الجمعة، 23 يونيو 2023

القرآن المُذهل

 

خاطرة الجمعة /401

الجمعة 23 يونيو 2023م

(القرآن المُذهل)

 

قبل حوالي 45 عاماً اشترك أحد قساوسة النصارى في مُناظرةٍ عن الإسلام والمسيحية مع داعيةٍ إسلاميٍ شهير، وكان منطق هذا القسيس قوياً وحُجته حاضرةً، وغلب بحثه عن الحقيقة على تعصبه لدينه، حتى إن عدداً من الشباب المُسلم الذي حضر المُناظرة، تمنوا أن لو أسلم هذا الرجل. كان ذلك الرجل هو الدكتور جاري ميلر، المُبشر الكندي النشيط، وأُستاذ الرياضيات والمنطق في جامعة تورنتو بكندا، بدأ حياته قسيساً، وكان كثير التهجم على الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم.

بعد تلك المُناظرة زاره شابٌ مُسلمٌ وأهداه ترجمةً لمعاني القُرآن الكريم، وقال له: "أنت تُهاجم القُرآن الكريم رغم أنك لم تطلع عليه من قبل، اقرأه ثم هاجمه إذا أردتَ بعد ذلك". قرر الدكتور ميلر أن يقرأ القُرآن ليُقدم خدمةً جليلةً للمسيحية بالكشف عن الأخطاء العلمية والتاريخية فيه، بما يُفيده وزملاءه المُبشرين عند الدعوة للمسيحية. عكف على قراءة المُصحف عكوف العدو للعدو. قرأ ميلر حتى وصل إلى سورة الناس، ولم يجد خطأً واحداً، وقال إن ما هزّه من الأعماق هو الآية الكريمة: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾؛ فتوسُع الكون هو كشفٌ حديثٌ جداً لم يُدركه العُلماء إلا في الثُلث الأول من القرن العشرين، فكيف للرسول الكريم أن يُدركه في ذلك العصر وأن يعرف تلك الحقيقة إن لم يكن موصولاً بالوحي ومُعلَماً من قِبَل الخالق جلَّ وعلا؟

دخل ميلر الحلبة مُتحدياً وخرج منها مُنبهراً بما وجده، دخل بمنطق تصيد الأخطاء وفضحها، لكن غلب عليه الإنصاف فخرجت دراسته وتعليقاته أفضل مما يُمكن أن يكتبه مُعظم المُسلمين عن القُرآن الكريم.

وكانت المفاجأة عام 1978م حين أشهر الدكتور ميلر إسلامه واتخذ اسم عبد الأحد عمر، وعمل لسنواتٍ في جامعة البترول والمعادن بالسُعودية قبل أن يتفرغ تماماً للدعوة للإسلام وتقديم البرامج التليفزيونية والإذاعية والمحاضرات العامة التي تعرض الإسلام عقيدةً وشريعة.

 

أحبتي في الله.. يقول الدكتور عبد الأحد عمر إنه أخذ يقرأ القُرآن بتمعُّنٍ لعله يجد ما يؤخذ عليه، ولكنه صُعق بآيةٍ عظيمةٍ وعجيبةٍ ألا وهي: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. يقول عن هذه الآية: "من المبادئ العلمية المعروفة في الوقت الحاضر مبدأ "تقصِّي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها"، لكن العجيب أن القُرآن يدعو المُسلمين وغير المُسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه، ولن يجدوا. لا يوجد مؤلِفٌ في العالَم يمتلك الجرأة ليؤلِّف كتاباً ثم يقول: "هذا الكتاب خالٍ من الأخطاء"، ولكن القُرآن على العكس تماماً يقول لك: "لا توجد أخطاء".

-وكان مما أذهله صيغة التحدي التي برزت في مواضع كثيرةٍ مثل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾، ثم زاد التحدي؛ فقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، ثم زاد أكثر وأكثر؛ فقال سُبحانه: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، رغم أن العرب كانوا أهل فصاحةٍ وبلاغة.

-توقف عبد الأحد عمر عند قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾، مُشيراً إلى التجربة التي أجراها أحد الباحثين في جامعة تورنتو عن "فعالية المُناقشة الجماعية"، وجمع فيها أعداداً مُختلفةً من المُناقشين، وقارن النتائج؛ فاكتشف أن أقصى فعاليةٍ للنقاش عندما يكون عدد المُتحاورين اثنين، وأن الفعالية تقل كلما زاد هذا العدد.

-ومن الآيات التي وقف الدكتور عبد الأحد عمر عندها طويلاً آية: ﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ يقول: إن هذه الآية هي بالضبط البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل عام 1973م، وكان عن نظرية الانفجار الكبير، وهي تنصُّ على أن الكون الموجود هو نتيجة انفجارٍ ضخمٍ حدث منه الكون بما فيه من سماواتٍ وكواكب، فالرتق هو الشيء المُتماسك، في حين أن الفتق هو الشيء المُتفكك! أما عن الجُزء الأخير من الآية، وهو الكلام عن الماء كمصدرٍ للحياة، فيقول الدكتور عبد الأحد عمر: "إن هذا الأمر من العجائب؛ حيث أن العلم الحديث أثبت مؤخراً أن الخلية تتكون من السيتوبلازم الذي يمثل 80٪ منها، والسيتوبلازم مكونٌ بشكلٍ أساسيٍ من الماء، فكيف لرجلٍ أُمِّيٍّ عاش قبل 1400 سنة أن يعلم كل هذا لولا أنه متصلٌ بالوحي من السماء؟!

بعد ذلك، كتب عبد الأحد عمر كتاباً بعنوان (القرآن المُذهل) كان بوابةً للعديد من غير المُسلمين للدخول إلى الإسلام، وفيما يلي بعضٌ مما ورد في ذلك الكتاب:

- لا يستعرض القُرآن الأحداث العصيبة التي مرت بالنبي –صلى الله عليه وسلم– مثل وفاة زوجته خديجة أو وفاة أبنائه وبناته، بل الأغرب أن الآيات التي نزلت تعقيباً على بعض النكسات في طريق الدعوة كانت تُبشر بالنصر، وتلك التي نزلت تعقيباً على الانتصارات كانت تدعو إلى عدم الاغترار والمزيد من التضحيات والعطاء. لو كان أحدٌ يُؤرخ لسيرته لعظَّم من شأن الانتصارات، وبرَّر الهزائم، ولكن القُرآن فعل العكس تماماً، لأنه لا يؤرخ لفترةٍ تاريخيةٍ بقدر ما يضع القواعد العامة للعلاقة مع الله والآخرين.

- هناك سورةٌ كاملةٌ في القُرآن تُسمى "سورة مريم"، وفيها تشريفٌ لمريم عليها السلام بما لا مثيل له في الكتاب المُقدس للنصارى، بينما لا توجد في القُرآن سورةٌ باسم عائشة أو فاطمة أو خديجة.

-وذُكر عيسى عليه السلام بالاسم 25 مرةً في القُرآن، في حين أن النبي مُحمد -صلى الله عليه وسلم- لم يُذكر إلا 5 مراتٍ فقط.

-الشيء المُذهل في أمر النبي مُحمد -صلى الله عليه وسلم- هو الادعاء بأن الشياطين هي التي تُعينه، والله تعالى يقول: ﴿مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ ويقول: ﴿فإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾؛ فهل هذه طريقة الشيطان في كتابة أي كتاب؟ يؤلف كتاباً ثم يقول "لا أستطيع أن أؤلفه"، بل ويقول: "قبل أن تقرأ هذا الكتاب يجب عليك أن تتعوذ مني؟!"

- وإذا كنتَ في موقف الرسول –صلى الله عليه وسلم– هو وأبو بكر مُحاصريْن في الغار، بحيث لو نظر أحد المُشركين تحت قدميه لرآهما، ألن يكون الرد الطبيعي على خوف أبي بكر هو من مثل: "دعنا نبحث عن بابٍ خلفي"، أو "اصمت تماماً كي لا يسمعك أحد"، ولكن الرسول –صلى الله عليه وسلم– قال بهدوءٍ: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ بمعنى أن الله معنا ولن يُضيّعنا، هل هذه عقلية كذابٍ أو مُخادعٍ، أم عقلية نبيٍ ورسولٍ يثق بعناية الله له؟

- وعن إعجازٍ آخر؛ يقول عبد الأحد عمر: نزلت سورة المَسَد قبل وفاة أبي لهب بعشر سنواتٍ، وكانت أمامه 365 يوماً× 10 سنوات= أي 3650 فرصةً لإثبات أن هذا الكتاب وَهْمٌ لو أنه أعلن إسلامه ولو بالتظاهر، لكنه لم يفعل ومات كافراً، وظلت الآيات تُتلى حتى اليوم. كيف يكون الرسول واثقاً خلال عشر سنواتٍ أن ما لديه حقٌ، لو لم يكن يعلم أنه وحيٌ من الله؟

- وحول قوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا﴾ تعقيباً على بعض القصص القُرآني، يقول عبد الأحد عمر: "لا يوجد كتابٌ من الكُتب الدينية المُقدسة يتكلم بهذا الأسلوب، القُرآن يمد القارئ بالمعلومة ثم يقول له هذه معلومةٌ جديدةٌ! هذا تحدٍ لا مثيل له؟ ماذا لو كذَّبه أهل مكة –ولو بالادعاء– فقالوا: "كذبتَ؛ كنا نعرف هذا من قبل؟"، ماذا لو كذَّبه أحد الباحثين بعد ذلك مُدعياً أن هذه المعلومات كانت معروفةً من قبل؟ ولكن كل ذلك لم يحدث.

 

بعد كتابه (القرآن المُذهل) قام الدكتور عبد الأحد عمر بإصدار عددٍ من المُؤلفات عن الإسلام؛ مثل: "الفرق بين القُرآن والكتاب المُقدس"، و"نظرةٌ إسلاميةٌ لأساليب المُبشرين". وقد أسلم على يديه الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، واستفاد الكثير من الدُعاة من أسلوبه وخبراته.

 

أحبتي.. لن أُطيل؛ أود فقط أن أُشير إلى أمرين: الأول- إيجابية تصرف الشاب المُسلم الذي أهدى الدكتور عبد الأحد عمر ترجمةً لمعاني القُرآن الكريم. والثاني- هو الالتزام بالموضوعية، ولو مع الخصوم، والتفكير بتجردٍ بحثاً عن الحقيقة، ثم شجاعة التنازل عن الأفكار والمعتقدات الخاطئة مهما طالت مدة الإيمان بها، ثم التحول الإيجابي النشط لتعريف الآخرين بالحقيقة وعدم تركهم فريسةً للأفكار والمُعتقدات التي ثبت عدم صحتها، وهذا بالضبط ما فعله أخونا في الله عبد الأحد عمر، جاري ميلر سابقاً، لم يكتفِ بوصوله للحقيقة وإسلامه وإنما وضع ما توصل إليه في كُتبٍ كان أولها كتاب (القرآن المُذهل)، وفي محاضراتٍ ولقاءاتٍ صحفيةٍ وبرامج إذاعيةٍ وتلڤزيونية.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

واعذروني على الإطالة.

https://bit.ly/46gPJpr