا رزقٌ لي، والرزق بيد الله عزيزتي؛ فادعي الله أن يُربيه لكِ". كانت حياته كُلها بركةً وخيراً، لم يتذمر من والدته قط لا أمامي ولا أمام غيري، كانت رائحته تفوح بالبر بأمه حتى ظننتُ أنها تكفي جميع العاقين.

 

هذه قصةٌ عن (البر بالأم) رأينا فيها بر الابن بأمه. وإليكم قصةً أخرى عن بر زوجةٍ بأم زوجها، وكيف كان ذلك سبباً في إسلام ممرضةٍ أمريكية؛ كتبت الممرضة تقول:

أول مرةٍ سمعتُ فيها كلمة «الإسلام» كانت أثناء متابعتي لبرنامجٍ تليفزيوني، فضحكتُ من المعلومات التي سمعتها يومها. بعد عامٍ من سماعي لكلمة «الإسلام» استمعتُ لها مرة أخرى، ولكن أين؟ في المستشفى الذي أعمل فيه؛ حيث أتى زوجان وبصحبتهما امرأةٌ مريضةٌ. جلست الزوجة أمام المقعد الذي أجلس عليه لمتابعة عملي، وكنتُ ألاحظ عليها علامات القلق، وكانت تمسح دموعها. من باب الفضول سألتها عن سبب ضيقها، فأخبرتني أنها أتت من بلدٍ بعيدٍ مع زوجها الذي أحضر أمه باحثاً لها عن علاجٍ لمرضها العضال. كانت المرأة تتحدث معي وهي تبكي وتدعو لوالدة زوجها بالشفاء والعافية، فتعجبتُ لأمرها كثيراً! تأتي من بلدٍ بعيدٍ مع زوجها من أجل أن يُعالج أمه؟! تذكرتُ أمي وقلتُ في نفسي: "أين أمي؟ قبل أربعة أشهرٍ أهديتها زجاجة عطرٍ بمناسبة عيد الأم ولم أفكر منذ ذلك اليوم بزيارتها! هذه هي أمي فكيف لو كانت أم زوجي؟!". لقد أدهشني أمر هذين الزوجين، لا سيما أن حالة الأم صعبةٌ، وهي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. أدهشني أكثر أمر الزوجة؛ ما شأنها وأم زوجها؟! أتُتعب نفسها وهي الشابة الجميلة من أجل أم زوجها؟ لماذا؟ لم يعد يشغل بالي سوى هذا الموضوع. تخيلتُ نفسي لو أني مكان هذه الأم، يا للسعادة التي سأشعر بها، يا لحظ هذه العجوز، إني أغبطها كثيراً. كان الزوجان يجلسان طيلة الوقت معها، وكانت مكالماتٌ هاتفيةٌ تصل إليهما من الخارج يسأل فيها أصحابها عن حال الأم وصحتها. دخلتُ يوماً غرفة الانتظار فإذا بزوجة الابن جالسة، فانتهزتها فرصةً لأسألها عما أريد، حدثتني كثيراً عن حقوق الوالدين في الإسلام؛ وأذهلني ذلك القدر الكبير الذي يرفع الإسلام إليه الوالدين ويُوصي بهما ويأمر بالإحسان إليهما. بعد أيامٍ تُوفيت العجوز، فبكى ابنها وزوجته بكاءً حاراً وكأنهما طفلين صغيرين. بقيتُ أفكر في هذين الزوجين، وبما علمته عن حقوق الوالدين في الإسلام، وأرسلتُ إلى أحد المراكز الإسلامية بطلب كتابٍ عن حقوق الوالدين، ولما قرأته عشتُ بعده في أحلام يقظةٍ أتخيل خلالها أني أمٌ ولي أبناءٌ يحبونني ويسألون عني ويُحسنون إليّ حتى آخر لحظةٍ من عمري، ودون مقابل. دمعت عيناي؛ هذا دينٌ علّم الأبناء بر الآباء والأمهات، وأن يعيشوا معهم حتى الممات، وأن يرحموهم في الكبر؛ إنه الدين العظيم. اعتنقتُ الإسلام، والحمد لله تزوجتُ من رجلٍ مسلمٍ، وأنجبتُ طفلاً وسميته عبد الملك، أدعو له بالهداية والصلاح، وأن يرزقني الله بره.

 

أحبتي في الله .. ذُكرت الأم في القرآن الكريم في عدة مواضع توصينا بضرورة (البر بالأم)؛ منها: عن الحمل والولادة والرضاعة؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾. وعن أم موسى؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ويقول كذلك: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾. وعن أهوال يوم القيامة؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. وعن البيوت التي يأكل فيها الإنسان بغير حرج؛ يقول تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ...﴾.

 

كما ورد ذِكر الأم في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبين أهمية (البر بالأم)؛ منها: أن رجلاً أتى النبيَ – صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: “إني أشتهي الجهاد، وإني لا أقدر عليه، قال: [هل بَقِي أحدٌ مِن والديك؟] قال: أمي، قال: [فَأَبْلِ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرَّهَا؛ فإنَّك إذا فعلتَ ذلك، فأنتَ حاجٌّ ومُعتمر ومُجاهد، إذا رضيتْ عنك أُمُّك، فاتقِ اللهَ في برِّها]. {فَأَبْلِ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرَّهَا أي أعطه وأبلغ العذر فيها إليه، المعنى: أحسن فيما بينك وبين الله تعالى ببرك إياها}. وجاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: [هل لَكَ مِن أمٍّ؟]، قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]. وقالتْ أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما -: قَدِمَتْ عليّ أُمِّي وهي مُشرِكة في عهْدِ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فاستفتيتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قلتُ: إنَّ أمي قَدِمتْ وهي راغِبة أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قال: [نعم، صِلِي أُمَّكِ]. وقال رجلٌ: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: [أُمُّك، ثم أُمك، ثم أُمك، ثم أبوك]، يقول أهل العلم إن في الحديثُ إشارةٌ إلى أنَّ الأمَّ تفضَّلت على الأب بثلاثِ درجاتٍ، نظراً لحملها ووضعها وإرضاعها، فلزِم أن يكون حبُّها وبرُّها ثلاثة أضعاف برِّ الأب. كما أن الأمُّ أضعفُ وأعجزُ من الأبِ جسدياً، فكانَ مقدَّماً برُّها عليه. وكذلك فإن المشقَّة على الأمِّ في إنجابِ الولد ورعايته اضطرارية، أمَّا مشقَّة الأبوَّة فاختياريَّة، إذ تُضحّي الأمُّ بصحَّتها وراحة جسدها، فتقدّمت في البرِّ وفي وجوبِ الإنفاق عليها عند الحاجة.

 

أما عن الآداب التي تُراعى في مجال (البر بالأم) فمنها كما يشير العلماء: تقديمُ طاعتها على سائِر البشر. الإحسانُ إليها بالقولِ والعمل. خفض الجناح لها بالتواضعِ والانكسارِ وعدم التكبُّر عليها. ملاطفتها بالكلام وعدم نهرها أو رفع الصَّوت عليها أو التأفّف من شيءٍ فَعَلته. الإصغاء إلى كلامها، وعدم مقاطعتها فيه أو إقامة الحُجَّة عليها. الفرح بأداءِ طلباتها وترك التضجُّر منها. التودُّد لها وتعظيم شأنها في المجالس وتقبيل يدها ورأسها بين الفينة والأخرى. الابتعاد عن إزعاجها بالأخبار السيّئة. الاستئذانُ منها وطلب مشورتها في أمورِ الحياة. انتظارها لتناولِ الطَّعام وعدم البدء بذلك قبلها. البقاءُ عندها في حال مرضِها والسَّهر على راحتها وشفائها. الإنفاقُ عليها في حال الحاجة. الترويح عنها وإدخال السرور على قلبها. كثرة الاستغفار لها في حياتها وبعد مماتها. والصَّدقة عنها بعد موتها.

 

أحبتي .. (البر بالأم) من أعظم القربات لله سبحانه وتعالى. فمن كان منا يوقر أمه ويحترمها ويُقدم لها كل فروض الطاعة والولاء دون أي شكوى أو تذمر فهنيئاً له ما قدم لنفسه من خيرٍ له ثوابٌ عظيمٌ في الدنيا والآخرة. أما من كان مقصراً في ذلك فليراجع نفسه، ويسارع إلى تدارك ما فاته، عسى أن يُمهله ربه فيُعوِّض ما قد مضى ويحمد الله أن هداه ووفقه.

هدانا الله سواء السبيل لنيل رضا أمهاتنا؛ فإن كُنّ ما زلنّ على قيد الحياة، فهذه والله لفرصةٌ عظيمةٌ، محظوظٌ صاحبها، لا يُضيعها إلا أحمق. وإن كُنّ قد توفين فواجبنا تجاههن لم ينقطع؛ علينا أن ندعو لهن ونستغفر لهن ونسأل المولى عزَّ وجلّ أن يجمعنا بهن في الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم ارحم أمهاتنا أحياءً وأمواتاً.

https://bit.ly/3nxAuUY