الجمعة، 5 فبراير 2021

عمل الخير يطيل العمر

 

خاطرة الجمعة /277


الجمعة 5 فبراير 2021م

(عمل الخير يطيل العمر)

 

في الأيام الخوالي في مدينة دمشق، أصيب أحد كبار التجار آنئذٍ بسرطانٍ قاتلٍ، ولم يكن له علاجٌ في تلك الآونة في سوريا كما هو اليوم. وسرعان ما عقد الرحيل إلى أمريكا. وبعدما أنهى جميع التحاليل والصور الطبية أخبره طبيبه المعالج هناك أنه لا نتيجة ولا فائدة مرجوة من العلاج؛ فقد استشرى السرطان بجسده ولم تعد هناك بارقة أملٍ تُذكر، وقال الطبيب للتاجر بصراحةٍ مطلقة: "لم يعد أمامك من العمر إلا أياماً معدودة لا تتجاوز شهراً واحداً فارجع إلى بلدك لتموت فيها، واغتنم ما تبقى لك من هذه الأيام القليلة فيما تُحب وتشتهي واستمتع"!

عاد التاجر إلى دمشق وقد مضى من شهره المتبقي ثلثاه؛ وبدأ ينتظر موعد حتفه ورحيله، وبينما هو كذلك ذات يومٍ ماطرٍ شعر بضيقٍ يأكل قلبه ويكتم أنفاسه؛ فترك البيت وذهب يمشي هائماً على وجهه، حتى شعر ببعض التعب فتوقف على رصيفٍ يسترد أنفاسه، شاهد على الرصيف امرأةً شابةً تحاور شاباً وسيماً يمضغ العلكة متمايلاً ويبدو على محياه علائم السعة والقوة، لم يكترث الشاب الغني للتاجر المريض وتابع حديثه مع الصبية الفقيرة وهو يساومها على جسدها، هكذا فهم التاجر من حديثها وصوتها الخفيض، وهي تشرح للشاب حاجتها لبعض المال وقليلٍ من الخبز؛ فقد رمى بها صاحب البيت الذي استأجرته مع أطفالها في الشارع ولم يكترث لحالها ولم يُعرها أي اهتمامٍ فهو يراها خدعته ولم تدفع قرشاً من أجرة ذلك البيت العتيق! غير أن الشاب الغني لم يتفق معها على ما طلبت، وهي تساومه على جسدها النحيل، فقد كان يريدها بثمنٍ بخس! لِمَ لا وهو الصياد الذكي، وتركها ومضى!! اقترب التاجر المريض من المرأة ورأى دموعاً من الأسى تفيض مرارةً؛ فقال لها: "اعذريني يا ابنتي فقد سمعتُ حواركما فما قصتك وما الذي دعاك لهذا العمل المشين"؟ التفتت إليه المرأة وقالت: "أولادي في الشارع، رمانا صاحب البيت خارجاً، وزوجي سجينٌ لا أعلم عنه شيئاً وليس لي أهل! وأقسم بالذي رفع السماوات بلا عمدٍ أنني أول مرةٍ أساوم فيها على جسدي، وقد فعلتُ ذلك بعد أن أُغلقت كل الابواب في وجهي وحتى هذا الباب لم يُفتح"، قال التاجر المريض: "اسمعي يا بنيتي؛ ماذا تقدمين لي إذا كفيتك حاجتك وأعطيتك كل العمر مؤونتك ومنعتُ الفقر عنك"؟!قالت: "اطلب ما تريد"، فقال لها: "أريد شيئاً واحداً أن تعاهديني على ألا تبيعي جسدك للحرام طول عمرك وأنا أتكفل بك مع أولادك"! قالت الصبية: "وافقت"، قال التاجر: "وما هو الضمان لتنفيذ ذلك"؟ قالت الصبية: أتقبل أن يكون الله ضامناً لي؟! أُشهد الله الذي لا يسمعنا غيره أن أفي بوعدي لك كل عمري وحياتي، وأحمد الله الذي أرسلك لي الآن"!! قال التاجر: "اتفقنا والشاهد علينا الله، أعطني عنوان بيتك وعودي وسأرجع إليك بعد قليل"! وسرعان ما عاد التاجر إلى مكتبه وسجل وصيته على ورقةٍ ووضعها في صندوق المال وكتب فيها: «أبنائي؛ وصيتي أن ترسلوا راتباً شهرياً يكفي خمسة أشخاص إلى العنوان المذكور في الأسفل طوال عمركم فنفذوا وصيتي من بعدي»! وعاد التاجر إلى بيت المرأة يحمل بسيارةٍ كبيرةٍ مؤونة بيتٍ متنوعةٍ، وقدم لصاحب البيت الإيجار عن الأشهر السابقة كلها، وإيجار ثلاث سنواتٍ قادمةٍ، وهكذا فعل مع اللحام والسمان وغيرهم. عاد التاجر إلى بيته وفي قلبه فرحٌ غامرٌ رغم أساه منتظراً حتفه في نهاية شهره المتبقي. وانتهى الشهر وانقضت مدة البقاء في هذه الدنيا غير أن الموت لم يقترب منه، وذهب أول الشهر إلى المرأة وناولها راتبها وقفل راجعاً.

وتوالت الأيام ولم يمت، وتوالت الأسابيع والشهور والسنون ولم يمت، وبقيت الوصية في خزنة النقود. بعد أكثر من عشرين عاماً نهض تاجرنا لصلاة الصبح وسجد خاشعاً وفي قلبه يقينٌ ونورٌ وإيمانٌ وطمأنينةٌ غير أنه لم ينهض وأسلم روحه لبارئها وهو ساجدٌ.

بعد انقضاء مدة العزاء فتح أولاده صندوق المال فوجدوا الوصية المكتوبة، قال كبيرهم: "تأخرنا سبعة أيام عن الراتب للمرأة الفقيرة"! ذهب بالراتب مسرعاً إلى العنوان المذكور، طرق الباب، وخرجت المرأة التي لم تعد صبيةً، قال لها: "تفضلي الراتب ونعتذر عن التأخير"، قالت له وفي عينيها دموعٌ سخيةٌ: "أشكركم من قلبي، قل لوالدك أن يبحث عن محتاجٍ غيرنا؛ لقد قبض ابني أول راتبٍ منذ سبعة أيام، ولم نعد بحاجة للمال! سلم لي على أبيك وقل له: سأبقى أدعو له ما حييت"، نظر ابن التاجر إليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال لها: "لقد تُوفي والدي منذ سبعة أيام"!

 

أحبتي في الله .. آيات القرآن الكريم التي تحض على عمل الخير كثيرةٌ، وجميعها توضح أنه من أعظم القربات لنيل رضا المولى عزَّ وجلَّ، وهو في ذات الوقت من الأعمال التي يعود نفعها على فاعلها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ تأمل وعده سبحانه ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾، انظر إلى دقة التعبير القرآني حين يصف عمل الخير بأننا نقدمه لأنفسنا، لم يقل وما تقدموا لغيركم، بل قال: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم﴾، تأكيداً على أن فاعل الخير يستفيد منه بأكثر مما يستفيد من يُقَدَم عمل الخير له، فعمل الخير يعود علينا بخيرٍ نجده عند الله، ويعود علينا بالأجر العظيم. وعمل الخير يُثاب عليه الإنسان ولو كان قليلاً بموازيننا نحن البشر، لكنه لا يضيع في ميزان الله؛ يقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾.

وفي قصتنا رأينا كيف أمدّ المولى سبحانه وتعالى في عمر هذا التاجر إلى اليوم الذي بدأت الأسرة التي كان يساعدها في الاكتفاء، أطال في عمره حتى مات في اليوم الذي تسلم فيه ابن المرأة أول راتبٍ له!

فهل (عمل الخير يطيل العمر)؟

 

من الناحية الشرعية؛ رد عالمٌ جليلٌ على هذا السؤال بقوله: نعم؛ جاء في الأحاديث الشريفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن البر من أسباب الفسح في الأجل، يقول صلى الله عليه وسلم: [لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ]، وليس معنى هذا أن القدر المحتوم يتغير، فما قدره الله سابقًا هو على ما قدره لا يتغير، لكنه سبحانه يُعلق أشياء بأشياء، فهذا يبر والديه ففسح الله له في الأجل بسبب بره والديه مثلاً. وقد سبق هذا في القدر السابق أنه يبر والديه وأن يقع له كذا وكذا، وأن يُؤخَر إلى كذا وكذا، وهذا يصل أرحامه؛ فيُؤخَر أجله، وهذا يتصدق كثيراً، ونحو ذلك. فالحاصل أن هذا يتعلق بالأقدار المعلقة على أسبابها، متى وُجدت أسبابها تحقق ما عُلق بها، وهذا كله من قدر الله تعالى؛ فالقدر قدران: قدرٌ محتومٌ لا حيلة فيه كالموت والهرم ونحو ذلك، وقدرٌ معلقٌ على أسبابٍ يوجَد بالأسباب التي عُلق بها، فيوجد الفسح في الأجل بسبب البر والصلة؛ لأنه عُلق على ذلك إلى الأجل الذي قدره الله سبحانه وسبق في علمه تعالى. وطول العمر نعمةٌ إذا اُستخدم في عمل الخير؛ سُئل النبي عليه الصلاة والسلام: من خير الناس؟ وفي روايةٍ: أي الناس أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ طَالَ عُمُرُه، وَحَسُنَ عَمَلُه].

وحين سأل أحدهم: هل الدعاء بطول العمر يُغير الأقدار، أم أنّ كل شيءٍ كُتب في اللوح المحفوظ ولا يمكن أن يتغير؟ رد أهل العلم بأن الدعاء بطول العمر لا بُد أن يُقيد بالعمل الصالح، فتقول اللهم أطل عمري بالعمل الصالح، والدعاء بطول العمر ليس محموداً، والأَوْلى بالإنسان أن يدعو الله أن يُبارك له في عمره وعمله، ولا يدعو بطول العمر، والدعاء بطول العمر لا يُغير ما كُتب للإنسان في اللوح المحفوظ، فإن ما كتب فيه لا يُغير أبداً، وإذا تغير عمره وطال فإنه مكتوبٌ في اللوح المحفوظ إنه سيَسأل الله طول العمر، وأن الله يُجيب دعاؤه ثم يُطيل عمره؛ يقول تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ والمعنى: يمحو الله تعالى ما يشاء محوه، ويُثبت ما يُريد إثباته من الخير أو الشر، ومن السعادة أو الشقاوة، ومن الصحة أو المرض، ومن الغنى أو الفقر، أو طول العمر، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه.

 

أما من الناحية العلمية؛ فيقول العلماء المختصون من جامعة هارفارد الأميركية، وهم بين الأكثر دقةً وجديةً، إن فعل الخير ومساعدة الآخرين "تُبعد الإنسان عن الموت المبكر" وتطيل الأعمار، لذلك اقترحوا "جرعةً" اعتبروها مثاليةً: الانخراط في أنشطة "لا أنانية" ولو لساعتين بالأسبوع فقط. ووجدوا، وفق بحثهم أن من يتطوعون بانتظامٍ لمساعدة الآخرين "هم أقل عرضةً للوفاة المبكرة والأكثر حظاً لاكتساب نظرةٍ إيجابيةٍ عن الحياة ممن يمتنعون عن الشيء نفسه" شارحين أن البشر "مخلوقاتٌ اجتماعيةٌ بطبيعتها، وربما هذا هو سبب مكافأة عقولنا وأجسادنا عندما نخدم الآخرين". وتوصلت الدراسة التي شملت تحليل وتتبع بيانات 13 ألف شخص، معدل عمر الواحد منهم 67 سنة، إلى أن التطوع لمساعدة كبار السن مثلاً "لا يُقوّي المجتمعات فقط، بل يغني حياتنا عبر تعزيز روابطنا مع الآخرين، ويساعدنا على التمتع بأفضل رضا، ويحمينا من مشاعر اليأس والوحدة والاكتئاب". وورد في الدراسة أن من تطوعوا لمساعدة الآخرين مدة 100 ساعة على الأقل في العام، أو ساعتين بالأسبوع تقريباً "كان لديهم مستوياتٍ أعلى من النشاط البدني، وشعورٌ أفضل بالصحة العقلية مقارنةً مع من امتنعوا" وفق ما استنتج البحث الذي استمر 4 سنوات، واكتشف العلماء أن هؤلاء المتطوعين انخفض لديهم خطر الموت بنسبة 44% وأصبحوا بنسبة 17% أقل احتمالاً للإصابة بحالاتٍ تُعيقهم جسدياً، ويميلون أكثر إلى مشاعر التفاؤل، مع أعراض اكتئابيةٍ أقل. وفي دراسةٍ أخرى أكد باحثون في جامعة بافالو الأمريكية، على وجود ترابطٍ واضحٍ بين الإعطاء بسخاءٍ، وتراجع فرص الوفاة؛ حيث تبين أن الدعم والمساندة الذي يمكن تقديمه للغرباء أو حتى للأهل والأقارب، يؤثر بشدةٍ على الطرفين إلى الدرجة التي تتراجع معها فرص الإصابة بأمراض مزمنةٍ تؤدي للوفاة. كما أكدت دراسةٌ طبيةٌ أجريت عام 2013م أن التطوع في الأعمال الخيرية له تأثيراتٌ ملموسةٌ على ضغط الدم؛ حيث أشارت الدراسة إلى أن كبار السن بالتحديد، والذين قاموا بأعمال تطوعيةٍ لأربع ساعاتٍ أسبوعياً فقط، تراجعت لديهم فرص الإصابة بارتفاع ضغط الدم على مدار أربع سنوات، بنحو 40%، مقارنةً بهؤلاء ممن لم يمارسوا أي أعمال خيرية في تلك الفترة الزمنية. وتوصلت إحدى الدراسات الأمريكية، والتي أخذت في الاعتبار ما يزيد عن 40 دراسة علمية أخرى، إلى أن القيام بالأعمال الخيرية لا يسعد صاحبه ويشعره بالإشباع النفسي وحسب، بل يقيه من مخاطر التعرض لأي كبواتٍ صحيةٍ في المستقبل القريب، يعد أبرزها الإصابة بالاكتئاب، حيث تقل فرص الإصابة به تماماً مع الاستمرار في تقديم المساندة للآخرين. وإضافةً إلى أن (عمل الخير يطيل العمر) فإنه يؤدي كذلك إلى الشعور بالسعادة؛ فقد أوضحت كافة الدراسات العلمية أن القيام بالأفعال الجيدة يُساعد بقوة على إفراز هرمون الإندورفين الذي يشعر صاحبه بالسعادة والإقبال على الحياة، مما يجعله يقوم بتلك الأفعال مراراً وتكرارا. كما أثبتت دراسةٌ خاصةٌ بجامعة ويسكونسن أنّ من يتطوعون دائماً لمساعدة الزملاء في العمل، هم أكثر الناس الذين يشعرون بالرضا والراحة في أعمالهم مقارنةً بالآخرين.

 

أحبتي .. تبين لنا شرعياً وعلمياً أن (عمل الخير يطيل العمر) بإذن الله، وحينما يطول عمر الإنسان ويحسن عمله يكون، كما أخبرنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، من خير الناس. فهيا بنا نتسابق في عمل الخير، بكل أنواعه وأشكاله، وفي مجالاته كافةً، وفي ذهننا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [أَحَبَُ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ]. ومن أمثلة ذلك: صدقةٌ لمحتاج، إطعام مسكين، كسوة فقير، سد دَيْنٍ عن غارم، شراء دواءٍ لمريضٍ فقير، إماطة الأذى عن الطريق، سعيٌ في مصلحةٍ لأرملةٍ أو مطلقةٍ أو شخصٍ غير قادر، تفقد جار والسؤال عنه، زيارة مريض، بر والدين، صلة رحم، وغير ذلك كثيرٌ وكثير. أهم ما نحرص عليه: إخلاص النية، ومداومة العمل والاستمرار عليه، وإخفاؤه قدر الإمكان؛ ليكون خبيئةً لنا ولنُبعد أنفسنا عن شبهة المُرَاءاة.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/3rqy3m5