الجمعة، 9 نوفمبر 2018

نهر العطاء


الجمعة 9 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة / ١٦٠
(نهر العطاء)

من القصص التي انتشرت خلال الأيام الماضية على معظم مواقع التواصل الاجتماعي، ويبدو أنها واقعية، القصة التالية:
يقول صاحبي: سئمت من أبي؛ من صراخه، من نقده، ومن عتابه. إذا دخل غرفتي وأنا خارجها ووجد المصباح مضاءً صرخ في وجهي: لِمَ كل هذا الهدر في الكهرباء؟ إذا دخل الحمام بعدي ووجد الصنبور يقطر ماءً صرخ بعلو صوته: لِمَ لا تُحكم غلقه قبل خروجك؟ ولِمَ كل هذا الهدر في المياه؟ دائماً ينتقدني ويتهمني بالسلبية، يعاتبني على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، حتى وهو على فراش المرض!
إلى أن جاء يوم الخلاص، اليوم الذي لطالما انتظرته؛ اليوم سأجري المقابلة الشخصية الأولى في حياتي للحصول على وظيفةٍ مرموقةٍ في إحدى الشركات الكبرى، وإن تم قبولي فسأترك هذا البيت إلى غير رجعةٍ، وأرتاح من أبي ومن صراخه وتوبيخه الدائم لي.
استيقظت في الصباح الباكر، استحممت ولبست أجمل الثياب وتعطرت، وهممت بالخروج فإذا بيدٍ تربت على كتفي عند الباب، التفت فوجدت أبي مبتسماً، رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جليةً على وجهه، ناولني بعض النقود وقال لي: "أريدك أن تكون إيجابياً واثقاً من نفسك ولا تهتز أمام أي سؤال". تقبلت النصيحة على مضضٍ، وابتسمت وأنا أتأفف من داخلي، حتى في هذه اللحظات لا يكف عن التنظير، وكأنه يتعمد تعكير مزاجي حتى في أسعد لحظات حياتي.
خرجت من البيت مسرعاً واستأجرت سيارة أجرة وتوجهت إلى الشركة، وما إن وصلت ودخلت من بوابتها حتى تعجبت كل العجب! فلم يكن هناك حراسٌ عند الباب، ولا موظفو استقبالٍ، لا يوجد سوى لوحاتٍ إرشاديةٍ تقود إلى مكان المقابلة! وبمجرد أن دخلت من الباب لاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضةً للكسر إن اصطدم به أحدٌ؛ فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بأن أكون إيجابياً، فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيداً. ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقةً بالمياه التي كانت تطفو من أحد أحواض الزهور الذي امتلأ بالماء الى آخره، وقد بدا أن البستاني قد انشغل عنه. فتذكرت تعنيف أبي لي على هدر المياه فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته في حوضٍ آخر مع تقليل ضخ الماء من الصنبور حتى لا يمتلأ الحوض بسرعةٍ إلى حين عودة البستاني. ثم دخلت مبنى الشركة متتبعاً اللوحات؛ وخلال صعودي على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن في وضح النهار فقمت لا إرادياً بإطفائها خوفاً من صراخ أبي الذي كان يرن في أذني أينما ذهبت. إلى أن وصلت إلى الدور العلوي ففوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين للوظيفة. قمت بتسجيل اسمي في قائمة المتقدمين وجلست أنتظر دوري وأنا أتمعن وجوه الحاضرين، تأملت ملابسهم فشعرت بالدونية من ملابسي وهيئتي، كان البعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من جامعاتٍ أمريكيةٍ، والبعض يتحدث عن بطاقة توصيةٍ معه. ثم لاحظت أن كل من يدخل المقابلة ما يلبث أن يخرج في أقل من دقيقةٍ واحدةٍ؛ قلت في نفسي إن كان هؤلاء بملابسهم الأنيقة وشهاداتهم الأجنبية وبطاقات التوصية معهم قد تم رفضهم فهل سأُقبل أنا؟! قررت الانسحاب والخروج بكرامتي من هذه المنافسة الخاسرة قبل أن يُقال لي: "نعتذر منك"؛ انتفضت من مكاني وهممتُ بالخروج فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول، فقلت لا مناص سأدخل وأمري إلى الله. دخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاصٍ نظروا إليّ وابتسموا ابتسامةً عريضةً، ثم قال أحدهم: "متى تحب أن تستلم الوظيفة"؟، ذُهلت لوهلةٍ وظننت أنهم يسخرون مني، أو أنه أحد أسئلة المقابلة ووراء هذا السؤال ما وراءه، فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بألا أهتز وأن أكون واثقاً من نفسي؛ فأجبتهم بكل ثقةٍ: "بعد أن أجتاز الاختبار بنجاحٍ إن شاء الله". فقال آخر: "لقد نجحت في الامتحان وانتهى الأمر"، فقلت: "ولكن أحداً منكم لم يسألني سؤالاً واحداً"!، فقال الثالث: "نحن ندرك جيداً أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أيٍ من المتقدمين؛ ولذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عملياً؛ فصممنا مجموعة اختباراتٍ عمليةٍ تكشف لنا سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التي يتمتع بها، ومدى حرصه على مقدرات الشركة، فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيبٍ تعمدنا وضعه في طريق كل متقدمٍ، وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبةٍ وُضعت في مدخل الشركة وأروقتها".

يقول صاحبي .. حينها فقط اختفت كل الوجوه من أمام عيني، ونسيت الوظيفة والمقابلة وكل شيء، ولم أعد أرى إلا صورة أبي! ذلك الباب الكبير الذي ظاهره القسوة ولكن باطنه الرحمة والمودة والحب والحنان والطمأنينة. شعرتُ برغبةٍ جامحةٍ في العودة إلى البيت والانكفاء لتقبيل يديه وقدميه. اشتقت إلى سماع صوته وموسيقى صراخه تطرب أذني. لماذا لم أرَ أبي هكذا من قبل؟ كيف عميت عيناي عنه؟ عميت عن العطاء بلا مقابل، عن الحنان بلا حدود، عن الإجابة بلا سؤال، عن النصيحة بلا استشارة. تمنيت لو ركبتُ بساط الريح لأعود إلى بيتي وأحتفل مع أبي بفوزي بالوظيفة الجديدة. تركت لهم ملفاً كاملاً يحوي شهاداتي وأوراقي، وخرجتُ مسرعاً؛ خطواتي تسابق الريح للحاق بقلبي الذي سبقني فَرِحاً إلى البيت.
لكن ما إن وقفت عند أول الشارع حتى رأيت ازدحاماً أمام عمارتنا! اقتربت بحذرٍ ودقات قلبي يضرب بعضها بعضاً، فتلقاني جاري باكياً واحتضنني قائلاً: "عظم الله أجرك في أبيك". تسمرت قدماي في الأرض ولم تعد تقوى على حملي، ضاعت فرحتي واسودت الدنيا في وجهي، وبدأت الأرض تدور من حولي. هممت بسؤال كل من مَرَّ بجانبي أحقاً مات أبي؟ أحقاً رحل ولن يعود؟ لا، لا لم يمت حبيبي فهو موجود. رحيلك مُرٌّ يا أبي. ليس هناك أقسى على النفس من رؤية حبيبك مُسجَّىً بلا حراكٍ، تراه ولا يراك، تنظر إليه للمرة الأخيرة ولا تكاد تصدق ما تراه عيناك.
يا أيها الطاهر النقي .. يا أيها الطيِّب السخي .. يا (نهر العطاء) .. لو كنت أعلم أنك سترحل لكنت أعددتُ نفسي، وتقربتُ منك أكثر وتزودت من برك بما قد ينفعني بعد وفاتك .. لو كنت أعلم برحيلك لأخبرتك أنِّي لا أجد نفسي من دونك، ولا أعلم كيف ستصبح حياتي بعدك .. ليتك تسمعني الآن لأُخبرك أنَّ فراقك ينتزع روحي من جسدي، ويقذف بي إلى أعماق المجهول .. رحلتَ وفي القلب غُصَّةٌ وفي النفس حسرةٌ على كل يومٍ لم أمتع ناظري برؤية وجهك البشوش ولا أذني بسماع صوتك الحنون .. منحتنا كل شيءٍ ولم تأخذ منا شيئاً .. ومنذ عرفتُ الحياة وأنت لنا العطاء والاحتواء، والصبر والوفاء .. كنتَ أنت البارَّ بنا ولم تنلْ منا البِر كما يجب أن يكون .. غبتَ يا أبي وغاب عني العقل الرشيد والركن الشديد، والسند المتين، والناصح الأمين.
لم يمت أبي ولن يموت؛ بل سيظل حياً في صلاتي، في دعائي، في ركوعي، في سجودي، في صدقتي، في حجي، في عمرتي، وفي كل عملٍ أتقرب به إلى الله أسأله أن يغفر لأبي ويتغمده بواسع رحمته. لم يمت أبي وإن مات فهو باقٍ في نفسي إلى أن ألحق به في جنات الخُلود .. رحم الله أبي وأسكنه فسيح جناته.

أحبتي في الله .. أبكتني هذه القصة؛ حتى أن دموعاً ساخنةً بدأت تنساب على وجنتيّ حين تذكرت أبي رحمه الله وكان بالفعل (نهر العطاء) الحاني العطوف الذي لم أوفهِ حقه بِراً في حياته كما ينبغي أن يكون البر. واستحضرت متحسراً أحوال الكثير منا مع مَن يحبون فتساءلت في نفسي لماذا لا نتذكر أحبتنا إلا بعد أن نفقدهم؟ لماذا لا نجعلهم يحسون بحبنا لهم وهُم معنا؟ ولماذا يذكر الأبناء آباءهم بكل الخير والحب والشوق بعد وفاتهم، وقد كانوا غير بارين بهم وهم أحياء؟
قصص عدم البر بالوالدين، خاصةً الأب، كثيرةٌ مؤلمةٌ وموجعةٌ، فهل ما يبديه الأبناء من الحب والترحم على أبيهم بعد موته هو تعبيرٌ عن الإحساس بالذنب؟ هل هو تكفيرٌ عن تقصيرهم وعدم برهم بآبائهم في حياتهم؟ ربما!

إن حق الوالدين على الأبناء ثابتٌ في كثيرٍ من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة؛ ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقوله سبحانه موضحاً بعض صور الإحسان بالوالدين: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: [الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا]، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: [بِرّ الْوَالِدَيْنِ]، قَالَ ثُمَ أَيّ؟ قَالَ: [الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ].
وأَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ؛ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللهِ. قَالَ: [فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيّ]؟ قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ: [فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللهِ]؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: [فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا].
وقال عليه الصلاة والسلام: [رَغِم أَنف مَنْ أَدرْكَ أَبَويْهِ عِنْدَ الْكِبرِ أَحدُهُمَا أَوْ كِلاهُما فَلمْ يدْخلِ الجَنَّةَ].
وورد في حديثه صلى الله عليه وسلم حين صعد المنبر وقال: [آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ]، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ، آمِينَ آمِينَ، قَالَ: [إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: "رَغِمَ أَنْف رَجُل أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدهمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّة، قُلْ: آمِينَ"، فَقُلْتُ: آمِينَ].

وإن كانت الأم هي نبع الحنان، وكلنا يعلم اهتمام ديننا الإسلامي بها، فإن لنا مع الأب وهو (نهر العطاء) وقفةٌ؛ كيف ينبغي أن نعامله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]، وَفِي رِوَايَةٍ: [وَلَدٌ وَالِدَهُ].

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ].
كما قَالَ: [إنَّ أَطْيَبِ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ].
ورُويَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ].
وقَالَ أيضاً: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ].

ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وتلطفه مع أبيه في الخطاب عبرةٌ وعظةٌ؛ يخاطب عليه السلام أباه بأدبٍ جمٍ: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾، ويقول له متأدباً: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾، أدبٌ واحترامٌ وحبٌ لأبيه وخوفٌ عليه رغم كفره، وهو يعامل ابنه بمنتهى الشدة والصلافة؛ حيث قال: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾، ومع ذلك كان موقف الابن إبراهيم عليه السلام في غاية الأدب واللطف قَالَ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾. ثم عرض القرآن الكريم صورةً لأعظم البر للأب حينما استجاب الابن إسماعيل لأبيه إبراهيم دون تردد لما عرض عليه الرؤيا التي يذبحه فيها؛ فقال: ﴿يا أَبَتِ افعَل ما تُؤمَرُ سَتَجِدُني إِن شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرينَ﴾، درسٌ وموعظةٌ بليغةٌ وتأكيدٌ لما ورد في الأثر: "بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم"، وبيانٌ عمليٌ لكون الجزاء من جنس العمل.

أحبتي .. نصيحةٌ لكل ابنٍ ما زال أبوه حياً، احذر أن تفوتَك الفرصة، إنه بابٌ من أبواب الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه]، بادر ببره، وسارع إلى كسب رضاه، وابعد عن عقوقه أو هجره؛ إنه مع كبر سنه صار في حالةٍ من الضعف يحتاج معها إلى الرعاية والحنان. مهما كبرتَ وعلا شأنك فإن له عليك حق السمع والطاعة، وحسن الصحبة والعشرة والمعاملة، والأدب في الحديث، إن تكلم فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمشِ بين يديه، وحيّهِ بأحسن تحيةٍ، وقبِّل رأسه ويديه، فهذا من البر، ولا تنسَ أنه تلزمك النفقة عليه في حال احتياجه، والهدية له في حال غناه.
ومن كان أبوه ميتاً فليحرص على صلاح نفسه، وليُكثر من الدعاء لأبيه، والتصدق عنه إن استطاع، وله أن يقف عليه وقفاً فيكون صدقةً جاريةً له؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، والجزاء من جنس العمل، فلعل الابن باجتهاده في إلحاق النفع بوالده، يهيء الله له من ولده من يسعى لنفعه بعد وفاته.

اللهم اجعلنا بارين بآبائنا أحياءً وأمواتاً، فهم كانوا وما زالوا (نهر العطاء) المتدفق بغير حد، واجعل اللهم لنا من أبنائنا وذرياتنا قرة أعينٍ، واجعلنا وإياهم من عبادك الصالحين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/w7jWiS