الجمعة، 28 أكتوبر 2016

من أركان الإسلام

28 أكتوبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٥
(من أركان الإسلام)

من حوالي شهرين كنت أشاهد برنامجاً دينياً على إحدى القنوات الفضائية يتحدث فيه شيخ وقور عن فريضة الحج .. تحدث وأفاض عن مشروعية الحج وارتباط شعائره بقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام ومحاجاته لأبيه ولقومه، وما فعله بالأصنام، وقصة وضعه في النار وإنقاذ الله سبحانه وتعالى له منها، وإفحامه للنمرود، ثم مفارقته قومه وعشيرته وتركه أهله في صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، وكيف نبع ماء زمزم لتشرب منه السيدة هاجر وولدها إسماعيل وتتجمع حولهما قبيلة جرهم، ثم عرج على قصة بناء الكعبة برفع سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل القواعد من البيت، وتحدث عن قصة رؤيا سيدنا إبراهيم -ورؤيا الأنبياء حق- أنه يذبح ابنه إسماعيل وامتثاله هو وابنه لأمر الله، وفداء الله سبحانه وتعالى إسماعيل بذبح عظيم في اللحظة التي كان الابن فيها راقداً مستسلماً في انتظار الذبح والسكين في يد أبيه. شدني حديث الشيخ الوقور لسلاسته وربطه بين تلك الأحداث والمواقف وما يحدث في شعيرة الحج كل عام. وكان مما استشهد به الشيخ في هذا المقام قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، بعد أن أتم الشيخ حديثه بدأ في تلقي أسئلة المشاهدين عبر الهاتف، وإذا بإحدى المشاهدات تسأل الشيخ: "لماذا اختص الله سبحانه وتعالى الرجال بهذه العبادة دون النساء، رغم أن الحج هو (من أركان الإسلام) للجميع رجالاً ونساء؟"، في بداية رده استنكر الشيخ ذلك وقال أن الحج فريضة على جميع المسلمين سواءً في ذلك الرجال والنساء .. ثم انتبه لمقصود المشاهدة فسألها: "أتقصدين كلمة *رجالاً* التي وردت بالآية الكريمة؟"، قالت: "نعم، لماذا الرجال فقط؟"، علت ابتسامة على وجه الشيخ كادت أن تخرجه عن وقاره وقال لها: "رجالاً في هذا الموضع لا تعني الذكران من البشر وإنما تعني من يأتون للحج يمشون على أقدامهم؛ فهي ليست جمع رجل وإنما جمع راجل، والمقصود بهم القريبون من البيت الحرام الذين يتوجهون إليه مشياً على أرجلهم، ويبين الجزء الثاني من الآية الشريفة الصنف الآخر من الناس وهم البعيدون عن البيت العتيق الذين يأتونه للحج ركباناً على الرواحل".
وسأل مشاهد آخر عن معنى {السبيل} المذكور في الآية الكريمة: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، أجاب الشيخ بأن السبيل للقريب من البيت الحرام سهل هين، وأما سبيل البعيد فهو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن السبيل: [الزاد والراحلة]، فقال المشاهد: "أملك ما يكفي من المال لأداء فريضة الحج لكني في حاجة لهذا المال لشراء مسكن، فأيهما أولى؟"، رد الشيخ بذكاء: "هل تضمن لنفسك الحياة بعد أن تنتهي من شراء المسكن، وتضمن أن يتوفر لك مال آخر يكفي للحج؟ إذا كنت تضمن ذلك فلا تذهب للحج واشترِ المسكن"، قال المشاهد: "لا أضمن"، رد الشيخ: "إذن عليك بالحج استكمالاً لدينك ووفاءً لعهدك مع الله سبحانه وتعالى، وهو الرزاق الكريم؛ إذا قبل منك حجك فهنيئاً لك مسكنك الدائم في الجنة، ووفقك الله بإذنه تعالى ويسر لك شراء مسكنك الزائل في الحياة الدنيا".

أحبتي في الله .. استوقفني فيما شاهدته المدى الذي وصل إليه كثير من الناس في فهمهم ووعيهم بأصول دينهم .. فالحلقة كانت مخصصة لعبادة ذكر النبي أنها (من أركان الإسلام) في قوله عليه الصلاة والسلام: [‏بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏‏رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ]، أي أن معرفتنا بعبادة الحج وحكمها ومشروعيتها وعلى من تجب هي من الأمور التي ينبغي أن تكون معلومة لنا من الدين بالضرورة .. ومع ذلك فبعض المسلمين معلوماتهم عنها إما خاطئة مغلوطة وإما ضحلة قليلة.
كما استوقفني الحديث عن {السبيل} أو {الاستطاعة}، فكم من شخص مسلم عزيز عليّ من الأقارب والأصدقاء والجيران يفهمون {الاستطاعة} فهماً قاصراً يجعلهم يقدمون الكثير من الأشياء على أداء فريضة الحج! البعض ممن أعرف توفر لديه المال الكافي بالفعل لتأمين الزاد والراحلة لكنه قدم شراء سيارة جديدة أو تملك شاليه على البحر أو السفر في رحلة سياحية إلى أوروبا على أداء فريضة الحج التي هي (من أركان الإسلام) الثابتة والمؤكدة بنص كتاب الله وسنة رسوله والتي لا شك فيها ولا خلاف عليها، حتى إن بعض من أعرف قد تُوفي إلى رحمة الله من غير أن يؤدي هذه الفريضة. وإن تعجب فاعجب لحال من لديهم الاستطاعة بالفعل ولا يفكرون في أمر الحج، حتى تحسب أنهم أسقطوا من حساباتهم تماماً فكرة أداء فريضة الحج وكأنها ليست (من أركان الإسلام)!

أحبتي .. يقول أهل العلم عن الحج  -بفتح الحاء وكسرها- أنه: قَصْدُ بيت الله الحرام؛ إقامةً للنُّسك، وهو فرض عين مرَّة في العمر، ثبتَ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، يجب على كلِّ مسلم حُرٍّ مُكلَّف، سليمٍ، قادرٍ على النفقة، لدَيه ما يكفي أسرتَه ومَن تلزمه نفقتُهم مدَّة الحج، أمَّا المرأة فلا تخرج للحجِّ إلاَّ برفقة زوجها، أو مع مَحْرمٍ لها، أو نسوةٍ ثقات. قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله﴾، وقال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وقال كما أسلفنا: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾. وفي الحديث النبوي الشريف عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يا أيُّها الناس قد فرَض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا]. وقال مبيناً جزاء الحج المبرور: [الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة]، ومبشراً بمحو كل الذنوب والخطايا بقوله صلى الله عليه وسلم: [من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجعَ كما ولدَتْه أمُّه]، فهل من عاقل يضيع على نفسه هذا الجزاء الموعود ويهدر فرصة لا تُعوض لمحو الذنوب والخطايا؟
إلى أحبائي ممن تركوا أداء فريضة الحج وهم مستطيعون أقول: استحضروا وقوفكم بين يدي المولى سبحانه وتعالى للحساب يسألكم عن أركان دينكم، ما أتيتم منها وما تركتم .. لماذا تضيعون على أنفسكم فرصة الحج عاماً بعد عام؟ هل ضمنتم لأنفسكم الحياة حتى تتوفر لديكم إمكانات أخرى؟ وهل إذا أنعم عليكم الله بالحياة والمال هل تضمنون صحة أبدانكم التي تساعدكم على الوفاء بجميع مشاعر الحج وتحمل مشقة السفر والمناسك؟ ثم، هل إذا توافرت لديكم أموال أخرى في المستقبل ألن تحدثكم أنفسكم مرة أخرى بالإنفاق على أغراض أخرى زائلة وإرجاء الحج إلى حين ميسرة قد لا تأتي أبداً؟؛ فالنفس أمارة بالسوء يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، ويقول الرسول الكريم: [مَن أراد الحجَّ فليتعجَّل؛ فإنَّه قد يَمْرض المريض، وتضلُّ الضالَّة، وتَعْرض الحاجة]؛ فعجلوا بالحج أحبتي قبل أن يطرأ ما يَحُول بينكم وبين الحجِّ؛ فتفوت عليكم فرصة أخرى، ويضيع منكم خير كثير. سارعوا إلى أداء فريضة الحج التي هي (من أركان الإسلام)، من قبل أن يأتي يوم يصفه المولى عز وجل في الآية الكريمة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم


https://goo.gl/S9GYCa