الجمعة، 24 فبراير 2023

الخبيئة الصالحة

 

خاطرة الجمعة /384


الجمعة 24 فبراير 2023م

(الخبيئة الصالحة)

 

هذه القصة يرويها أحد كبار الأطباء؛ كتب يقول: منذ أكثر من عامٍ مضى، هاتفني والدي -رحمة الله عليه- ليوصيني بأحد أصدقائه القدامى، والذي سيزورني بالعيادة لعرض حالته عليّ، وأضاف والدي أن هذا الرجل واحدٌ من أفضل من عرفهم في حياته، وأنه رجلُ خيرٍ قضى جزءاً كبيراً من حياته في أعمال البر والدعوة، وله أيادٍ بيضاء على الكثير من الناس. جاءني الرجل، واحتفيتُ به إكراماً لوالدي، ولكن الأمر لسوء الحظ كان أكثر استفحالاً من أن يكون له علاجٌ عندي: سرطانٌ مُستشرٍ بالكبد، وجلطاتٌ سرطانيةٌ بالأوعية الدموية المُحيطة بالكبد، مع ارتفاعٍ صارخٍ بدلالات الأورام مصحوبٍ بانهيارٍ كاملٍ لوظائف الكبد. في واقع الأمر، في مثل هذه الحالات، لا نملك طبياً سوى ما يُسمى بالعلاج التحفظي، أو بطريقةٍ أكثر صراحةً، لا نعالج المرض وإنما نعالج الأعراض ونتعامل مع آلام المريض فقط. ما لفت انتباهي حينها هو التماسك الشديد للرجل، مع حقيقة معرفته بتفاصيل حالته، وإدراكه لطبيعة مرضه. ولكنني، وتلطيفاً للأمر، حاولتُ الحديث معه لطمأنته والتخفيف عنه، إلا أنه استشعر ذلك مني فقاطعني بقوله "يا دكتور لا تقلق عليّ، أنا أتيتُ لك فقط كي آخذ بالأسباب، لكن في النهاية المرض والشفاء، والحياة والموت، ليس بأيدينا، وإنما هو بيد المولى عزَّ وجلَّ". انصرف الرجل بعد أن أعطيته بعض الأدوية البسيطة والتعليمات الخاصة، وطلبتُ منه ألا يُمارس عملاً مُرهقاً بعد الآن، وأن يعود إليّ بعد شهرين للمتابعة. في مثل هذه الحالات، غالباً ما لا تتجاوز الفترة المُتوقعة للحياة ثلاثة أشهرٍ، وليتها تمر بدون معاناة، وإنما هي أيامٌ تمضي كالجحيم على المريض وأهله. تمر الأيام والشهور، ونسيتُ الرجل وسط انشغالات الحياة، حتى أتاني مرةً ثانيةً للمتابعة بعد مرور سبعة أشهر. اندهشت عندما علمتُ بقدومه وأنه لا يزال على قيد الحياة، وزاد استغرابي عندما دخل عليّ الغرفة موفور الصحة يمشي على قدميه سليماً مُعافى، طلبتُ منه الصعود إلى سرير الكشف لفحصه بالموجات فوق الصوتية. وكانت المفاجأة؛ أن ذلك المرض الخبيث لا وجود له، مع اختفاء كل ما كان ظاهراً من قبل من علاماتٍ لانتشاره. كَذّبتُ عينيّ، وطلبتُ من الرجل عمل فحصٍ جديدٍ بالأشعة المقطعية ليكون أكثر دقةً، على أن يُجريه في نفس مكان الفحص السابق، وكذلك إعادة عمل وظائف الكبد ودلالات الأورام. في صباح اليوم التالي، تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من أحد أساتذة الأشعة المشهود لهم بالكفاءة، ومن العاملين بالمركز الذي أحلتُ إليه المريض، سألني الأستاذ سؤالاً يبدو غريباً: "دكتور؛ هل أعطيتَ المريض علاجاً للأورام؟"، أجبته بأنني لم أُعطه شيئاً بسبب تأخر حالته وعدم وجود علاجٍ لمثل هذه الحالات، صمت الأستاذ قليلاً وكأنه غير مصدقٍ لما أقول، ثم سألني مرةً ثانيةً إن كنتُ قد أعطيته أحد الأدوية تحت البحث أو أدخلته في إحدى التجارب السريرية لواحدٍ من العقاقير الحديثة، ووعدني بأنه لن يُخبر أحداً عن الأمر، فأجبته مرةً ثانيةً بالنفي، وقلتُ له إنّ مثل هذه الأبحاث ما كانت لتتم بدون علم المريض وموافقته الكتابية المسبقة، صمت مرةً أخرى ثم باح لي بشكوكه: "أخبرني المريض بأنك أعطيته أدويةً من عندك!". تذكرتُ عندها وأخبرتُ الرجل بأنني أعطيتُ المريض بعضاً من العينات المجانية لمُنشطات للكبد ليس لها قيمةٌ حقيقيةٌ في حالته، زادت حيرة الرجل، ثم قال لي: "الحقيقة أنا لا أعرف ماذا أكتب في التقرير؟ لا أجد شيئاً في الأشعة الجديدة، ولولا أنّ الأشعة القديمة عملها المريض عندي، وكنتُ أنا الذي كتبتُ التقرير بنفسي، ما كنتُ صدقت هذا!". ترقبتُ مجيء المريض، والذي بدوره لم يبطئ عليّ وأتاني يحمل نتائج الأشعة والفحوصات. حقيقةً لم أُصدق عينيّ وأنا أرى كل الفحوصات سليمة؛ دلالات الأورام عادت لطبيعتها، ووظائف الكبد جيدةٌ. أخبرتُ الرجل وذويه بالأمر كله، وختمتُ حديثي معه بأنني لا أملك تفسيراً علمياً لما حدث، وأنني أنا من يطلب منه التفسير؛ لم يُبدِ الرجل أي أثرٍ للاندهاش كما توقعتُ، فقط ابتسم وقال لي جملةً واحدةً: "إنّ لي عند الله خبيئةً لم أُخبر أحداً بها؛ فدعوته بها فأكرمني"، ثم انصرف وتركني وأنا لا أستطيع كبح دموعي.

 

أحبتي في الله.. إنها (الخبيئة الصالحة) عبادة الأتقياء الأنقياء الأصفياء البعيدين عن النفاق.

ذكرتني هذه القصة بأخرى أغرب منها؛ كتب صاحبها يقول: أنا أعمل في أكثر من جمعيةٍ خيريةٍ لمُساعدة الفقراء. أسكن في بناءٍ من طابقين، وكل طابقٍ من شقتين؛ طابقٌ لصاحب البناء وابنه، وأنا في الطابق الأخير مع جارٍ آخر، والطابق الأرضي مقسمٌ إلى شققٍ صغيرةٍ يسكن فيها أناسٌ بُسطاء. يأتيني ابن صاحب البناء كل شهرٍ ويُعطيني مبلغاً من المال قائلاً لي: "أعطهم للمستأجرين لأجل أن يدفعوها لوالدي إيجار بيوتهم!". لكن الأغرب أن الأب بعد أن يستلم الأجرة منهم، يأتيني قائلاً خُذ هذه الأجرة واشترِ للمستأجرين مواد تموينيةً ووزعها عليهم. الأب وابنه يطلبا مني أن أقول إنها من الجمعيات الخيرية، لا الأب يعرف أن ابنه يُساعد الناس، ولا الابن يعرف أنّ أباه يُساعدهم، والاثنان يُقدمان هذا الخير في السر!

 

يقول تعالى: ﴿إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ]، كما قال صلى الله عليه وسلم: [الجاهرُ بالقرآنِ كالجاهرِ بالصَّدقةِ، والمسرُّ بالقرآنِ كالمسرِّ بالصَّدقَةِ]، تأكيداً على أن صدقة السِّر أفضل من صدقة العلانية. وجاء من السبعة الذين يُظلّهم الله تعالى يوم القيامة في ظلّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: [ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ]؛ قال العلماء إذا كانت الدمعة في الخفاء لأجل الله ترفع مقام العبد عند ربّه فكيف بغيرها من العبادات؟ كيف بمجاهدة النفس في الخلوات؟ كيف بالصبر عن محارم الله؟ إنها والله لأجورٌ عظيمةٌ من ربٍ كريم. وتظهر أهمية (الخبيئة الصالحة) في تفريج الكُربات وقبول الدعاء؛ ففي حديث أهل الغار الذين سَدّت عليهم الصخرة مخرجه وتقطعت بهم الأسباب، لم ينفعهم إلا التوسل إلى الله بخبايا أعمالٍ صالحةٍ لهم أُحيطت بسياجٍ من الإخلاص والعبودية لله عزَّ وجلَّ، فكانت سبباً لتفريج كُرَبهم وخروجهم من الغار.

 

يقول أهل العلم إن الخبيئة عبادة السرّ والخفاء؛ يؤدّيها العبد في خلوته بينه وبين ربّه جلَّ وعلا، وهي زادٌ للإنسان في آخرته، ولا تكون إلّا من العبد الذي فاض حبّ الله في قلبه، حتى وصل إلى مرحلة إنكار نفسه وإخفاء عمله. ويبتغي العبد من (الخبيئة الصالحة) التجرّد إلى الله سبحانه؛ ليقبل عمله، وتُعدّ دليلاً على صدق العبد وإخلاصه ومحبته لله، ولها أثرٌ بالغٌ على الإيمان به؛ فليس شيءٌ أحبّ إلى الله من (الخبيئة الصالحة) يجعلها العبدُ بينه وبين ربّه، لا تطلعُ عليها الأعين لتمدحها، ولا تسمعها الأذن لتُثني عليها، تفعلها وليس في نيتك إلا الله، واثقاً أنه لا يضيع شيءٌ عنده. إنها (الخبيئة الصالحة) تجارةٌ رابحةٌ مع الله، مُشبعةٌ بالإخلاص، مجبولةٌ بالصدق، محصنةٌ بالكتمان، لا تشوبها شوائب طلب السُمعة والشُهرة، أو التعلّق بالمدح والثناء أو شائبة الرياء. هي زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته. إنها كنزٌ من كنوز الحسنات، وعبادةٌ تُبقيها ذُخراً لنفسك يوم تُبلى السرائر.

هي -كما قال أحد الصالحين- صدقةٌ دائمةٌ لا يرصدها الناس، وركعاتٌ في الليل وأهل بيتكَ يحسبونكَ نائماً، ديونٌ تُسددها عن الغارمين، كفالة يتيمٍ لن يعرفَ من كفله إلا يوم القيامة، بئرٌ تحفره لله قد يكون جزاؤه شربةً من يد النبي صلى الله عليه وسلم، دار تحفيظٍ تُنفقُ عليها أنت الذي لم تُسعفكَ ذاكرتكَ لتحفظ يُسخّر الله لكَ من يحفظ فيه وتكتبُ الملائكة في صحيفتك أجرهم جميعاً، منشورٌ تكتبه أو كتابٌ تؤلفه حُباً للهِ ودفاعاً عن دينه يُسخِّرُ الله لكَ آلاف الناس ليحملوه عنكَ ويبلغوه يلفُّ الكرة الأرضية وأنتَ جالسٌ في بيتك، يجعله سُبحانه سبباً لعودة تائبٍ ومواساةً لمحزونٍ وجبراً لمكسورٍ وهدايةً لحيران.

من أعظم أعمال السر وأحبها إلى الله، وأنفعها لصاحبها: صلاة النافلة وخاصةً صلاة الليل، وقد امتدح الله أصحابها وأثابهم عليها من جنس عملهم؛ يقول تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

كما أن الصيام من أعظم عبادات السر؛ لذا عظّم الله أجره؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له قال الله تعالى إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ].

(الخبيئة الصالحة) هي في الحقيقة صكُّ براءةٍ من النِّفاق والرِّياء، فلا يُمكن أن يُخالط الرِّياء وحبُّ الظُّهور العملَ الخفيَّ، كما لا يُمكن أن يتسلَّل النِّفاق إلى العمل الخالص لوجه الله.

 

ومن المُفارقات المُؤسفة أنه بدلاً من السعي لفعل (الخبيئة الصالحة) فإنّ الكثير من الناس لهم خبيئة سوءٍ؛ يفعلون في السر ما يُغضب الله سبحانه وتعالى، يبارزونه بالمعاصي والخطايا وفعل الذنوب والسيئات وارتكاب الموبقات، وهؤلاء يقول تعالى فيهم: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ وتنتهي الآية الكريمة بالتذكير: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾.

 

أحبتي.. صدق من قال عن (الخبيئة الصالحة) إنها زورقٌ مَن ركبه نجا، وعبادةٌ من اعتادها طَهُر قلبُه ورقّت نفسُه وتعودت الإخلاص، إنها العبادة في السر والطاعة في الخفاء، حيث لا يعرفك أحدٌ، ولا يعلم بك أحدٌ غير الله سبحانه، تُقدم العبادة له وحده، غير عابئٍ بنظر الناس إليك، وغير منتظرٍ لأجرٍ منهم أو شكرٍ أو مدحٍ أو استحسانٍ أو إعجابٍ. إن كثيراً من الذين أدهشهم عطاء‏ الله كانوا ممن يستغفرونه في الخفاء. فليكن كلٌ منا تقياً خفياً؛ وكما نصحني صديقٌ عزيزٌ قال: "ليكُن لكَ خَبيئة! فعلةُ خيرٍ لا يَعلمُها سِواك ومَنْ سَوَّاك، هذهِ الخَبيئة ستكُون لك -بإذن الله- حِرزاً من كلِّ ضررٍ وخَطرٍ، سَترفعُك إذا سَقطتَ، وتُقدِّمك إذا رَجعتَ، ستجدُ حلاوتَها في نفسِك، وبركَتها في أيَّامك، وإن لم تَنل ثمَرتَها في الدُّنيا، فترقَّبها في الآخرة، وما أحوجَك إليهَا حِينئذ".

اللهم يا من تعلم علانيتنا وسرنا، يا من ترى وتسمع ما نعمل وما نقول، وتعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، أعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك في السر والعلن.

 

https://bit.ly/3m2Mm2W