الجمعة، 25 أغسطس 2023

الأرواح جنودٌ مجندة

 خاطرة الجمعة /410

الجمعة 25 أغسطس 2023م

(الأرواح جنودٌ مجندة)

 

يقول أحد رجال الدعوة الأردنيين إن المواقف النادرة العجيبة في حياة الإنسان تقل وتكثر بحسب حياته من إقامةٍ وترحالٍ وكثرة معارف وقِلتها، ولعل الموقف التالي هو أعجب موقفٍ لي في حياتي، وتفصيله كما يلي: في عُمرة هذا العام، دُعيتُ إلى عشاءٍ عند بعض الإخوة، وبينما كنتُ أهمُّ بالخروج من الحرم لإجابة الدعوة، إذ بي أُخبَر أن ولديَّ قد وصلا للتو إلى «مكة المكرمة»؛ فأخَّرتُ ذهابي لتلبية الدعوة حتى آخذهما معي أو أطمئن عليهما على الأقل، لكن الصعود إلى سطح الحرم -حيث علمتُ أنهما هناك– كان صعباً للغاية بسبب نزول الآلاف على السُلم الكهربائي؛ فانتقلتُ إلى سُلَّمٍ آخر –لعلي آتيه لأول مرةٍ– وإذ يتكرر الأمر نفسه، فالناس في نزولٍ وأنا أريد الصعود به! فلم يكن لي من بُدٍ إلا الانتظار حتى ينتهي الناس من النزول فيُفتَح أمامي طريق الصعود.

في هذه الأثناء كنتُ على باب الحرم أتأمل وجوه بعض النازلين لعل فيهم من أعرفه فأُسلّم عليه، ولعل فيهم من يذكرني فيُسلّم عليَّ هو. وكان من ضمن النازلين أخٌ أول ما وقعت عليه عيناي وقع في قلبي شعورٌ عجيبٌ وميلٌ له غريبٌ، فأنا لا أعرفه ولم يخطر ببالي أنه يعرفني، لكن تمنيتُ أن الأمر عكس ذلك، وتمنيتُ لو أُصافحه أو أُعانقه، وصرتُ أتأمله وهو نازلٌ على السُلّم حتى مرَّ بجانبي، فلم أكتفِ بذلك بل نظرتُ إليه عندما صار خلفي، فنظر هو إليّ كذلك وتبسمنا، فقلتُ في نفسي: "سبحان الله وددتُ لو أنه كان من إخواني، أو توقف لأتعرف عليه، لكنه ذهب وقد يكون ذهابه إلى غير رجعة". ووقتها –أي وأنا أخاطب نفسي– إذ برجلٍّ من خلفي يُسلِّم عليَّ، فالتفتُ فإذا هو هو! ففرحتُ فرحاً شديداً، لكنني صُدمت عندما سألني: "أنت فلانٌ الفلاني؟!"، ضحكتُ من قلبي وقلت: "نعم!"، فلم يصدِّق؛ فقال: "أبو فلان؟"، قلتُ: "نعم"، فالتزمني وعانقني، وفرحتُ لهذا فرحاً عظيماً، فقال لي: "أنا فلان!" فعجبتُ جداً وعانقته ثانيةً! وسألته: "أأنت فلان؟"، قال: "نعم"، قلتُ: "سبحان الذي جمَّعنا هنا، كيف عرفتني؟ هل تعرف وصفي؟ هل أخبرك أحدٌ بوجودي هنا؟"، قال: "لا"، قلتُ له: "كيف عرفتني إذن؟"، قال: "لما كنتُ نازلاً على السُلم وقعت عيناي عليك، فوقع في قلبي أنك أنت فلانٌ الفلاني؛ فذهبتُ ومررتُ بجانبك، وقلتُ: لعله ليس هو، وما أدراني أنه هو ولستُ أعرف أوصافه؟ فذهبتُ للدخول للحرم فإذا به بابٌ خاصٌ بالنساء! فمنعني الحرس من الدخول، فهممتُ بالدخول من بابٍ آخر، فقلتُ: لن أخسر شيئاً، لِمَ لا أسأل الأخ هل أنت فلانٌ أم لا؟، فجئتُ فسألتك، فتبين لي أنك هو!". لم أملك نفسي من شدة تعجبها، وبقيتُ مذهولاً من هذا الموقف؛ فقلتُ له: "ما أجرأك على السؤال! إن احتمال أن أكون أنا من ظننتَ لا يتجاوز نصف بالمليون فكيف تجرأتَ على السؤال؟".

الحقيقة: أن هذا من أعجب المواقف التي مرت بي في حياتي، ومن عظيم قدر الله، والأعجب أنني أخبرته بمكاننا في الحرم فضيعنا على مدى يومين، ثم لقينا في اليوم الثالث! فالحمد لله الذي جعل القلوب شواهد، وصدق من قال: (الأرواح جنودٌ مجندة)، والحمد لله رب العالمين على الأُخوَّة والمحبة التي رزقنا إياها، وفرحتنا بلقاء الإخوة وتعرفنا عليهم من أعظم ما حصل لنا ووفقنا الله له هذا العام.

 

أحبتي في الله.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [..الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ]. وقال شُرّاح الأحاديث: إن الحديث الشريف يُشير إلى معنى التشاكل في الخير والشر، وفي الصلاح والفساد، وأن الخيِّر من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره؛ فتعارُف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جُبلت عليها من خيرٍ وشرٍ؛ فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت.

ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا﴾، قال العلماء إن الله سُبحانه وتعالى جعل الرجل يسكن إلى امرأته لأنها من جنسه وجوهره، والسكون هنا معناه الحُب؛ لأنها منه، ويدل ذلك على أن السبب في هذا السكون ليس الشكل الحسن أو التوافق في الهدف أو الخُلُق أو الإرادة، بالرغم من أن هذه أيضاً من أسباب التوافق، ولكن التوافق في الأصل سببه الأرواح التي خلقها الله تعالى.

وذلك يكون في يوم القيامة أيضاً وليس فقط في الحياة الدنيا فقط؛ يقول تعالى: ﴿احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ وقيل إن أزواجهم أتت بمعنى "أشباهُهم ونُظراؤهم".

 

ويقول المختصون إن تجاذب الأرواح من أسمى وأرقى العلاقات الإنسانية، لأن الوجوه والأشكال تتكرر، أما الأرواح فلا تتكرر، فعالم الأرواح يتعدى الشكليات والماديات حيث التجانس في الطباع الباطنة والأخلاق الخفية يورث تجاذب الأرواح، وهذا ما يُسمى بالتخاطر العاطفي أو تجاذب الأرواح. والطبيعة شاهدةٌ من حولنا على التوافق والتنافر، وعلى أنَّ (الأرواح جنودٌ مجندة) ولها قدرةٌ على التخاطر وإدراك خبايا الأنفس، وأثرها عميقٌ بعمق تجاذب تلك الأرواح. إن التوافق بين إنسانٍ وآخر لا يكون بسبب توافقٍ عُمريٍ ولا جنسيٍ ولا لونيٍ أو بطول العشرة ولا بالرفقة المستمرة، ولكنه سرٌ من أسرار التوافق الروحي. إنَّ تآلف الأرواح وتنافرها ظاهرةٌ غريزيةٌ فطريةٌ بعيدةٌ عن الحواس الطبيعية الخمس. وتجاذب الأرواح أمرٌ لا إرادي و(الأرواح جنودٌ مجندة) حتى أنه قيل: "نحن لا نحب حين نختار، ولا نختار حين نحب".

وقال الشاعر:

إِنَّ القُلوبَ لَأَجنادٌ مُجَنَّدَةٌ

لِلَّهِ في الأَرضِ بِالأَهواءِ تَختَلِفُ

فَما تَعارَفَ مِنها فَهوَ مُؤتَلِفٌ

وَما تَناكَرَ مِنها فَهوَ مُختَلِفُ

 

وقريباً من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: [المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ]، أي: أن المرء يشابه صديقه وصاحبه في سيرته وعادته؛ فهو مؤثرٌ في الأخلاق والسلوك والتصرفات؛ ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حُسن اختيار الصديق.

وقال عليه الصلاة والسلام: [لا تصاحِبْ إلَّا مُؤمنًا]. أي: لا تتخذ صاحباً ولا صديقاً إلا من المؤمنين؛ لأن المؤمن يدل صديقه على الإيمان والهُدى والخير، ويكون عوناً لصاحبه، وفي الحديث حثٌ على انتقاء الأصحاب والأصدقاء من الأتقياء المؤمنين.

 

أحبتي.. كم من مرةٍ تأخذنا أقدارنا لنتقابل مع أشخاصٍ لا نعرفهم، ربما نلتقي بهم لأول مرةٍ، لكن روحنا تتجانس معهم، نُحس بما يُحسون ونستشعر ما يستشعرون؛ وكأن هناك رابطاً بين أحاسيسنا، كما لو كنا نعرفهم منذ زمنٍ بعيد. كما يحدث العكس أحياناً؛ فنحس مع آخرين بالنفور بغير سببٍ واضح. فلنبقِ على مشاعرنا كما هي، ولا نحاول جاهدين أن نُغيِّرها؛ فالحياة مع المحافظة على فطرتنا سليمةً نقيةً لها طعمٌ مختلفٌ يُشعرنا بالسعادة الحقيقية. وليُحسن كلٌ منا اختيار أصدقائه، ويهتم بإرشاد أبنائه إلى حُسن اختيار من يصاحبون؛ فالصاحب ساحب، إما إلى خيرٍ ورشادٍ أو إلى شرٍ وفساد.

اللهم اجمع بيننا وبين من تُحبه أرواحنا وتألف له، وباعد بيننا وبين من لا ترتاح أرواحنا له وتنفر منه، وقوِ اللهم بصائرنا لنرى بها ما قد لا تراه عيوننا؛ إنك أنت سبحانك اللطيف الخبير.

 

https://bit.ly/3KXe0rs