الجمعة، 29 مايو 2020

المرأة الصالحة كنز

الجمعة 29 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤١

(المرأة الصالحة كنز)

 

كتب تحت عنوان: «علمتني زوجتي الكبيرة عقلاً الصغيرة عمراً» يقول: سافرتُ إلى دولةٍ أخرى في مهمة عملٍ لمدة ثلاثة أيامٍ، وفور وصولي لتلك الدولة اتصلتُ هاتفياً لأطمئن على زوجتي وابني، فأنا لم أتعود فراقهما، وهما لم يتعودا غيابي، طوال ثلاث سنواتٍ، هي عمر زواجي، لكن للأسف لم يرد على مكالماتي أحد!! مضت ثلاثة أيامٍ وهاتفي لم يفارق يدي، أتصل بدون مبالغةٍ كل ربع ساعةٍ أو نصف ساعةٍ ولا أجد جواباً!! جُنّ جنوني، واتصلتُ بأخي وأختي ليتفقدا أحوال أسرتي الصغيرة؛ فطمأناني!! لم أصدقهما واتصلتُ بأم زوجتي فطمأنتني، وأخبرتها أنني أنتظر أن تتصل بي زوجتي حتى أطمئن، ولكن طال انتظاري ولم تتصل!!! مرت الأيام الثلاثة كثلاثة شهورٍ، وكنتُ في داخلي أفور من الغضب حيناً، وأتعجب حيناً آخر محاولاً معرفة السبب!! في كثيرٍ من الأحيان كان الشيطان يوسوس لي بوساوس مرعبةٍ.

مرت الأيام ببطءٍ متثاقلة، عدتُ بعدها إلى بلدي. وما إن وطأت قدماي أرض الوطن حتى طرتُ إلى المنزل، ومن هلعي وشدة خوفي أخذتُ أطرق الباب بيدي حيناً وبالجرس حيناً حتى فتحت لي زوجتي الباب .. ولشدة المفاجأة!! فقد كانت في كامل زينتها وأناقتها واستقبلتني بكل حفاوةٍ وبأبهى حُلة!! ومن ورائها طفلي، وعيناه تتراقص فرحاً يركض لاحتضاني!! وأنا كالمخدَّر .. من الدهشة!!! وسرعان ما بدأ الغضب يحل محل الدهشة؛ فسألتُ زوجتي عن سبب هذا التجاهل، وقد كدتُ أقطع سفري وأسرع بالعودة، فقد كانت الظنون تأخذني يمنةً ويسرة .. فأجابت زوجتي بكل هدوء: "هل اتصلتَ بوالدتك؟"، أجبتُها ولم أفهم ما تقصد: "لا أدري، ربما؟ .. لا لا اتصلتُ بوالدتك أنتِ لأطمئن عليك على ابني"، قالت -وقد أصابتني في مقتل-: "أرأيتَ كيف كان شعور قلبك في هذه الأيام؟ هو نفسه شعور والدتك حين تنسى الاتصال بها بالأيام، ولا تسمع صوتها، إلا حين تبادر هي بالاتصال بك، بعد أن يلهبها الشوق ويجرفها الحنين وتأخذها الوساوس لطول غيابك عنها وعدم اتصالك بها .. حاولتُ كثيراً تنبيهك!! ولكن دون جدوى، فلم أجد أفضل من هذه الطريقة لأوصل لك الرسالة يا زوجي العزيز". طأطأتُ رأسي خجلاً من زوجتي الكبيرة عقلاً الصغيرة عمراً، وقد فهمتُ الدرس جيداً. وجدتُها تناولني مفتاح سيارتي وتهمس في أذني: "جنّتُك تنتظرك"؛ فانطلقتُ إلى حبيبتي الأولى أمي، بعد أن علمتني زوجتي الحكيمة درساً لن أنساه مدى الحياة، وأنا ممتنٌ لها أن جعلتني أتدارك نفسي والأيام قبل أن لا ينفع الندم.

صدق من قال: (المرأة الصالحة كنز).

 

وهذه قصةٌ أخرى لعجوزٍ تبحث عن هذا الكنز في بيوت أبنائها؛ حكت قصتها فقالت: لي ثلاثة أبناء ذكور، جميعهم متزوجون. زرتُ الكبير يوماً، وطلبتُ أن أبيت لدي، وفى الصباح طلبتُ من زوجته أن تأتيني بماءٍ للوضوء؛ فأتت به فتوضأتُ وصليتُ، ثم سكبتُ باقي الماء على الفراش الذي كنتُ أنام عليه، فلما جاءتني بشاي الصباح، قلتُ لها: "يا ابنتي هذا حال كبار السن؛ لقد تبولتُ على الفِراش"، فهاجت وماجت واسمعتني سيلاً من قبيح الألفاظ، ثم طلبت مني أن أغسل الفِراش وأجففه، وأن لا أفعل ذلك مرةً أخرى وإلا ... تظاهرتُ بأني أكتم غيظي، وغسلتُ الفِراش وجففته. ثم ذهبتُ لأبيتَ مع ابني الأوسط، وفعلتُ نفس الشيء؛ فاغتاظت زوجته، وأرعدت وأزبدت، وأخبرت زوجها الذي هو ابني فلم يزجرها، فخرجتُ من عندهم لأبيتَ مع ابني الصغير؛ ففعلتُ نفس الشيء، فلما جاءتني زوجته بشاي الصباح، وأخبرتها بتبولي على الفِراش قالت: "لا عليك يا أمي، هذا حال كبار السن، كم تبولنا على ثيابكم ونحن صغار"، ثم أخذتْ الفِراش وغسلتْه وجففتْه وطيبتْه، فقلتُ لها: "يا ابنتي إن لي صاحبةً أعطتني مالاً وطلبت مني أن أشتري لها حُلياً، وأنا لا أعرف مقاسها، وهي في حجمك هذا، فأعطني مقاس يدك". أخذتُ مقاس يدها، ثم ذهبتُ إلى السوق واشتريتُ ذهباً بكل مالي -وكان لي مالٌ كثير- ثم دعوتُ أبنائي الثلاثة وزوجاتهم فى بيتي، وأخرجتُ الذهب والحُلي، وحكيتُ لهم أني تعمدتُ صب الماء على الفِراش ولم أتبول عليه، ثم وضعتُ الذهب في يد زوجة ابني الأصغر وقلتُ: "هذه ابنتي التي سوف ألجأ إليها في كبري، وأقضي بقية عمري معها"، فصُعقت زوجتا ابنيها الكبير والأوسط وندمتا أشد الندم!

 

ورغم تحفظي الشخصي على التصرف الأخير لهذه العجوز، إذ اتسم بالتسرع وعدم الحكمة، إلا أنها قد وجدت في النهاية الكنز الذي كانت تبحث عنه؛ حقاً إن (المرأة الصالحة كنز).

 

أحبتي في الله .. قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، فالسَكينة والمودة والرحمة من أسباب السعادة، التي تعم الأسرة حينما تكون الزوجة صالحةً. وصفات الزوجة الصالحة مذكورةٌ في الآية الكريمة: ﴿عَسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدِلَهُ أَزواجًا خَيرًا مِنكُنَّ مُسلِماتٍ مُؤمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ﴾، يقول المفسرون: مُسْلِمَاتٍ أي مسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله، مُؤْمِنَاتٍ أي مصدّقاتٍ بما أُمرن به ونُهين عنه، قَانِتَاتٍ أي مطيعاتٍ لله، تَائِبَاتٍ أي راجعاتٍ من ذنوبهن إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته، عَابِدَاتٍ أي متذللاتٍ لله بطاعته، وسَائِحَاتٍ أي صائماتٍ {وقيل مهاجرات}.

أما الآية الكريمة: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ فيقول المفسرون: فَالصَّالِحَاتُ أي اللاتي يعملن بالخير، قَانِتَاتٌ أي مطيعاتٌ لله ولأزواجهن، حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أي حافظاتٌ لأنفسهن -عند غيبة أزواجهن عنهن- وأموال أزواجهن، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما اسْتَفادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوى اللَّهِ خَيْراً لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صالِحةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْها أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ في نَفْسِهَا وَمالِهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَزَقَهُ اللهُ امْرَأةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَىٰ شَطْرِ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي الْشَّطْرِ الْثَانِي]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]. فالمرأة الموصوفة بالصلاح تكون عوناً على أعظم أمرٍ يهم المسلمَ ألا وهو الدين؛ فالدنيا متاعٌ زائلٌ، وخير ما فيها من هذا المتاع المرأة الصالحة؛ لأنها تُسعد صاحبها في الدنيا، وتُعينه على أمر الآخرة، التي هي خيرٌ وأبقى. وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: [أَلاَ أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ؛ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ]، قال شُرَّاح الحديث إنه لما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أنه لا حرج عليهم في جمع المال وكنزه ما داموا يؤدون الزكاة، ورأى استبشارهم بذلك، رغَّبهم عنه إلى ما هو خيرٌ وأبقى وهي المرأة الصالحة، فإن الذهب لا ينفعك إلا بعد ذهابه عنك، أما المرأة الصالحة فهي -ما دامت معك- تكون رفيقتك تنظر إليها فتسرك، وتقضي عند الحاجة إليها وطرك، وتشاورها فيما يعِّن لك فتحفظ عليك سرك، وإذا أمرتها تطيع أمرك، وإذا غبتَ عنها تحمي مالك وترعى عيالك.

 

يقول أهل العلم إنَّ تَوَسُّم صلاحِ الزوجة لا بد أن يتمثل في جميع جوانب الحياة؛ فهي التي تحفظ نفسها وعِرضها في حضور زوجها وغيابه، وهي التي تتحلى بالخلق الحسن والأدب الرفيع، تتحلى بالطِيبة والنقاء والصفاء، وتتزين بحسن الخطاب ولطف المعاملة، وتتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجدال والمِراء والكبرياء. وخير النساء التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا حُرمت صبرت، تسُّر زوجها إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها. وهي التي تحافظ على صلتها بربها، وتسعى دوماً إلى رفع رصيدها من الإيمان والتقوى، فلا تترك فرضاً، وتحرص على شيءٍ من النفل، وتُقدم رضى الله سبحانه على رضى مَن سواه؛

وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].

والمرأة الصالحة هي التي ترى فيها مربيةً صادقةً لأبنائك، تعلمهم الإسلام والخُلق والقرآن، وتغرس فيهم حب الله وحب رسوله وحب الخير للناس، ولا يكون همُّها من دنياهم فقط أن يبلغوا مراتب الجاه والمال، بل مراتب التقوى والديانة والخلق والعلم.

وبجانب ذلك كله، ينبغي أن يختار المسلم الزوجة التي تسكُنُ نفسُه برؤيتها، ويَرضى قلبُه بحضورها، فتملأُ عليه منزله ودنياه سعةً وفرحاً وسروراً؛ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النِّسَاءِ خَيرٌ؟ قال: [التِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِليهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَر، وَلا تُخَالِفُهُ فِي نَفسِهَا وَلا فِي مَالِهِ بِمَا يَكرَهُ].

 

يقول الشاعر:

سعادةُ المرءِ في خمسٍ إذا اجتمعتْ

صلاحِ جيرانه والبِر في ولدِه

وزوجةٍ حسُنتْ أخلاقُها

وكذا خِلٌّ وفيٌّ ورِزقُ المرءِ في بلدِه

 

ولأنه بِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأشْياءُ؛ فإنه مما قالت العرب: يُكره نِكاح الحنانة والمنانة والأنانة والحداقة والبراقة والشداقة والممراضة. فالحنانة شديدة الحنين إلى بيت أبيها أو لها ولدٌ تحن إليه، والمنانة التي تمن على الزوج بما تفعله، والأنانة كثيرة الأنين، والحداقة التي تحدق وتنظر إلى ما في يد غيرها وتكلف زوجها بأن يأتي لها بمثله، والبراقة التي تشتغل غالب أوقاتها ببريق وجهها وتزيينه، والشداقة كثيرة الكلام، والممراضة التي تتمارض غالب أوقاتها من غير مرض.

 

أحبتي .. (المرأة الصالحة كنز) حافظوا عليه، واعتنوا به؛ فكما تتعهدون أموالكم وتعتنون بها وتحافظون عليها وتخافون عليها من الضياع، تعهدوا أزواجكم بالرعاية، والمعاملة الحسنة، ولطف المعاشرة، والوجه الطلق، والكرم، والمعاونة. بهذا ينعم البيت المسلم بالسعادة لتوفر شروطها من سَكِينةٍ ومودةٍ ورحمة. ولا تنسوا أحبتي دوركم الهام في إعداد بناتكم ليكُنَّ كنوز المستقبل، بصلاحهن.

أدام الله علينا وعليكم السعادة الزوجية، ومتعنا وإياكم بالسلام العائلي.

اللهم ارضَ عنا، وأصلح أحوالنا، وبارك لنا في أزواجنا. ويسِّر اللهم لكل مسلمٍ لم يتزوج طريق الخير، وساعده على حُسن اختيار الزوجة الصالحة، فهي كنزٌ له تُعِينه على دينه ودنياه، وتشاركه ورعه وتقواه.

 

https://bit.ly/2AkaJkG