الجمعة، 11 أكتوبر 2019

الراحمون يرحمهم الرحمن


الجمعة 11 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٨
(الراحمون يرحمهم الرحمن)

كتب على واحدٍ من مواقع التواصل الاجتماعي يقول إن أحد أصدقائه كان قد اتفق مع نجارٍ على تنفيذ عملٍ معينٍ بقيمة اثني عشر ألف جنيه، دفع له نصفهم كعربونٍ ليشتري به النجار الأخشاب والخامات المطلوبة ويبدأ في إنجاز العمل المطلوب. وكان موعد تسليم العمل واستلام باقي المبلغ المتفق عليه بعد أسبوعين. مر أسبوعان، وكلما اتصل الرجل بالنجار وجد هاتفه مغلقاً، فقرر أن يذهب إليه في منزله. أخذ معه باقي المبلغ وقيمته ستة آلاف جنيه، وذهب إلى منزل النجار كي يتسلم العمل الذي طلب تنفيذه ويعطي النجار ما تبقى له من إجمالي الثمن المتفق عليه، أو أن يجده لم يبدأ العمل بعد فيسترد منه ما سبق أن دفعه له كعربون. وصل إلى بيت النجار ودق الجرس ففتحت له الباب طفلةٌ صغيرةٌ سألها: "أين والدك؟"، أجابته الطفلة ببراءة: "أبي سافر عند ربنا"، صُدم الرجل لما سمع ذلك، وطلب من الطفلة أنتخبر أمها أن شخصاً بالباب يسأل عن والدها. ذهبت الطفلة وعادت معها أمها؛ سيدةٌ ترتدي ثياباً سوداء ويظهر الحزن على ملامحها، ولاحظ الرجل من خلفها بيتاً بسيطاً متواضعاً شبه خالٍ من الأثاث، سألته السيدة: "خير يا أستاذ؟"، قال لها: "يوجد اتفاق عملٍ بيني وبين زوجك، هل هو تُوفي؟"، قالت: "نعم، تُوفي من أسبوع، الله يرحمه، إذا لك ديْنٌ في ذمته أرجو أن تصبر علينا شهراً حتى أتمكن من بيع ما تبقى من أثاث البيت أو أقترض؛ اطمئن حقك لن يضيع"، سكت للحظة، ونظر إلى البنت الصغيرة وإلى أمها وهي تحمل رضيعاً على ذراعيها ثم قال: "لا، ليس الأمر كذلك؛ زوجك الله يرحمه كان قد انتهى من إنجاز عملٍ طلبتُه منه، وله عندي ستة آلاف جنيه"، وأعطى السيدة المبلغ فتفاجأت وحاولت رد المبلغ وقالت له: "لكن المرحوم كان ..."، قاطعها قائلاً: "صدقيني أنا تسلمت ما طلبتُه كاملاً، وهذا باقي الحساب"، وأعاد المبلغ إلى يدها وخرج مسرعاً وهو يردد: "رحمه الله وجعل مثواه الجنة".

ومن المواقف الواقعية المؤثرة هذا الموقف الذي يحكيه أحدهم؛ إذ كتب يقول: دخلتُ إلى إحدى الصيدليات لشراء مرهمٍ لعيني، وأثناء بحث الصيدلي لي عن المرهم كان صاحب الصيدلية واقفاً يستقبل الناس الذين يدخلون إلى الصيدلية لشراء أدوية، حين دخل رجلٌ كبيرٌ في السن أخرج وصفةً طبيةً نظر إليها صاحب الصيدلية وسأل الرجل: "تريدها علباً أم شرائط يا حاج"، رد الرجل متسائلاً: " كم ثمن الشرائط؟"، أجابه: "٣٧٥ جنيه"، مد الرجل يده وسحب الوصفة الطبية من يد صاحب الصيدلية وهَمَّ بالخروج. لاحظتُ وقتها أن صاحب الصيدلية نظر إلى المحاسِبة التي تستلم أثمان الأدوية نظرةً خاصةً لم أفهمها وقتها، لكني وجدتُها تقول بصوتٍ عالٍ وهي تشير إلى الرجل المسن قبل أن يغادر الصيدلية: "الحاج هو العميل رقم ٥٠٠٠؛ كسب من الصيدلية علاجاً بقيمة ألف جنيه"، أكد صاحب الصيدلية ما قالته المحاسبة للتو وخاطب الرجل قائلاً: "مبروك يا حاج! لك عندنا علاج بألف جنيه تستطيع أن تصرفه في أي وقت؛ ستحصل على جميع الأدوية التي بالوصفة الطبية علباً بقيمة ٧٥٠ جنيه ويتبقى لك عندنا٢٥٠ جنيه تشتري بهم أية أدوية أخرى أو تتسلمهم نقداً، كما تحب". سجد الرجل شكراً لله، ثم قال: "فقط أعطوني علاج ابنتي فاطمة، ولستُ بحاجةٍ إلى أية نقود"!

أحبتي في الله .. إنها الرحمة، هي التي حركت مشاعر هذا الصنف من الناس ففعلوا ما فعلوا.
يقول العلماء إن الرحمة معناها في اللغة الرأفة واللين والعطف، وهي من صفات الله سبحانه وتعالى التي ينبغي للعبد أن يتخلق بها، وقد وصف الله عزَّ وجلَّ بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ خلقَ الرَّحمةَ يومَ خلقَها مائةَ رحمةٍ، أنزلَ منْها رحمةً واحدةً فبِها يتراحمُ الخلقُ حتَّى إنَّ الدَّابَّةَ لترفعُ حافرَها عن ولدِها من تلكَ الرَّحمةِ، واحتبسَ عندَهُ تسعًا وتسعينَ رحمةً، فإذا كانَ يومُ القيامةِ جمعَ هذِهِ إلى تلكَ فرحِمَ بِها عبادَهُ].
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ]، يقول أهل العلم: قوله "الراحمون" لمن في الأرض من إنسانٍ وحيوانٍ، "يرحمهم الرحمن" أي يُحسن إليهم ويتفضل عليهم. "ارحموا مَن في الأرض" أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البَر والفاجر، والناطق وغير الناطق، والوحوش والطير. "يرحمكم من في السماء" تتنزل عليكم رحمات الله عزَّ وجلَّ. ويقولون إن أكثر ما يحتاج إليه الناس هو التراحم فيما بينهم، فالرحمة والتراحم أجمل شيءٍ في الحياة، لو دخلت قلوبنا وأدخلناها في حياتنا وبيوتنا صلُحت أمورنا كُلّها، وعشنا أسعد حياة. والتراحم هو وصفٌ للمجتمع المسلم، وصف الله به أهل الإيمان فقال عنهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم﴾. كما أنَّ فيه نجاةً من الهموم والمصائب والأزمات، وملجأً من الغموم والفتن والنكبات، فمَن أنعَمَ الله عليه به فإن ينابيع السعادة والطمأنينة تتفجر في نفسه؛ فيكون رحيم القلب. والرحيم هو أحب الناس إلى الناس، وهو أولاهم برحمة الله، وأحقهم بالجنة، لأن الجنّة لا يدخلها إلّا الرّاحمون.
ودين الإسلام دين الرحمة، وهو قائمٌ كله على طاعة الحق والإحسان إلى الخلق، فمن كان بالدين أعلم، كان بالخَلق أرحم، ومن كان للدين أعرف، كان بالخَلق ألطف. قال أحد العلماء: "الدين كله يدور على الإخلاص للحق، ورحمة الخلق". وقال آخر: "مجامع الطاعات: تعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله". وقال غيرهما: "من أحب أن يلحق بدرجة الأبرار ويتشبه بالأخيار، فَلْيَنوِ كل يومٍ تطلع فيه الشمس نفع الخلق".
ورحمة الخلق جميعاً ـ بشراً أو حيواناتٍ ـ من أعظم أسباب المغفرة، فقد غفر الله لبغيٍ سقت كلباً، وغفر الله لرجلٍ رأى كلباً يلهث من العطش فرَّق له فسقاه، فإذا كان هذا مع الحيوان، فكيف بالإنسان، وكيف برحمة الضعيف، وإغاثة الملهوف، ونُصرة المظلوم، والتفريج عن المكروب والمهموم والمغموم؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]، وصدق حين قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
كتب عالِمٌ نصيحةً طيبةً قال فيها: ما أجمل أن يصبح الخير فيك سجيةً وطبعاً، فتجد نفسك تُحسن وتفعل الخير تلقائياً وأنت في أحرج الظروف، لأنك تعودت ألا تعيش لنفسك بل تعيش للناس ولخدمة دينك. ألم تر أن الله تعالى امتدح من يُؤثِر إخوانه على نفسه رغم فقره فقال في الأنصار: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، يعانون من بلاء الفقر ومع ذلك يُحسنون. ألم تر إلى قول النبي: [مَن نَفَّسَ عَن مُؤمِنٍ كُربة مِن كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربة مِن كُرَبِ يَومِ القيامة، ومَن يَسَّرَ عَلَى مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليْه في الدُّنيا والآخِرة، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرة، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كانَ العَبدُ في عَونِ أخيهِ].
ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، وحينئذ تغشاك رحمةٌ واسعةٌ من المولى عزَّ وجلَّ: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾.
وفي الحَديثِ: أنَّهُ - علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قالَ: [لا تُنزَعُ الرَّحمة إلا مِن شَقي]، وقال أيضاً: [مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ].
وللرحمة صورٌ كثيرةٌ منها إنظار المعسر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن رجُلًا لم يعمَلْ خيرًا قطُّ، وكان يُدايِنُ النَّاسَ فيقولُ لرسولِه: خُذْ ما تيسَّر واترُكْ ما تعسَّر وتجاوَزْ لعلَّ اللهَ يتجاوَزُ عنَّا، قال: فلمَّا هلَك قال اللهُ: هل عمِلْتَ خيرًا قطُّ؟ قال: لا.. إلَّا أنَّه كان لي غلامٌ وكُنْتُ أُدايِنُ النَّاسَ، فإذا بعَثْتُه ليتقاضى قُلْتُ له: خُذْ ما تيسَّر واترُكْ ما تعسَّر وتجاوَزْ لعلَّ اللهَ يتجاوَزُ عنَّا. قال اللهُ تعالى: قد تجاوَزْتُ عنك].
يقول الشاعر:
هـذا النـبيُ رؤوفُ قلـبٍ وصـفُـه
قـد كانَ يرحـمُ من يـراه يُقاسـي
خذها نصيحةَ صادقٍ في نصحِه
إن الذي يرجـو الجِنـانَ يُواسـي
فَرْقُ الغليـظِ عن الرحـيمِ عرفتُهُ
لا يســتوي تــربٌ مـع الألمـاسِ

أحبتي .. راق لي ما كتبه أحد العلماء حيث قال: كُن رحيماً مع جميع الخلق، لطيفاً مع كل عباد الله، وإن لم تستطع نفع إنسانٍ فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، وإن لم تقف معه فلا تُعن عليه، وإن لم تفرح بنعمته فلا تحسده، وإن لم تمنحه الأمل فلا تحبطه. لا تكن جاف المشاعر، بخيل اليد، قاسي القلب، ولكن كُن رحيماً فـ(الراحمون يرحمهم الرحمن).
اللهم اجعلنا متراحمين فيما بيننا، واجعلنا من المحسنين أهل الآية الكريمة: ﴿إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ﴾.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.
http://bit.ly/2M7JGN6